قتل آلاف المدنيين بالصحراء الغربية.. فضيحة تزلزل فرنسا ودفنها النظام المصري

إسماعيل يوسف | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

لم يكن كشف موقع التحقيقات الاستقصائية "ديسكلوز" عن تقديم باريس معلومات استخبارية للقاهرة، لتستخدمها في قصف أهداف بالصحراء الغربية مهما بقدر كشفه أن الوجود الفرنسي في الصحراء الإفريقية وصل إلى مصر.

تقرير الموقع الذي نشر في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 تحدث عن عملية استخبارية فرنسية مصرية، لاستهداف الإرهابيين في الصحراء الغربية على الحدود مع ليبيا، تحمل اسم "عملية سيرلي" (Mission Siri).

واستنادا لوثائق عسكرية فرنسية، أشار الموقع الذي غالبا ما ينشر معلومات تُحرج الجيش الفرنسي إلى أن "قوات فرنسية لا تزال منتشرة في الصحراء الغربية وموجودة تحديدا بمدينة مرسى مطروح شمال غربي مصر.

كما أكد تواطؤ فرنسا مع الجيش المصري في "جرائم ضد الإنسانية" في الصحراء الغربية، حيث يقصف ويقتل الضباط المصريون مدنيين في قوافل هجرة غير نظامية ومهربي سلع، و"جميعهم ليسوا إرهابيين".

وليست هذه المرة الأولى التي تكشف فيها جهات دولية أنها تدعم نظام عبد الفتاح السيسي بمعلومات استخبارية وقوات عسكرية داخل مصر، ولا حقا يتبين أن الجيش المصري يستخدم هذا الدعم في مجازر ضد مدنيين مصريين أبرياء.

ففي 15 أغسطس/آب 2016، نشرت مجلة فورين بوليسي الأميركية القصة الكاملة لمقتل 12 شخصا في قافلة بالصحراء الغربية في سبتمبر/أيلول 2015، بينهم 8 مكسيكيين و4 مصريين، بعد ضربات خاطئة للجيش المصري قيل إنها استهدفت إرهابيين ثم تبين لاحقا أنها رحلة سفاري.

وقبل ذلك كشف الكيان الإسرائيلي عن تدخل طائراته في سيناء لمحاربة "تنظيم ولاية سيناء" بجانب الجيش المصري، ولاحقا أقر رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي بذلك في تصريحات تلفزيونية في 2019.

فرنسا في مصر

وتبرز أهمية التقرير الفرنسي في أنه تحدث عن وجود عسكري فرنسي في الصحراء الغربية بمصر، لمحاربة إرهابيين مزعومين قادمين من ليبيا.

وكشف التقرير الذي أطلق عليهم اسم "تسجيلات الرعب"، كيف حضرت القوات الفرنسية في مصر بحجة محاربة الإرهاب، لكنها تورطت مع السيسي في جرائم ضد الإنسانية.

وبدأ التقرير بعبارة: "أرسل إلينا مصدر، مئات من وثائق الدفاع السري التي تكشف تورط فرنسا في جرائم الديكتاتورية المصرية".

وشرح كيف أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على علم كامل بما يقع على الأراضي المصرية من انتهاكات، ومساعدة قواته الجيش المصري في ارتكاب هجمات ضد مدنيين على الحدود مع ليبيا. 

وأظهرت الوثائق الاستخبارية الفرنسية التي نشرها الموقع أن بداية الوجود العسكري الفرنسي في مصر ترجع إلى 13 فبراير/شباط 2016، حين وصلت قافلة تحمل فريقا فرنسيا إلى ثكنة عسكرية مصرية بمدينة مرسى مطروح.

كان ذلك الفريق يضم عشرة ضباط سابقين للجيش الفرنسي، ستة منهم يعملون لصالح متعهدين أمنيين، مجهزين بطائرة استطلاع خفيفة "ميرلين3"، استأجرتها وزارة الدفاع الفرنسية بكلفة 1.45 مليون يورو لكل خمسة أشهر من الخدمة.

وكان هدف العملية السرية، التي سُميت "سيرلي"، تأمين 1200 كيلومتر من الشريط الحدودي الليبي-المصري من اختراقات "الإرهابيين"، وتغطية نحو 700 ألف كيلومتر مربَّع بطلعات جوية استطلاعية لرصد تحركات "الجماعات الإرهابية" المحتمَلة.

واكتشف الفرنسيون أن الضباط المصريين يستغلون الطائرات والمعلومات الفرنسية لقصف قوافل مهربين للبشر أو السلع وقتل الآلاف منهم، و"هم ليسوا إرهابيين".

وتبين أن الجيش المصري نفذ طلعات جوية في منطقة تسمي "الموزة" قرب واحة سيوة، وقصف هناك شاحنات مأهولة بشباب لا تزيد سنّهم على 30 عاما، ينشطون في التهريب المعيشي، وليسوا إرهابيين.

ثم أعلنت مصر لاحقا استهداف قوافل "إرهابيين"، وهو غير صحيح، ما يجعل فرنسا شريكاً في "جرائم القصف العشوائي لمدنيين مصريين" حسب الموقع.

ففي يوليو/تموز 2020 أعلنت الرئاسة المصرية أن "الجيش دمر في الست سنوات الماضية 10 آلاف عربة كانت تُستخدم في أنشطة التهريب، وقتل 40 ألفا من المهربين والإرهابيين". 

غير أن تقرير لـ"المعهد الأوروبي من أجل السلام" أكد أنه "لم تكن هناك أي أدلة على وجود عناصر إرهابية داخل النصف الشرقي لليبيا في تلك المدة، ولا دليل على ارتباط نشاطات التهريب بجماعات إرهابية في ليبيا".

وقد أكد الموقع الاستقصائي، نقلاً عن تقرير فريق العملية الفرنسي، أن "محاربة الإرهاب كانت تحل في المركز الثالث لأولويات الجانب المصري" بعد محاربة المهربين والهجرة. 

40 ألف قتيل

بحسب الوثائق التي نشرها "ديسكلوز"، كانت "القوات الفرنسية ضالعة فيما لا يقل عن 19 عملية قصف ضد مدنيين بين عامي 2016 و2018"، قتل فيها قرابة 40 ألف مدني مصري في الصحراء الغربية.

لذلك أعربت الاستخبارات العسكرية والقوات الجوية الفرنسية عن قلقهما من "التجاوزات" في هذه العملية، في مذكرة أرسلت إلى الرئاسة الفرنسية في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 أوردها موقع "ديسكلوز".

وتحدثت مذكرة أخرى بتاريخ 22 يناير/كانون الثاني 2019 أرسلت لوزيرة القوات المسلحة فلورنس بارلي، قبل زيارة رسمية لمصر مع ماكرون، عن وجود حالات مؤكدة لتدمير أهداف مدنية اكتشفها الاستطلاع الفرنسي.

تقرير أخر لموقع ديسكلوز حول "معلومات الدفاع السرية" منشور في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 تحدث عن حصوله على أوراق سرية أخرى تكشف "ما وراء كواليس مبيعات الأسلحة الفرنسية لمصر" على حساب حقوق الإنسان، سيتم كشفها لاحقا.

ووصف ما تفعله مصر بالتواطؤ مع فرنسا بأنه "حملة إعدام تعسفي ضد المدنيين"، و"فظائع ارتكبها نظام السيسي في الصحراء الغربية".

وقد أشارت صحيفة ليبراسيون الفرنسية لنفس المعلومات، مؤكدة في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 أن الجيش المصري "قصف مدنيين مصريين" منهم مهربو بشر وسلع، "بعلم باريس وتواطئها".

وتظهر الوثائق المسربة أن حكومة فرنسا رغم هذه المعلومات اختارت الصمت، ما يجعلها متورطة في جرائم ضد الإنسانية مع السيسي.

من جانبها، اكتفت وزارة الجيوش الفرنسية في ردها على وكالة فرانس برس في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، بالحديث عن أن "مصر شريك لفرنسا تقيم معها علاقات في مجال الاستخبارات ومكافحة الإرهاب".

وقالت: "لن نعطي مزيدا من التفاصيل بشأن طبيعة آليّات التعاون المُنَفّذة في هذا المجال"، لكن الوزيرة فلورنس بارلي "طلبت فتح تحقيق بشأن المعلومات التي نشرها ديسكلوز".

فيما علق الحقوقي المصري بهي الدين حسن، على العملية سيرلي عبر تويتر مؤكدا أن الفضيحة ستؤدي إلى تحقيقات برلمانية، قضائية، عسكرية في فرنسا مع المتواطئين، وربما تؤدي إلى حرمان ماكرون من تجديد انتخابه. 

"أما السفاحون في مصر الذين يسفكون دماء المدنيين كل يوم بتواطؤ أجنبي أو بدونه، فمن يطالب بالتحقيق معهم سيختفي أو يضاف اسمه إلى قوائم الإرهاب".

وقبل نشر هذا التقرير أثيرت تكهنات في مصر حول تعاون عسكري مصري فرنسي مشترك مع الانقلابي خليفه حفتر في ليبيا عبر الحدود المصرية، دون تفاصيل.

"أكاديمي مصري" متخصص في الشؤون الإفريقية فضل عدم الكشف عن هويته أبلغ "الاستقلال" أن ماكرون والسيسي وقعا اتفاقات سرية للتعاون في ليبيا تتضمن وجودا عسكريا فرنسيا على الحدود الليبية المصرية، على غرار ما تفعله مصر مع إسرائيل على حدود سيناء.

وأوضح أن مصر وفرنسا حافظا على تعاون أمني سري ضد إرهابيين قادمين من ليبيا، بعد أنباء تسرب جهاديين عبر الحدود وتنفيذهم عمليات في الصحراء الغربية، منها كمين الواحات في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2017، الذي قتل فيه 13 ضابطا و3 مجندين.

أخطاء أم جرائم؟

حوادث استهداف الجيش المصري مدنيين بدعاوي أنهم إرهابيون تكررت عدة مرات في سيناء والصحراء الغربية، ولم يكشف عنها أو تم التغاضي عنها.

لكن قتل 8 من سياح المكسيك و4 مرشدين سياحيين مصريين معهم في قصف استهدف قافلتهم بدعوي أنهم إرهابيون، وما أحدثه من ضجة، ألقي الضوء على جرائم قتل المدنيين.

وجاء كشف موقع "ديسكلوز" الفرنسي قتل مصر مدنيين بالقصف الجوي بدلا من إرهابيين وإثارة الأمر دوليا لفضح أخطاء أو جرائم القصف الجوي العشوائي للمدنيين رغم أنه يتكرر في سيناء دوريا دون اهتمام بسبب التعتيم الإعلامي.

وأحد هذه الهجمات ضد مدنيين جرت في 6 يوليو/تموز 2017، حين قُتل ثلاثة مواطنين في الواحات البحرية بينهم مهندس عامل في رصف الطرق يُدعى "أحمد الفقي" إثر قصف طائرات مصرية لسيارتهم بصاروخ، بينما كانوا يتزودون بالماء من بئر.

وقد نشرت فورين بوليسي الأميركية القصة الكاملة لمقتل وفد السياح المكسيكيين ومرافقيهم المصريين في الواحات الغربية معتمدة على مقابلات مع شهود عيان وأقارب وأصدقاء للضحايا ووثائق تفصيلية قدمتها شركتا السياحة المنظمتان للرحلة.

وأوضحت أن "جميع السيارات التي حملت السياح كانت تحمل شعارات الشركات السياحية التابعة لها على الجانبين، ثم توجهت للصحراء في رحلة سفاري".

وأكدت أن القافلة مرت على 3 أكمن للشرطة والجيش المصري وتم السماح لها بالمرور، أي كان معلوما وجودها في المنطقة، ولم يكونوا في منطقة محظورة، كما زعمت الحكومة فيما بعد.

وحاول السيسي تبرير الفضيحة في حوار مع قناة PBS الأمريكية في 28 سبتمبر/أيلول 2016 قائلا: "كانوا في منطقة محظورة قريبة من الحدود مع ليبيا، مناطق خطيرة يستخدمها المهربون عادة للاختراق بالأسلحة والمقاتلين الأجانب".

وبعد الكشف عن ملابسات الفضيحة العسكرية وتبين أن الهجوم وقع على بعد 320 كم جنوب غربي القاهرة أي على بعد مئات الأميال من الحدود مع ليبيا، تراجعت مصر وصرفت تعويضات لأسر الضحايا.

ومن المثير للانتباه أن السيسي لم يعترف بوجود تعاون مع فرنسا في الصحراء الغربية داخل حدود مصر لكنه أقر في برنامج 60 دقيقة 60Minutes الأميركي في يناير/كانون الثاني 2019 بسماحه لإسرائيل بقصف مواقع في سيناء.

ماذا تفعل فرنسا؟

بحسب مجلة "إيكونوميست" البريطانيةـ أقلعت مساء أحد أيام الأسبوع الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2020، ثلاث مروحيات فرنسية مدعومة بطائرات مقاتلة، من قواعد عسكرية في عمق الساحل الإفريقي، ضمن عملية خاصة مجهولة بالمنطقة.

ولاحقا تحطمت مروحيتان وهما تحلقان على ارتفاع منخفض، في الظلام الدامس، وقتل 13 جنديا فرنسيا بالعملية.

وهزت الوفيات فرنسا، وأعادت أسئلة حول ما تفعله القوات الفرنسية، بالضبط، في دول الساحل والصحراء الكبرى.

وتحدثت صحف باريس أكثر من مرة عن مهام عسكرية فرنسية ضمن "عملية برخان" في جنوبي الصحراء بهدف "محاربة المتشددين" و"الجهاديين" في عدة دول بالمنطقة.

وأطلقت فرنسا "عملية برخان" في مالي منذ 2014 بهدف القضاء على الجماعات المسلحة في منطقة الساحل الإفريقي التي تسيطر على دوله اقتصاديا وسياسيا، ولديها حاليا وفق تقارير عسكرية نحو 5 آلاف جندي في بالمنطقة.

غير أن ماكرون مع تصاعد عدد ضحايا الجيش الفرنسي بالمنطقة وتأثير ذلك على حظوظه الانتخابية، قرر في يونيو/ حزيران 2021 إنهاء العملية وتقليص الوجود العسكري وتعديل شكل القتال ضد الإرهابيين في المنطقة".

وفي إطار العملية التي تغطي مناطق جنوبي ليبيا تم الاتفاق مع السيسي على تنسيق مشترك في العمليات في الصحراء الغربية المصرية، "ظاهره" محاربة الإرهابيين و"باطنه" دعم انقلاب خليفه حفتر في ليبيا.

وهذا ما أقر به وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، في 9 يوليو/تموز 2021 حيث قال إن بلاده دعمت الانقلابي خليفة حفتر في ليبيا حسبما نقلت صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية.

وفي 24 فبراير/شباط 2016 تحدثت وكالة رويترز عن "قوات خاصة فرنسية تشن "حربا سرية" في ليبيا، بالتعاون مع دول أخرى، نقلا عن تسريبات من وزارة الدفاع الفرنسية نشرتها صحيفة "لوموند".

وخلال زيارة السيسي إلى فرنسا في 6 ديسمبر/كانون الأول 2020 قال المتحدث باسم الرئاسة بسام راضي أن التعاون العسكري مع فرنسا لا يقتصر على صفقات السلاح بل يمتد للتدريب والمناورات المشتركة وتبادل الخبرات والمعلومات لمكافحة الإرهاب.

وخلال السنوات الماضية التقى السيسي وماكرون عدة مرات، ومنحه في باريس في ديسمبر/كانون الأول 2020 وسام "جوقة الشرف" أرفع الأوسمة الفرنسية، ما أثار موجه غضب لتكريم فرنسا قاتل ومنتهك لحقوق الإنسان وديكتاتور استخدام أسلحة ضد المدنيين.