ردود الفعل على الجماعات المتطرفة: بين مقام هارون والمسجد الأقصى

هناك قطعة صغيرة في السيارة هي التي تسمى "البوق" أو "الزامور"، وهي المسؤولة عن إصدار صوت تنبيه السيارة المرتفع الذي قد يزعج شارعاً بأكمله بالرغم من أن حجمها لا يتجاوز في أغلب السيارات اليوم حجم كف اليد. هذا المثال في الحقيقة هو ما يصور حجم وطبيعة أثر الجماعات الدينية المتطرفة في إسرائيل، وخاصة ما يسمى "منظمات المعبد" التي تتحرك بنشاط لإنهاء قضية المسجد الأقصى المبارك لصالح الاحتلال الإسرائيلي وتقسيم المسجد الأقصى مكانياً، بعد أن أصبحت ترى في التقسيم الزماني أمراً واقعاً، بل تراه حقاً لها لا يمكن التراجع عنه.
هذه الجماعات لا تمتلك عدداً كبيراً من الأفراد، حيث لا يتجاوز عدد المنتسبين لها أو المتعاطفين معها الذين يمكن لقادتها الاعتماد عليهم في تنفيذ الخطوات التي يعلنون عنها أكثر من ألفي شخص على أعلى تقدير.
وبالطبع لا يمكننا أن نغفل أن هذا العدد لا يشكّل بين أعداد اليهود الذين يعيشون اليوم في فلسطين (البالغ حوالي 6.5 مليون) نسبةً أكثر من 0.003% فقط! إلا أن هذه النسبة شديدةَ الضآلة تتميز بارتفاع صوتها وأثرها على مجريات الأحداث في مدينة القدس والمنطقة بشكل عام. خاصة وأنها تتمتع بتأييد عدد من الوزراء المهمين وعلى رأسهم وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي المتطرف جلعاد أردان، وعددٍ آخر من وزراء حكومة اليمين المتطرف، كما أن نفوذهم يصل إلى قلب الكنيست الإسرائيلي من خلال العمل من داخل حزب الليكود.
فهذه الجماعات تعرف حجمها الطبيعي، وتعرف أنها لا يمكن أن تقطع فتيلةً لو أسست حزباً مستقلاً، ولذلك لجأت إلى العمل من داخل حزب الليكود الحاكم، وباتت –على صغر حجمها– تشكل كتلةً تمثل أقصى اليمين داخل الحزب، ويتضح ذلك من خلال دراسة عمل وأثر بعض أعضاء هذه الجماعات أصحاب الصوت المرتفع مثل الحاخام المتطرف يهودا غليك وغيره.
المشكلة هنا ليست في حجم هذه الجماعات الصغير أو في طريقة عملها على الأرض داخل دولة الاحتلال الإسرائيلي، وذلك لأنها ترى أنها تعمل لأجل قضية دينية ووطنية مهمة بالنسبة لها. وهي ليست وحدها التي تعمل في هذا الاتجاه، فالأحزاب الدينية اليهودية مثل حزب شاس ويهدوت هاتوراه وغيرها لا تمثل في الحقيقة طموحات سياسية واضحة بقدر ما تحمل أجندات دينية متعلقة بالحفاظ على الطابع الديني المميز للدولة اليهودية –إضافةً لطابعها القومي– والتعامل مع أجندات الإسرائيليين العلمانيين الذين يعتبرون فكرة الصهيونية والقومية اليهودية –لا باعتبارها ديناً– الأساسَ الوحيد الذي يجب أن تقوم عليه دولة الاحتلال، مع ربط ذلك بالقيم الغربية الليبرالية اليوم مثل حقوق المثليين وفصل الدين عن الدولة وغيرها مما ترفضه الأحزاب الدينية بشدة.
إن المشكلة الحقيقية لدينا هنا هي في طريقة تعامل الطرف العربي مع طموحات وتحركات هذه الجماعات المتطرفة. فبدلاً من استغلال الخلافات العميقة التي تثيرها هذه الجماعات داخل المجتمع الصهيوني والمساعدةِ في تحجيمها وتقليلِ أثرها أكثر، نجد أن التعامل العربي الرسمي في غالبه لا يتعامل مع هذه المجموعات بمنطق حجمها الصغير وإنما بمنطق كونها "إسرائيلية"، بمعنى أنه يضفي عليها صبغة الدولة التي تنتمي إليها، وتعطيها نفس حجم الاهتمام الذي تعطيه لأكثرِ شخصية مؤثرةٍ داخل دولة الاحتلال، وهذا المنطق في الحقيقة ضعيفٌ، ويساعد هذه الجماعات لتنمو وتكبير ويعلو صوتها بالرغم من صغر حجمها!
قبل أيام فوجئ الأردنيون بمشاهد انتشرت لعدد من اليهود المتطرفين يؤدون طقوساً دينية داخل مسجد مقام النبي هارون قرب البتراء، مما أثار حفيظة الأردنيين على وسائل التواصل الاجتماعي، نظراً لأن المكان الذي كانت تؤدى فيه هذه الطقوس هو مسجد أثري بني في العهد المملوكي، وبالنظر إلى الضجة الشعبية التي أثيرت في الأردن أعلنت وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية في الأردن عن إغلاق المقام! ومن الطبيعي أن يفهم أي شخص أن إغلاق المقام يعني أنه غير مفتوح للمسلمين كما هو لغيرهم، وردة الفعل هذه لم تكن بالحجم ولا بالشكل الذي يمكن أن يفهم منه الإنسان جديةً في التعامل مع هذه القضية الحساسة.
بالطبع تم فتح المقام بعد عدة أيام، ولكن تصرف الوزارة وردة فعلها لم تعطِ جواباً على نقطة جوهرية أساسية؛ وهي كيفية السماح لهذه المجموعات المتطرفة بدخول المسجد وأداء طقوسها فيه ابتداءً! فهو في السجلات الرسمية الأردنية وفي العرف الشعبي مسجد، ولا يجوز بأي حال من الأحوال تحويل المسجد إلى مكان لأداء طقوس أو شعائر غير إسلامية، وهذا هو مربط الفرس في هذا الأمر.
وبالمناسبة فإن هذا الحدث لم يكن الأول لدخول هذه المجموعات المسجد وأداء طقوسها فيه، فحتى تبرير الوزارة للموضوع أشار إلى أن الصور التي انتشرت على الإنترنت للمتطرفين وهم يؤدون طقوسهم داخل المسجد تعود إلى سنة 2013، مما يعني في الحقيقة أننا أمام اقتحام ممنهج مسكوت عنه لهذا المسجد لمدة ست سنوات على الأقل!
في المقابل، فإن تهديدات ما يسمى "اتحاد منظمات المعبد" غير المسبوقة باقتحام المسجد الأقصى المبارك في أول أيام عيد الأضحى المبارك، ومطالبتها بتأجيل صلاة العيد إلى اليوم الثاني وإغلاق المسجد في وجه المسلمين في ذلك اليوم، لقيت صدىً شعبياً واسعاً في القدس أدى إلى تحرك سليمٍ من الجهات التي تمثل الدوائر الرسمية في القدس، وأعني بذلك مجلس الأوقاف الإسلامية ودائرة الأوقاف الإسلامية، التي أصدرت بياناً بهذا الخصوص بالتشاور مع الهيئة الإسلامية العليا في القدس وقررت إقامة صلاة العيد الساعة 7:30 صباحاً (أي بتأخير الصلاة ساعة واحدة) في نفس موعد الاقتحام المزمع، ودعوة المسلمين إلى البقاء في المسجد الأقصى المبارك المبارك طوال اليوم الأول من أيام العيد، وإصدار فتوى بتأخير الأضاحي إلى اليوم الثاني.
وهذا التساوق الرسمي مع الإرادة الشعبية له أثر كبير في التعامل مع هذه الجماعات المتطرفة. فالرد السليم على هذه الجماعات يكون بإظهار عددها الصغير مقارنةً بالعدد الضخم للمسلمين في القدس وفي المحيط العربي الذي يحيط بفلسطين. فهذا العدد الصغير جداً لا يقوى على أدنى مواجهة شعبية سواء في القدس أو في البتراء أو في أي مكان آخر.
ردان مختلفان، ولذلك تختلف النتائج، فإن بقي الرد الرسمي على أي تطاول من قبل هذه الجماعات الدينية المتطرفة على مقدسات المسلمين خجولاً ولا يتناسب مع حجم الاعتداءات، فإن هذه الجماعات ستنتفخ أكثر وتظن نفسها قادرةً على قلب المعادلة إعلامياً وسياسياً ولاحقاً على الأرض، أما إن تكاتف الرسمي مع الشعبي وأظهر رداً حازماً قوياً على طموحات هذه الجماعات يعرِّي حجمها الحقيقي ويكشف ضعف قوتها أمام الواقع العربي الإسلامي المحيط، بها فإنها ستعرف ضعفها وحجمها الطبيعي، وتلوذ بالصمت وتذوب في كَمَدٍ.