الدبلوماسية الروسية في الشرق الأوسط

12

طباعة

مشاركة

يهدف هذا المقال إلى محاولة رسم خطوط السياسة الخارجية الروسية التي تحكم المواقف الروسية في الشرق الأورسط، علما بأن روسيا بعد الاتحاد السوفيتى تختلف تماما عن روسيا السوفيتية والإمبراطورية، ليس فقط بسبب الخبرات الشخصية للقائمين على السياسة الخارجية، ولكن باختلاف ظروف السياسات الدولية ونمط الصراع على الشرق الأوسط في القرون الثلاثة.

ومن عجب أن هذه الفوارق التبست على بعض صانعي السياسة والمحللين في المنطقة العربية، فقد مضى الزمن الذي كانت فيه موسكو تتزعم المعسكر السوفيتى، وكانت تحارب المعسكر الغربي في جميع الساحات وبجميع الأسلحة؛ فيما عرف بالحرب الباردة التي اعتمدت أساسا على التحالفات. فقد دخل الاتحاد السوفيتي الشرق الأوسط من البوابة المصرية وأصبح حلفاؤه، مصر وسوريا والعراق واليمن وليبيا والجزائر وفلسطين، أما الخليج والأردن والمغرب وتونس فكانوا حلفاء الغرب.

وقد أدى هذا  الانقسام إلى الحرب الباردة العربية التي كانت حربا بالنيابة وليست حربا لأسباب عربية خالصة، فلما انقضى الاتحاد السوفيتى أدركت القيادة الروسية الجديدة مدى الخسارة والحقد الأمريكي على موسكو. وأدركت أيضا أن واشنطن لن تكتفى بتمزيق الإمبراطورية السوفيتية، وإنما تسعى إلى تفكيك الاتحاد الروسي وحرمان روسيا من مزايا الدولة الكبرى بعد أن كانت دولة عظمى، وإن كانت العظمة معيارها حيازة كل أنواع الأسلحة الفتاكة التي تستطيع أن تحقق السلام المسلح بين الدول العظمى.

وبمتابعة السياسة الروسية في الشرق الأوسط نستطيع أن نحدد ملامح هذه السياسة تقريبا.

الملمح الأول هو الحساسية الروسية تجاه المعسكر الغربي، بما فيهم واشنطن وسعي روسيا إلى الفصل بين المصالح الأوروبية والسياسة الأمريكية، وقد ظهر ذلك جليا فى استرداد روسيا لشبه جزيرة القرم التي كانت قد ضمتها إلى أوكرانيا عام 1954، وبالطبع سبقت هذه الخطوة الثورات الملونة ضد روسيا التي غذاها الغرب. كما أن أوروبا تقدم على الأقل ساحة للدعم الإستراتيجي الأمريكي ضد روسيا. جدير بالذكر أن موسكو السوفيتية كانت تحلم بأن تتواجد في المياه الدافئة في البحر المتوسط والخليج، وكان هذا الهدف قد تجدد بعد تولي الرئيس بوتن السلطة.

الملمح الثاني هو أن تجربة العقود الأربعة السابقة التي شجعت فيها واشنطن الجماعات الإسلامية، وآخرها داعش، على محاربة الاتحاد السوفيتي بدعمها ونيابة عنها، فظهر بوتن بهدف أساسي وهو معاداة الإسلام ومناهضة هذه الجماعات التي حاربت موسكو فى أفغانستان والشيشان والبوسنة والهرسك، ثم ظهرت في سوريا والعراق. وهذا الهدف في ظاهره يسمى محاربة الإسلام الإرهابى ويفترض أن يجمع موسكو وواشنطن على هذا الهدف، لولا أن موسكو تدرك جيدا أن واشنطن لا تزال تستغل الإسلام والمسلمين فى معاركها حتى ضد الإسلام والمسلمين.

هذا الهدف هو الذي دفع موسكو إلى هذا الدور المباشر العسكري فى سوريا ودعم العراق ضد هذه الجماعات والتحالف مع إيران ضدها والتنسيق بينهما على الأراضي السورية. رغم تبين الدوافع والمنطلقات فقد عمدت واشنطن إلى إثارة الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة وبين الدول السنية وإيران، أي أنها قسمت الإسلام إلى إسلامين متناقضين من حيث الأتباع وليس من حيث المبادئ، وهذا الجانب لا يهم روسيا كثيرا إلا بقدر تحالفها مع إيران خارج هذه الدائرة.

الملمح الثالث أنه على خلاف المذهب الشيوعى الذي كان يشجع الثورات ضد نظم الحكم، فإن روسيا الحالية لديها عقدة من الثورات الملونة التي استخدمتها واشنطن لتقليص نفوذها، علاوة على أن روسيا تضم عددا كبيرا من المسلمين السنة وبعضهم انخرط في حركات انفصالية مثل الشيشان وجميع المعارك ضد روسيا السوفيتية، كانت تقف وراءها واشنطن وبعض الدول الإسلامية وعلى رأسها السعودية بحجة أنه جهاد فى سبيل الله ضد الشيوعية الملحدة. وتسترت واشنطن بوحدة معسكر الموحدين لله ضد المنكرين لوجود الله، أي الشيوعية وحدها لأن امتداد هذا المبدأ ضد بقية الدول سوف يضع معظم آسيا في مخطط واشنطن، ولذلك قصرت نفسها على المذهب المادي الإلحادي الشيوعي وحده.

هذه العقدة دفعت موسكو إلى مناهضة الثورات العربية جميعا فى مصر وسوريا واليمن وليبيا، ولكن موقف موسكو لم يكن ظاهرا لتطبيق هذا المبدأ وحتى فى سوريا؛ فإنها تناهض الإسلاميين تطبيقا لمبدئها الأول وانتقاما منهم ولم يكن ذلك ظاهرا مثلا في مصر واليمن. ولكن عندما قامت الموجة الثانية من الثورات العربية في السودان والجزائر، فإن موسكو اتخذت موقفا مناهضا لهذه الثورات وليس بالضرورة دعما للنظم المقابلة التي قامت الثورات عليها.

أما دعم روسيا لحفتر فى ليبيا فهو تطبيق لموقفها من الجماعات الإسلامية علما بأن روسيا لم تحدد موقفا من الثورة الليبية ولم تعترض على استيلاء الناتو على ليبيا وإنما أخذت ذلك في الحسبان عندما يتعلق الأمر بالمسألة الليبية.

والمقارنة بين موسكو وواشنطن فيما يتعلق بالثورات العربية تكشف دوافع كل دولة، فموسكو تعارضها ما دامت القوى الإسلامية تتصدرها وواشنطن هي التي شجعت القوى الإسلامية على تصدرها؛ أي أن الصراع الأمريكي الروسي امتد إلى ملف الثورات العربية علما بأن واشنطن لا تهتم بالتغيير الديمقراطي في الدول العربية، بل تحاربه وهو هدف كامن في الدبلوماسية الروسية التي تدرك أن واشنطن تتحفظ على الديمقراطية الروسية وعلى حقوق الإنسان في روسيا وعلى الكثير من ممارسات الحكومة الروسية.

تلك إضاءة سريعة يجب أن تؤخذ بالاعتبار عند تحديد السياسات الخارجية للدول المحلية؛ وأهم الدروس ثلاثة؛ الأول أن الصراع الروسي - الأمريكي ليس تكرارا لملحمة الحرب الباردة التي قامت على أساس أنه من ليس معنا فهو علينا.

ولا يمكن لدولة أن تنحاز إلى واشنطن أو موسكو على سبيل الكيد، فليس هناك منهج شامل محلي للتعامل مع كل القضايا؛ فإذا استوردت مصر مثلا أسلحة من أمريكا لا تتأثر موسكو وإنما شعرت واشنطن بثقل موسكو العسكري مع تركيا وحدها، إذ تدور معركة صواريخ 300 الروسية ضد طائرات أف 35 الأمريكية والملف التركي له خصوصية بالنسبة لكل من موسكو وواشنطن، ويحافظ أردوغان بينهما على مصالحه الإستراتيجية.

أما إسرائيل؛ فقد انتهى الاستقطاب السوفيتي الأمريكي في الصراع العربي الإسرائيلي بزوال الصراع أصلا واخترقت إسرائيل المعسكر العربي من مصر والخليج ولذلك فإن موسكو دقيقة في تعاملها مع المغامرات الإسرائيلية في سوريا مع وجود القوات الروسية وهي ساحة تصلح لوحة مثالية للعلاقات الدولية المعاصرة.