نيران جيوسياسية تشعل العلاقات بين تركيا واليونان.. ما القصة؟

رامي صباحي | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

في منطقة جنوب شرقي أوروبا التي تشهد حرائق عديدة مع حلول فصل الصيف من كل عام، لا تكاد تهدأ المشاحنات بين تركيا واليونان حتى تعود لتشتعل فيها النيران الجيوسياسية في حلقة من الخلافات المتجددة منذ نحو قرنين من الزمان.

ورغم أن تركيا واليونان عضوان بحلف شمال الأطلسي "ناتو"، الذي عاد إلى الحياة من جديد ليضبط صفوفه ويعزز وحدته مع غزو روسيا لأوكرانيا، فإن تاريخ الصراعات الدموية والصفقات السياسية غير العادلة، دوما ما يرجع لينكأ الجروح القديمة بين البلدين.

وكلا البلدين على خلاف منذ عقود بشأن عدة قضايا، في مقدمتها الحدود البحرية، وهي مسألة زادت أهميتها مع اكتشاف احتياطات ضخمة من الهيدروكربون بشرق البحر المتوسط.

وقوبلت أنشطة التنقيب التركية في 2020، بإعلان الجيش اليوناني حالة التأهب، ثم هدأ الأمر لاحقا بمباحثات لم تسفر عن تطور ملحوظ.

هذا بالإضافة إلى قضايا المجال الجوي، والهجرة غير النظامية، والأقليات العرقية، وأزمة قبرص المقسمة إلى شطرين تركي ورومي، فضلا عن تحول اليونان أخيرا لملاذ آمن لأعضاء تنظيمات تصنفها أنقرة "إرهابية"، مثل حزب العمال الكردستاني "بي كا كا"، و"غولن" المسؤول عن محاولة انقلاب 2016.

مواجهة جديدة

وفي أحدث فصول التوتر بين الدولتين الجارتين، استدعت وزارة الخارجية التركية سفير اليونان لديها في 4 يونيو/حزيران 2022، احتجاجا على السماح لعناصر "بي كا كا"، بالتظاهر قرب سفارتها في أثينا.

ونددت الوزارة بالتسهيلات التي توفرها اليونان لتنظيمات "بي كا كا" و"غولن"، وشددت على ضرورة أن تفي اليونان بمسؤولياتها في مكافحة الإرهاب بموجب علاقات الجوار والقانون الدولي، وفق بيان نشرته وكالة الأناضول الرسمية.

لكن هذا التطور لم يكن سوى حلقة بمسلسل متصاعد من التوتر بين البلدين، برز مع زيارة رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس في 16 مايو/ أيار 2022، إلى واشنطن، التي عقد بها عدة لقاءات مع مسؤولين أميركيين، في مقدمتهم الرئيس جو بايدن.

ولم تخل هذه اللقاءات مما عدته تركيا "تحريضا" من الجانب اليوناني ضدها و"استهدافا" لمصالحها، وهو ما تجلى بصورة واضحة في الخطاب الذي ألقاه ميتسوتاكيس أمام أعضاء الكونغرس الأميركي وأحدث صدى واسعا.

وفي ذلك الخطاب، أشار ميتسوتاكيس إلى صفقة بيع مقاتلات "إف 16" المتواصلة بين تركيا وأميركا التي لم يصدق الكونغرس عليها بعد.

وقال: "يجب أن تأخذوا بعين الاعتبار الوضع بشرق المتوسط، بشأن مبيعات الأسلحة المحتملة إلى أنقرة".

كما حث الكونغرس على عدم إسقاط الحظر المفروض على عضوية تركيا في برنامج مقاتلات "إف 35"، التي أُخرجت أنقرة منه على خلفية شرائها منظومة الدفاع الصاروخي "إس 400" الروسية.

وزعم أن تركيا "تنتهك الأجواء اليونانية"، فضلا عن دورها في قبرص، مؤكدا أن بلاده "لن تقبل أبدا بحل الدولتين في الجزيرة"، وهي التسوية التي تدعمها أنقرة لوقف ذلك الصراع.

كما أشاد ميتسوتاكيس بالوجود العسكري الأميركي المتزايد في الجزر اليونانية المتاخمة لتركيا، مؤكدا انفتاحه على تأسيس مزيد من القواعد الأميركية ببلاده، وهو أمر يثير غضب أنقرة.

ولم يتأخر الرد التركي على هذه التصريحات، إذ أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان في 23 مايو، إلغاء اجتماع المجلس الإستراتيجي المشترك مع أثينا، الذي كان من المخطط عقده في وقت لاحق من 2022، بمدينة سلانيك اليونانية.

وقال أردوغان في كلمة عقب اجتماع حكومي، "كنا قد اتفقنا على عدم إشراك دول ثالثة في نزاعنا. على الرغم من ذلك، زار ميتسوتاكيس الولايات المتحدة وتحدث في الكونغرس وحذرهم من منحنا طائرات إف-16".

وتابع "لم يعد هناك أحد اسمه ميتسوتاكيس بالنسبة لي، ولا أقبل بعقد لقاء كهذا معه إطلاقا، لأننا نواصل طريقنا مع الأشخاص الشرفاء الذين يحفظون عهودهم".

هجمة مرتدة

ولم يتوقف الرد التركي على هذا الحد، إذ أكد وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو في مقابلة مع وكالة الأناضول في 30 مايو، إنه "إذا لم تتخل اليونان عن تسليح جزر بحر إيجه، فسنبدأ النقاش بشأن سيادتها على الجزر، ونحن جادون للغاية".

وذكر الوزير أنه جرى وضع عدد من هذه الجزر تحت سيطرة اليونان عام 1923 بموجب اتفاقية لوزان (عقب الحرب العالمية الأولى)، وعدد آخر وفقا لاتفاقية باريس عام 1947 (عقب الحرب العالمية الثانية)، مشيرا إلى أن الاتفاقيتين تضمنتا شرط عدم تسليح هذه الجزر.

ولفت إلى أن الحكومة اليونانية أنكرت في البداية تسليحها الجزر المعنية، ثم اعترفت لاحقا مبررة ذلك بـ "وجود تهديد من تركيا".

وأكد أن ميتسوتاكيس لم يكتف بانتقاد تركيا، بل قاد حملة ضغط ضد دولة حليفة في "الناتو"، استهدفت بشكل خاص الصناعات الدفاعية، مشددا أن الأمر لا يتوافق مع روح التحالف.

وفي ذات السياق، لفت تشاووش أوغلو إلى أن الولايات المتحدة أخلت في الآونة الأخيرة بسياسة التوازن التي كانت تتبعها بين تركيا واليونان، وبين جمهورية قبرص التركية وإدارة جنوب قبرص الرومية.

وعقب ساعات من تصريحات تشاووش أوغلو التي وصفتها أثينا بـ"التهديد المباشر"، بعثت الخارجية اليونانية رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، دعت فيها تركيا إلى وقف التشكيك بسيادة بلادها على جزرها في بحر إيجة، كما طالبتها "بالامتناع عن الأنشطة غير المشروعة التي تنتهك سيادة اليونان".

كما أعلنت الحكومة اليونانية أنها ستمدد السياج الحدودي البري الحالي مع تركيا والذي يبلغ 35 كيلومترا ليبلغ 115 كيلومترا، خوفا من أن تلجأ أنقرة لورقة المهاجرين غير النظاميين عبر الحدود، في ظل التوتر المتصاعد.

وقبل أيام من زيارة ميتسوتاكيس إلى واشنطن، وافق البرلمان اليوناني في 13 مايو، بأغلبية الأصوات على مشروع قانون يصدق على البروتوكول الثاني لتعديل اتفاقية التعاون الدفاعي العسكري بين اليونان والولايات المتحدة.

وتعليقا على الخطوة، قال ميتسوتاكيس في كلمة نقلها موقع "روسيا اليوم"، إن هذا التعاون الثنائي مهم لأنه يتوسع ليس فقط في الوقت المناسب، ولكن أيضا في المكان المناسب. والبنية التحتية العسكرية بأكملها يجري تحديثها.

وتحدث عن انتشار القوات الأميركية في "قاعدة سودا البحرية (بجزيرة كريت)، التي تعد الرصيف الوحيد الذي يمكن أن ترسو عليه حاملة طائرات أميركية في شرق المتوسط​​، بالإضافة إلى قواعد ليتوتشورو، وفولوس، وألكساندروبوليس".

مخاوف عسكرية

وكانت اليونان والولايات المتحدة عدلتا في أكتوبر/تشرين الأول 2019، اتفاقية التعاون الدفاعي المتبادل المبرمة في 1990، لتوسيع قاعدة سودا، واستخدام قاعدتي لاريسا، وستيفانوفيكيو الجويتين، فضلا عن ميناء الكسندروبوليس المتاخم لتركيا.

كما نص التعديل على إمكانية استخدام أي منشأة عسكرية أخرى على أراضي اليونان بموافقتها.

وفي يونيو/حزيران 2021، صدقت لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي بالإجماع على مشروع قانون ينص على تقديم مستلزمات عسكرية ومساعدات تدريبية لليونان.

ويسمح المشروع بعمليات نقل جديدة للمعدات العسكرية الأميركية إلى اليونان، إضافة إلى التسليم العاجل لأي طائرة مستقبلية من طراز "إف-35".

وفي أكتوبر 2021، أضيفت إلى الاتفاقية أربع منشآت جديدة إلى قائمة القواعد العسكرية، وتبع ذلك إرسال قوات وشحنات كبيرة من المعدات والأسلحة.

وتعليقا على هذه الجزئية، أكد  "سرهات غوفنتش" أستاذ العلاقات الدولية بجامعة "قادر هاس" التركية في الثاني من يونيو 2022، أن أنقرة قلقة من تغيير ميزان القوى العسكرية بين البلدين في ضوء هذه المتغيرات.

وأضاف لإذاعة "صوت أميركا" الحكومية الناطقة بالتركية، أنه بينما لا تستطيع أنقرة شراء معدات عسكرية من الولايات المتحدة لأسباب مختلفة، فإن نجاح أثينا في الحصول على هذه الأسلحة من أميركا، قد يغير الوضع العسكري لصالح اليونان.

وأوضح أن تركيا تشعر بالقلق أيضا بشأن برنامج التسلح اليوناني، لا سيما في الجزر القريبة من تركيا. وعلى مدار عقود، ظلت جزر بحر إيجة مصدرا للخلاف والتوتر بين أنقرة وأثينا.

وفي سبتمبر/ أيلول 2020، كشف وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، أن اليونان سلحت 18 جزيرة بشكل مخالف للاتفاقيات الدولية.

وبالتوازي مع توسيع التعاون الدفاعي مع أميركا، صدق البرلمان اليوناني في أكتوبر 2021، على اتفاق آخر مع فرنسا، تشتري بموجبه اليونان 3 فرقاطات فرنسية الصنع، مع وجود خيار لشراء فرقاطة رابعة، فضلا عن 24 طائرة مقاتلة من طراز رافال.

خلاف الجزر

وبحسب موقع التلفزيون التركي الناطق بالعربية (تي آر تي)، تظهر معطيات المؤسسات الرسمية اليونانية أرقاما مختلفة بخصوص أعداد الجزر ومساحاتها في بحر إيجة عن نظيرتها لدى هيئة المسح البحري التركية.

وتشير الأخيرة إلى أن بحر إيجة يضم نحو 1800 جزيرة، مشكلة من جزر، وأخرى صغيرة، وتشكيلات صخرية مختلفة المساحات، نحو 100 جزيرة منها فقط مأهولة بالسكان.

وترجع جذور الخلاف بشأن الجزر إلى استقلال اليونان عن الدولة العثمانية في أبريل/نيسان 1830، إذ انتقلت تبعية بعض الجزر إليها، في حين استمرت السيادة العثمانية على معظم الجزر، وفق "تي آر تي عربي".

وأضاف في تقرير نشره في 11 فبراير/ شباط 2022، أنه بقي الحال كذلك إلى أن اندلعت الحرب بين الدولة العثمانية وإيطاليا في ليبيا، ما تسبب في احتلال روما مجموعة من الجزر جنوب بحر إيجه عام 1912.

وفي غمار الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية، احتلت اليونان (1919 - 1922) أجزاء من تركيا بينها غالبية الجزر.

ورغم تحرير البلاد لاحقا من الاحتلال وتأسيس الجمهورية التركية الحديثة (1923) فإن جزءا كبيرا من الجزر بقي بيد اليونان بناء على معاهدة لوزان، وجزءا آخر بقي تحت سيطرة إيطاليا.

حتى جاءت الحرب العالمية الثانية لتنتقل تبعيتها إلى بريطانيا، التي سلمتها بدورها إلى اليونان، وجرى تثبيت ذلك في معاهدة باريس عام 1947، مع إنكار حق تركيا بالجزر رغم أنها انتزعت من الدولة العثمانية بالأصل، وتشكل امتدادا جغرافيا طبيعيا للأناضول.

ولفت الموقع إلى أن النزاع الحالي بين تركيا واليونان يحمل بعدين رئيسين.

 أولهما، بشأن السيادة على بعض الجزر الصغيرة في بحر إيجة التي لم يبت في تبعيتها السياسية لأي من الدولتين وتسببت في نشوب أزمات دبلوماسية كادت أن تتطور إلى حد المواجهة العسكرية كما حدث في أزمة جزيرة قارداق عام 1995.

أما الثاني فيتعلق بالحقوق المترتبة على تلك السيادة، والمتمثلة في مناطق النفوذ البحرية والمناطق الاقتصادية الخالصة، والحق في التنقيب عن موارد الطاقة بالقرب من هذه الجزر.

فردا على اتفاقات ترسيم الحدود البحرية ومذكرات التفاهم التي وقعتها اليونان في السنوات الأخيرة مع كل من إسرائيل وقبرص الرومية ومصر، وقعت تركيا اتفاقية مع ليبيا في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2019 تحدد مناطق السيادة البحرية بين البلدين.

ونتج عن الاتفاق استحواذ تركيا وليبيا على أرضية قانونية تشرعن لهما تقاسم مناطق السيادة البحرية على أسس منصفة لحقوق الطرفين ومطابقة للقوانين الدولية.

وفي نفس الوقت جرى إفساد الألعاب السياسية الهادفة إلى حشر أنقرة في منطقة بحرية مساحتها 41 ألف كيلومتر مربع، وانتهت بسحب واشنطن دعمها لمشروع خط أنابيب الغاز شرق المتوسط "إيست ميد" الواصل بين إسرائيل واليونان ويتعارض مع الاتفاقية بين تركيا وليبيا.

رؤى مغايرة

وفي رؤية مغايرة عن هذا التوتر الجيوسياسي، نقل موقع "صوت أميركا" عن دوائر تركية ويونانية لم يسمها، أن قادة البلدين يستغلون الأزمة الراهنة، من أجل إظهار أنفسهم كزعماء أقوياء، ومن ثم يسهل نيل أصوات الناخبين القوميين والوطنيين.

وأشار إلى أنه من المقرر أن تجري تركيا انتخابات رئاسية وبرلمانية في يونيو 2023، بينما تجري اليونان انتخاباتها العامة في يوليو/ تموز 2024، والحزبان الحاكمان في البلدين يمثلان تيار يمين الوسط.

وادعى الموقع الأميركي أنه في الانتخابات التركية الأخيرة استفاد الرئيس أردوغان كثيرا من العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا ضد تنظيم (واي بي جي)، الفرع السوري لتنظيم حزب العمال الكردستاني.

وأوضح أن المسؤولين في تركيا يستفيدون من مسائل مثل أهمية أنقرة ودورها الحساس في توسع حلف شمال الأطلسي، للحصول على أصوات الناخبين القوميين قبل الانتخابات، في وقت تواجه فيه البلاد تضخما يصل إلى 70 بالمئة.

وأكد أن شعبية الرئيس أردوغان تزيد عندما يشدد لهجة خطاباته ضد اليونان والدول الغربية، وأنه قد يتبع إستراتيجية مماثلة قبل انتخابات 2023.

وفي قراءة تتماشى مع هذا الطرح نسبيا، أكد المحلل السياسي التركي يوسف كاراداش، أن الهدف الرئيس وراء القواعد العسكرية في اليونان والدول المطلة على البحر الأسود، هو محاصرة روسيا في البحرين المتوسط والأسود وأوروبا الشرقية.

وأضاف في مقال نشره موقع "أفرنسال" التركي في 15 نوفمبر 2021، أنه حتى لو كانت هناك قاعدة على الحدود التركية الشمالية الغربية وأخرى في جزيرة كيريت، فإنها تخدم بشكل أساسي أميركا للسيطرة على المضائق (البوسفور وجناق قلعة) وتطويق روسيا وقطع طريق الحرير الصيني عن الامتداد لأوروبا.

ومع ذلك، لم يستبعد كاراداش أن يكون من ضمن الأهداف الأميركية من هذا المخطط، فرض مزيد من الضغط على إدارة أردوغان لدفعه نحو مزيد من التعاون في ملفات متنوعة، في ظل مساعي تركيا في السنوات الأخيرة للتحرك وفق مصالحها.

وهو ما أكده أيضا الخبير بالعلاقات الدولية التركي تولغا ساقمان بقوله لـ"الاستقلال"، إن الولايات المتحدة تحاول إحداث نوع من التوازن عبر هذه القواعد في اليونان.

إذ ترسل رسالة واضحة إلى تركيا التي اتخذت موقفا محايدا من الحرب الروسية في أوكرانيا، مفادها أن لديها بديلا في المنطقة.

أما عن رؤية أثينا، فأوضح ساقمان أنه من أهم ما يدفع اليونان إلى هذا الاتجاه العدواني قلقها من زيادة أهمية تركيا بالنسبة لأوروبا التي تحاول التخلص من التبعية الطاقية لروسيا عبر غاز شرق المتوسط الذي تمثل أنقرة أفضل الطرق للحصول عليه.

وأضاف: هذا الأمر يثير مخاوف كبيرة لدى اليونان من أن تستفيد تركيا من هذه الظروف في فرض مزيد من الطلبات على أوروبا، ما سينعكس إيجابا على أنقرة، لذا تسعى لتصعيد التوتر.