عودة التواصل بين تركيا والإمارات.. الضغوط الدافعة وملفات المباحثات

قسم البحوث | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

المحتويات

مقدمة

المحور الأول: عوامل تغير نمط العلاقة 

أ. العلاقة بين القوة التركية والمصالح الإماراتية في شرق المتوسط

ب. الضغوط الإقليمية على الإمارات

ج. الضغوط الأميركية على المنطقة

د. احتواء إيران

المحور الثاني: ملفات المباحثات الإماراتية التركية

أ. مباحثات الأمن الاقتصادي

ب. المباحثات حول شمال العراق

ج. المباحثات بخصوص القرن الإفريقي

د. المباحثات بخصوص ليبيا

هـ. المباحثات حول أمن النظامين التركي والإماراتي وموقع جماعة الإخوان

ز. الاستثمارات الإماراتية في تركيا

خاتمة


مقدمة

ما زالت تتوالى حلقات التواصل الإماراتي– التركي ضمن عمليات مصالحة إقليمية وإعادة للعلاقات بدأت منذ تغير الإدارة الأميركية.

كيف بدأت مسيرة التواصل التركي – الإماراتي؟ وكيف تتابعت حلقاتها؟ وما ملامح الترتيبات الثنائية والإقليمية التي ترتبت على هكذا تواصل؟ هذه الدراسة تجتهد في تقديم إجابات لهذه الأسئلة.


المحور الأول: عوامل تغير نمط العلاقة

ثمة 3 عوامل رئيسية دفعت الإمارات باتجاه مراجعة علاقاتها مع تركيا، والتي شهدت تدهورا متتابعا على مدار السنوات السابقة.

ورغم أن جهود الوساطة الأردنية بدأت بين البلدين في فبراير/شباط 2021، فإنها لم تؤت أكلها إلا مع مطلع سبتمبر/أيلول 2021، إذ شهدت طفرة بعد توقيع الاتفاق النهائي بخصوص شراء شركة إماراتية نسبة 22 بالمائة من حقل غاز "تمار" الإسرائيلي.

مثل شراء هذه الحصة المدخل الأول للتأثير في توجه الإمارات نحو تركيا، وهو ما سنعرف أسبابه في موضعه، في حين جاء المسار الثاني متمثلا في رغبة أطراف إقليمية، من بينها مصر والأردن في تطبيع العلاقات مع تركيا، وهو ما لم يكن ممكنا في إطار وجود ممانعة إماراتية. أما العامل الثالث فتمثل في ضغوط إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على المنطقة.

أ. العلاقة بين القوة التركية والمصالح الإماراتية في شرق المتوسط: يمكن القول بأن المحرك الأول لإعادة ترتيب أوراق العلاقات التركية– الإماراتية يتمثل في نموذج القوة التركي في علاقته بأنماط المصالح الإماراتية في شرق المتوسط.

الاقتراب الإماراتي من "منطقة شرق المتوسط"، وضخامة وحيوية استثمارها في هذه المنطقة دفعا باتجاه عملية إعادة ترتيب الأوراق بين الدولتين.

وتمثل اقتراب الإمارات من منطقة شرق المتوسط في اهتمامها بملف الغاز وهو للمفارقة كان أحد أسباب توتر العلاقات التركية – الإماراتية. 

بدت ملامح هذا الاهتمام في الدور الذي لعبته الإمارات في توترات وصراعات شرق المتوسط، وبخاصة الملف الليبي. وكانت أبرز خطوات أبوظبي في هذا الإطار انضمامها إلى منتدى غاز شرق المتوسط (1).

وتعد عملية السيطرة على موارد الطاقة الجديدة قبالة السواحل الليبية أحد أهم عوامل اهتمام الإمارات للوجود في ليبيا، جنبا إلى جنب مع عوامل أخرى مثل الموانئ الليبية المهمة ضمن "إستراتيجية الحزام والطريق" الصينية، علاوة على مواجهة الحضور الإسلامي في ذلك البلد (2). وكانت المواجهة مع تركيا نتيجة لتنافس المصالح المتماثلة للبلدين في القطر العربي.

ورغم توقيع اتفاق مبدئي يتعلق بصفقة شراء "شركة مبادلة للبترول" الإماراتية حصة تبلغ نحو 22 بالمائة من حقل غاز "تمار" البحري المملوك لـ"شركة ديليك" الإسرائيلية في شهر أبريل /نيسان من العام 2021، فإن الصفقة لم توقع بصورة رسمية إلا في الثاني من سبتمبر /أيلول 2021، بحسب بيان للشركة البائعة (3).

ويمثل الحضور القوي للقوات العسكرية التركية في شرق المتوسط مصدر قلق لرأس المال الإماراتي، خاصة وأن هذا الوجود من شأنه أن يفضي إلى التهاب الوضع في هذه المنطقة البحرية، وبخاصة مع انتكاسة القوة الفرنسية، وتدخل الولايات المتحدة لإعادة التوازن إلى شرق المتوسط، وهي خطوة إستراتيجية يبدو أنها تتجه إلى أحد مسارين:

1. المسار الأول: أن تتجه المنطقة إلى حرب إقليمية، ما يؤثر سلبا على مشروعات الإمارات للإفادة من استثماراتها الغازية.

2. المسار الثاني: أن تتجه الولايات المتحدة لكبت الصراع في شرق المتوسط، وهو ما لا يرضي اليونان التي قد تستغل أية تطورات سياسية في فرنسا لتعزيز احتمالات المواجهة. 

ومن هنا فإن انتهاء التدخل الإماراتي في المنطقة إلى الحصول على هذه الحصة الاستثمارية الكبرى؛ دفع الإمارات للتحول إلى "قوة استقرار" في هذه المنطقة، كما قد يكون هذا التحول وفق منطق "ترحيل الخلافات"(4). 

وهذا التطور كان السبب الأساسي وراء زيارة مستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد، إلى تركيا، ولقائه رئيسها رجب طيب أردوغان (5).

أدى هذا اللقاء إلى عدد من التحولات في السلوك الإقليمي للإمارات في المنطقة، وفي سلوكها تجاه عدد من حلفائها، وهو ما سنرصده في المحور التالي.

ب. الضغوط الإقليمية على الإمارات: اللقاء الذي جمع الدولة الخليجية بتركيا، وأدى لاحقا إلى تطورات في علاقة أبوظبي بالدوحة، كان مدفوعا بضغوط إقليمية كذلك.

تبدأ هذه الضغوط من شعور الإمارات بالعزلة الإقليمية بعد المصالحة التي أجرتها المملكة العربية السعودية مع كل من قطر (قمة العلا) وسلطنة عمان (6)، والزيارات رفيعة المستوى والاتفاقيات التي أعقبتها (7).

هذا علاوة على التذبذب الذي شاب علاقات الإمارات مع إسرائيل سابقا، عندما علقت الأولى خططا لعقد قمة في أبوظبي مع تل أبيب والولايات المتحدة ودول عربية، احتجاجا على محاولات رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو استخدام الزيارة لدعم حظوظه في الفوز بانتخابات مارس/آذار 2021.

وهو ما ارتبط بضغوط من إدارة الرئيس الأميركي "جو بايدن" التي كانت رافضة لاستمرار نتنياهو كرئيس للحكومة.

وأدت التهدئة الإماراتية بعد ذلك إلى تحسن العلاقات مجددا؛ وبلوغها حد منح حق دخول الأراضي الإماراتية للإسرائيليين بدون تأشيرة دخول. 

وكانت علاقات أبوظبي مع الكيان الصهيوني قد أدت لتعميق هذه العزلة، كون غالبية دول المنطقة من أنصار منطق "السلام البارد"، وأسهم في تعزيز العزلة استنادا لهذا العامل أن السعودية لم تتجه بعد باتجاه التطبيع مع الكيان الصهيوني رغم حصولها على الأساس الجيوسياسي من مصر (تيران وصنافير)؛ وهو الأمر الذي يخلق فضاء جيوسياسيا بين البلدين يستوجب توقيع اتفاقية لتنظيم التعامل حوله، وتعزيز العلاقات العسكرية والتقنية بين البلدين (8). 

هذا علاوة على اللقاءات السرية العديدة التي جمعت ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق "بنيامين نتنياهو" (9).

ومن جهة ثالثة، فإن مصادر العزلة تواصلت بنقل الولايات المتحدة لـ"إسرائيل" من "القيادة العسكرية الأميركية في أوروبا" أو "United States European Command" المعروفة اختصارا باسم "يوكوم"؛ إلى "القيادة المركزية للولايات المتحدة" أو "United States Central Command" المعروفة اختصارا باسم "سنتكوم" في نهاية يناير /كانون الثاني 2021 (10).

نقل الكيان الصهيوني إلى "سنتكوم" يعني ضعف التأثير العسكري للإمارات على مصر، وانتقال مركز التأثير العسكري والإستراتيجي منها إلى "إسرائيل" (11)، الأمر الذي سيكون له تداعيات واضحة على النفوذ الإماراتي العسكري والإستراتيجي على القاهرة.

فمن شأن واقعة نقل الكيان الصهيوني إلى القيادة المركزية الأميركية أن ينقل مركز الثقل العسكري بالمنطقة إلى "إسرائيل" التي ستعد التعبير الأول عن "سنتكوم"، ويضعف من استجابة القاهرة للرؤية الإستراتيجية الإماراتية، ويعيد القاهرة لمربع التأثير في العلاقات الفلسطينية– الإسرائيلية، وهو المركز الذي كانت مصر قد فقدته إثر التطبيع الدافئ للإمارات مع تل أبيب.

ومن جهة أخرى، فإن محاولات كل من مصر والأردن تطبيع العلاقات مع تركيا اصطدمت بحجر العثرة الإماراتي، حيث لعبت أبوظبي دورا كبيرا في الضغط من أجل عدم إنفاذ المصالحة التركية مع كلا البلدين (12)، وهو ما ترتبت عليه آثار كبيرة، بلغت حد المواجهة بين تركيا وكلا البلدين.

فمن جهة، بلغت العلاقات التركية– الأردنية حد المواجهة، بعد أن دخلت الأردن على خط الحشد الموالي لأثينا في شرق المتوسط وبحر إيجة (13)، وهي الخطوة التي تنطوي على ارتفاع التنسيق بين عمان وتل أبيب في أحد أبعادها، لكنها تمثل مسارا لم يكن ممكنا سلوكه لو أن الأردن لم يواجه ضغوطا تدفعه باتجاه التجاهل الإستراتيجي لتركيا.

ومن جهة ثانية، فإن الضغوط الإماراتية على مصر دفعت الأخيرة في مسارات إستراتيجية كذلك، بلغت أوجها بالمشاركة مع كل من السعودية واليونان والإمارات في تدريبات للقوات الخاصة على الحدود البحرية التركية (14)، وهي مسارات يصعب تبريرها في إطار تعقد العلاقات المصرية– التركية. 

وفيما تسارع ملف المصالحة الأردنية– التركية متمثلا في تصديق تركيا على اتفاقية التعاون الاقتصادي بين البلدين في أغسطس /آب 2021 (15)، ما زال الملف المصري– التركي معقدا.

وهو ما تمثل في اتجاه تركيا للتلميح للاستجابة للطلب الإثيوبي باحتمال توريدها مسيرات "بيرقدار تي بي 2" التركية لمواجهة التمرد الحادث في بعض أقاليم الجمهورية (16)، وذلك بعدما جربت إثيوبيا "مسيرات مهاجر" الإيرانية؛ والتي لم تلبِ طموحاتها (17). ما دفع مصر لطلب الدعم الدولي لإلغاء هذه الصفقة (18).

وكانت إثيوبيا قد شهدت اضطرابات أهلية تقف وراءها الاستخبارات المصرية، في محاولة للضغط عليها بخصوص ملف سد النهضة"؛ الذي تمثل قضية عدم الاتفاق على معدل ملئه هاجسا للجانب المصري.

وبرغم تعقد الوضع مع مصر، فإن الأردن لعب دورا كبيرا (19)، وبتحفيز من القاهرة منذ فبراير/شباط 2021، لدفع الإمارات باتجاه مراجعة علاقتها بتركيا، وهو الوضع الذي بدأت أبوظبي تتخذ فيه مسارا سريا منذ أبريل /نيسان 2021، وصارت مؤهلة لخوض خطوة بارزة في إطاره.

ج. الضغوط الأميركية على المنطقة: لا يمكن النظر لتطور العلاقات الإماراتية– التركية، كذلك، من دون النظر لضغوط الولايات المتحدة على المنطقة، والتي دفعت الإمارات لمراجعة عدد من أدوارها الإقليمية.

 علاوة على اتجاهها للبحث عن أنماط شراكة جديدة، يمكنها من خلالها تحييد السياسة الخارجية الأميركية تجاه الإمارات، وهو ما تلمسته الأخيرة في كل من الصين وروسيا وتركيا.

ترغب الإمارات في تفادي الضغوط الأميركية من خلال فتح باب واسع للصين فيما يتعلق بالتعاون التقني متمثلا في الجيل الخامس للاتصالات (20)، كما لجأت للشراكة العسكرية مع روسيا في أكثر من مجال (21)، أبرزها المشاركة في تطوير الطائرة "سو 57"، وهو ما تهدف منه للحد من شروط الولايات المتحدة في توريد دفعة سريعة من طائرات "إف 35" (22)، وتجنيب الإمارات ضغوط إيطاليا فيما يتعلق باقتناء هذه الطائرة (23)، فضلا عن الحد من ضغوط الولايات المتحدة لكبح التعاطي الإماراتي مع الصين.

وكانت "إدارة بايدن" قد وضعت عدة شروط على بيع طائرات "إف 35" للإمارات، من بينها عدم منح صفقة الجيل الخامس للاتصالات لشركة "هواوي" الصينية.

أما العلاقات مع الكيان الصهيوني فتمثل بابا خلفيا للتأثير في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، علاوة على الدوافع الاقتصادية والتقنية والأمنية للإمارات جراء هذا التعاون. 

وتأتي العلاقات مع تركيا في إطار تأمين استثمارات الغاز الإماراتية، سواء من باب كف الضغوط التركية، أو كف ضغوط المقاومة الفلسطينية؛ والتي كانت قد وصلت حد تهديد حقول الغاز الإسرائيلية إبان معركة "سيف القدس" مايو/أيار 2021، عبر الغواصات المسيرة (24).

وفي إطار الضغوط الأميركية على الإمارات، والتي لا يمكن للأخيرة تجاهلها؛ حتى وهي تبحث عن شركاء جدد للضغط بهم على الولايات المتحدة، وجدت أبوظبي أن هذه الضغوط ستدفعها نحو سلسلة من الانسحابات الإقليمية (25)، قد تخدم علاقتها بتركيا أو على الأقل تجنبها الصدام بها.

 ومن ثم، حرصت على استغلال هذه الضغوط، لتمرير سياسة جديدة نحو تركيا، تستفيد فيها من هذه الانسحابات التي ستضطر إليها في كل من ليبيا والقرن الإفريقي وشرق المتوسط (26)، في تعزيز علاقتها مع أنقرة.

د. استمرار جهود احتواء إيران: ومع وصول طالبان مجددا إلى سدة السلطة في أفغانستان، فقدت كل من الإمارات والسعودية نفوذهما في أفغانستان، فيما اتجه النفوذ الإيراني للتزايد فيها بشكل ملحوظ، ما شكل مبعث قلق للإمارات (27).

ويمكن القول بأن أحد أوجه استفادة الإمارات من تحسين نوعية العلاقة مع تركيا يتمثل في استمرار مساعي الدولة الخليجية نحو احتواء المشروع الإقليمي الإيراني (28).

إذ تسعى الإمارات في هذا الصدد لدعم النفوذ التركي في أفغانستان، واستثماره لمنع إيران من اكتساب مزيد من الانفتاحات الإقليمية. 

ومن جهة ثانية، تسعى أبوظبي إلى إعادة بناء علاقاتها مع طالبان على أسس أكثر براغماتية، وتحاول تحرير نفسها من موقف السعودية المناهض للحركة. وكان منطقيا– في هذا الإطار- أن تضم الإمارات هذه المحاولات لحزمة الأهداف التي تحاول معها التقرب من تركيا.


المحور الثاني: ملفات المباحثات الإماراتية التركية

ثمة عدة ملفات اتفق الطرفان على ترتيبها في إطار عملية المصالحة التي تمت بينهما، سواء أكانت مؤقتة أم طويلة الأمد نسبيا. 

وكان توقيت المكالمة الهاتفية المؤرخ لها في الأول من سبتمبر/أيلول 2021 (29)، بين كل من الرئيس التركي وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد موعد بدء التواصل لبناء تفاهمات حول هذه الملفات.

وتمثلت هذه الملفات في الأمن الاقتصادي والسياسي للدولتين، متضمنا معلومات استخباراتية بخصوص ملف الانقلاب، وملف بعض كوادر جماعة الإخوان المسلمين، علاوة على ملفات شمال العراق وليبيا والقرن الإفريقي، وملف الاستثمارات الإماراتية في تركيا. ويضاف لذلك أيضا بعض الترتيبات الخاصة بالوجود العسكري الفرنسي والإسرائيلي في الإمارات.

أ. مباحثات الأمن الاقتصادي: يمكن القول إن التفاهمات التركية الإماراتية الأخيرة تجد مفتاحها الأساسي في مقاصة للأمن الاقتصادي، تعمل فيها الإمارات من جهة، على وقف النزيف الاقتصادي الذي تسببه للدولة التركية في مقابل دور تركي إيجابي أو سلبي أو كليهما في تأمين استثمارات أبوظبي من الغاز في شرق المتوسط.

فمن جهة، كانت تركيا مجالا لحرب دولية للعملة؛ انخرطت فيها مصارف أميركية وفرنسية وإماراتية خلال الفترة ما بين 2016 و2020.

هذه الحرب أدت إلى خسارة الليرة التركية قدرا عاليا من قيمتها. وبصرف النظر عن استغلال تركيا لهذه الحرب وتداعياتها في دعم القدرة التنافسية لصادراتها (30)، فإن التعرض لهذه الحرب بصورة غير مخططة يختلف في تداعياته عن التخطيط لخفض تدريجي لقيمة العملة من عدة أوجه، أبرزها تأثير طريقة إدارة عملية خفض قيمة العملة على الرأي العام الداخلي. 

ويشير مراقبون إلى ارتفاع تكلفة حرب العملة هذه، حيث بلغت نسبة التضخم معها نحو 19 بالمائة، كما يشيرون إلى ارتفاع تكاليف المعيشة، واضطرار البنوك الحكومية التركية لبيع 128 مليار دولار من الاحتياطي الأجنبي في العام 2020 لدعم الليرة (31). 

اتجهت الإمارات لبناء هذه المقاصة الأمنية الاقتصادية مع تركيا، مع اتساع مؤشرات قصور عدد من القوى الإقليمية مثل اليونان وفرنسا ومصر وحتى "إسرائيل" على إدارة الأزمة بنجاح.

وكانت الإمارات هنا تهدف إلى دفع تركيا للانصياع لشروطها فيما يتعلق بشرق المتوسط، لكن إصرار أنقرة على دفع المواجهة مع هذه القوى نحو الحافة باستمرار، وحدوث صدامات عسكرية محدودة بين تركيا من جانب وكل من اليونان وفرنسا وحتى إسرائيل من جانب آخر، دفع الإمارات للتناول.

وتقوم المقاصة الأمنية الاقتصادية على مبادلة بين عاملين:

1. تمتنع الإمارات عن خوض مغامرات اقتصادية ضد تركيا، ومن قبيل ذلك حرب العملة وغيرها من أدوات المواجهة الاقتصادية، هذا فضلا عن معلومات استخباراتية حول المواجهات المالية السابقة.

2. وفي مقابل ذلك، تلعب تركيا دورا أمنيا، سلبيا أو إيجابيا أو كليهما فيما يتعلق بالاستثمارات الإماراتية في غاز شرق المتوسط. 

ويكون الدور التركي الأمني سلبيا لصالح الإمارات عبر الامتناع عن تهديد المصالح الإماراتية، أو العمل ضدها. 

كما قد يكون هذا الدور إيجابيا بالتدخل لمنع تهديد المقاومة الفلسطينية لهذه الاستثمارات في المستقبل، على نحو ما حدث خلال خواتيم عملية "سيف القدس" (32).

ويرتبط بهذا المسار أن تكف الإمارات يدها العسكرية عن الحدود التركية اليونانية، فضلا عن كف يدها عن تمويل عملية التصعيد الأمني في شرق المتوسط، باعتبارها والسعودية من ممولي التصعيد، وهو ما تهتم به الإمارات حاليا كون التصعيد الأمني في شرق المتوسط في الوقت الراهن لا يخدم مصالحها المباشرة.

ويرتبط بهذا التوجه كذلك، اتجاه الإمارات لتعميق فصل الاقتصاد عن السياسة، والامتناع عن تعزيز أية جهود لمقاطعة البضائع التركية، وهو الأمر الذي كانت قد نجحت فيه جزئيا مع المملكة السعودية من قبل.

ب. ملف الاستثمارات الإماراتية في تركيا: يعد ملف الاستثمارات الإماراتية في تركيا أحد أهم الملفات التي تضمنتها التصريحات الأولى لطحنون بن زايد بعد لقائه أردوغان.

وصرح بها كذلك مسؤولو الصناديق السيادية الإماراتية (33)، كما تحدث عنها الرئيس التركي بنفسه في مقابلة تلفزيونية أعقبت هذا اللقاء بعدة أيام (34).

وبالنظر إلى ولع الإمارات بالاستثمار في السلاح (35)، ولكونها، من قبل المصالحة، ثالث أكبر مستورد للسلاح التركي (36)، فإن أولى الاستثمارات الإماراتية ذهبت لشركات السلاح التركية.

واتجهت الإمارات لتمويل عدد من مشروعات التسليح التركية، وعلى رأسها مشروعي تطوير الصاروخ البحري التركي "أطمجة" والسلاح الليزري "نازار" (37). 

ويمكن القول بأن صناعة السلاح كانت ثاني أكبر دوافع الإمارات للتواصل مع تركيا، وكانت فاتحة التواصل متمثلة في ذلك التعاقد بين أكبر شركات السلاح الإماراتية "إيدج" وشركتي "أوكروبورنبروم" و"أوكروسبيس إيكسبورت" المملوكتين للدولة الأوكرانية في فبراير /شباط 2021 (38)، هذا فضلا عن منافسة قطر على كعكة صناعات السلاح التركي.

وقبيل المصالحة، بلغ إجمالي حجم الاستثمارات الخليجية في تركيا نحو 13 مليار دولار بحسب بيانات رسمية.

وبلغ حجم استثمارات الإمارات في تركيا نحو 4.3 مليارات دولار بنهاية 2019 (39).

وضخت صناديق الثروة السيادية لأبوظبي استثمارات لافتة في الآونة الأخيرة في شركات تركية عديدة، وفق ما نقلت "رويترز"، منها شركة "جيتير" لخدمات توصيل البقالة إلى المنازل عبر الإنترنت، ومنصة البيع بالتجزئة "ترينديول".

كما استحوذت شركة "فينيكس" الإماراتية للسكوتر، على شركة "بالم" التركية الرائدة في مجال التنقل الخفيف (السكوتر الكهربائي)، مقابل 43 مليون ليرة تركية (نحو 5 ملايين دولار أميركي). 

وفي 9 سبتمبر /أيلول 2021، أفادت وكالة "رويترز" البريطانية بأن شركة الشحن "أرامكس"، ومقرها دبي، تجري محادثات لشراء شركة "MNG" التركية للشحن، ونقلت عن مصادر مطلعة على مفاوضات الاستحواذ أنها وصلت إلى "مستوى متقدم"، في حين قال أحد المصادر إن حجم الصفقة المحتملة قد يصل إلى 500 مليون دولار (تعد "MNG" من أبرز شركات الشحن في تركيا، ولديها أكثر من 850 فرعا وأكثر من 11000 موظف في ذلك البلد). 

ومن جهة أخرى، أعلنت شركة طيران "الإمارات" أنها ستشغل بعض رحلاتها إلى إسطنبول بأكبر طائرة ركاب في العالم "A380"، اعتبارا من أكتوبر /تشرين الأول 2021. 

كما نقلت وسائل إعلام تركية أن شركة "International Holding"، التي يرأسها مستشار الأمن القومي الإماراتي، تعمل على تقييم فرص الاستثمار في تركيا ضمن قطاعات مثل الصحة والصناعة وتجهيز الأغذية (40).

ج. المباحثات حول شمال العراق: على اعتبار أن ملف الحدود الجنوبية لتركيا يمثل بالنسبة للأخيرة قضية "أمن قومي"، فإن ملف العراق كان أحد أبرز العناوين التي نوقشت خلال اتصال القيادتين التركية والإماراتية المشار إليه عاليه. 

وكانت تقارير استخباراتية مسربة أشارت إلى أن ثمة دورا تلعبه المخابرات الإماراتية في دعم مبكر لحزب العمال الكردستاني "بي كا كا" وامتداداته منذ عام 2015 (41) ما يعد تهديدا مباشرا للأمن القومي التركي. واستمر هذا الدعم حتى أشهر قلائل قبيل المصالحة؛ كما تمدد من الدور الاستخباراتي إلى الدور العسكري (42).

وخلال الفترة الماضية، اتجهت الإمارات لاحتواء النفوذ الإيراني في العراق، وذلك متابعة للتوجه السعودي عبر دعم انفتاح هذا البلد على القوى السنية العربية، ما تمثل في وضع أبوظبي خطة استثمارات لبغداد بدأتها بضخ دفعة مقدمة بقيمة ثلاثة مليارات دولار في العراق (43).

ولم تلبث الإمارات أن طورت فكرة الانفتاح على الدوائر السنية باتجاه ضم أنقرة لهذه الدوائر، باعتبار تركيا أحد أبرز القوى الإقليمية القادرة على توفير إطار لاحتواء المشروع الإقليمي الإيراني، سواء أيديولوجيا أو عسكريا.

وتشير تقارير استخباراتية مسربة- في هذا الإطار- إلى أن ولي عهد أبوظبي التزم أمام الرئيس التركي بعدم دعم مخابرات بلاده لحزب العمال الكردستاني أو أي من امتداداته في العراق وسوريا (44).

د. المباحثات حول ليبيا: كان الملف الليبي– الحيوي بالنسبة للنظرة الجيوسياسية التركية– أحد أهم العناوين التي طرحت خلال مكالمة أردوغان– ابن زايد. 

ويفيد تقرير استخباراتي تركي مسرب بأن النقاش حول هذه القضية اقتصر على ترك مسار شرق ليبيا للسلطات المصرية، وكبح سقف التسلح في الشرق، ومنعه من أن يبلغ مستوى السلاح الثقيل (45)، حيث لا ترغب تركيا في كبح الحضور الجيوسياسي الإماراتي في ليبيا، ولا ترى أنه يمثل تهديدا لها، وتقصر التهديد على حدوث الاختلال في ميزان القوة العسكرية بين النظام الشرعي والقوى المنفلتة.

هذه الخطوة من شأنها أن تقصر الحضور المصري في الشرق الليبي على مستويي الاستخبارات والتدريب، وهو مستوى يمكن أن تتعاطى معه تركيا رغم معارضتها التحرك من خارج المؤسسات المعترف بها دوليا. 

وهو الأمر الذي دفع تركيا أكثر من مرة لرفع درجة حضورها العسكري في الغرب الليبي للمحافظة على التوازن مع الحضور المصري الذي تتفهمه؛ لكنها ترغب في منع تجاوزه لسقف التفاهمات الدولية حول المستقبل الليبي.

خفض مستوى التسليح من شأنه أن يفسح الباب أكثر أمام احتمال نجاح الترتيبات الدولية والتفاهمات الأميركية- التركية حول إنجاح الحل السياسي من بوابة الاستحقاقات التشريعية والرئاسية، وهو ما بدأت ثماره تطل برأسها على استحياء في تباشير المصالحة (46).

وتهدف تركيا جراء هذه الضغوط والمطالب إلى أن تضمن أن يكون التعامل مع الاتفاقات التي أبرمتها مع السلطات الليبية تعاطيا مؤسسيا ليبيا قائما على أساس المصلحة الليبية؛ وغير متأثر بتدافعات النفوذ الإقليمي؛ وبخاصة المصري– الفرنسي- اليوناني.

هـ. المباحثات حول القرن الإفريقي: مع قلة المصادر الرسمية حول ملامح التفاهمات التركية– الإماراتية بشأن القضايا الإقليمية، تلفت تقارير اسخباراتية إلى أن مكالمة الرئيس التركي وولي عهد أبوظبي تطرقت إلى الوضع في القرن الإفريقي، من دون الإشارة لفحوى التفاهمات حول هذا الملف أو حتى حول خطوطه العريضة (47).

من المهم في هذا الإطار أن نلفت إلى أن أحد مرامي الترتيبات الأميركية للحضور في شرق إفريقيا قد أفضت إلى أن إقدام الإمارات على تفكيك قاعدتها العسكرية في ميناء "عصب" الإريتري، وهي القاعدة التي طورتها عن قاعدة إيطالية قديمة في هذه المنطقة، وارتبط اسم هذه القاعدة العسكرية بعدد من القضايا، منها (48):

1. اتخاذها منطلقا للدعم اللوجيستي لقواتها وقوات حلفائها في اليمن، علاوة على تضمينها واحدة من أحدث المستشفيات الميدانية في منطقة الشرق الأوسط.

2. ارتبط اسم هذه القاعدة، كذلك، باتهام المتمردين في إقليم "تيغراي" الإثيوبي في نوفمبر /تشرين ثان 2020 للإمارات بقصف مواقعهم بطائرات مسيرة من هذه القاعدة.

3.  كما سبق أن اتهمت حكومة الوفاق الليبية الإمارات بتهريب أسلحة إلى الشرق الليبي عبر هذه القاعدة.

5. ولفت خبراء إلى أن هذه القاعدة تضمنت ثكنات عسكرية استضافت عسكريين إماراتيين ويمنيين وسودانيين جرى نقلهم إلى عدن على متن سفينة SWIFT-1 التي تعرضت في عام 2016 لهجوم على أيدي قوات جماعة الحوثيين. 

وليس مستبعدا أن تكون مقرا لتدريب قوات المرتزقة الذين كشف عن تجنيدهم لصالح قوات الشرق الليبي.

في هذا الإطار، يمكن القول إن التفاهمات حول القرن الإفريقي تضمنت عدة محاور:

1. تفكيك أجزاء من هذه القاعدة لا يعني بالضرورة أنها في طريقها لأن تزال كليا، لكنه قد يعني ضمنا أن يكون هناك ترتيبات لتوظيف هذه القاعدة في إطار العلاقة بين الدولتين، بحيث لا ينطوي استخدام هذه القاعدة على تهديد للوجود التركي في الصومال، أو أي تهديد آخر للوضع في ليبيا.

2. التنسيق مع الإمارات فيما يتعلق بحدود التصعيد بين الفرق الاستخباراتية والميدانية التركية والمصرية الموجودة في الشرق الإفريقي، والحد من إمكانية تطور المواجهة في هذا الصدد.

3. السعي لبناء تصور توافقي حول مصالح الدولتين في منطقة القرن الإفريقي.

4. احتمال طلب تركيا توفير قدر من التنسيق الاستخباراتي بين دائرتي وجود الدولتين في منطقة القرن الإفريقي.

5. التنسيق فيما يتعلق بالموقف من النزاع المصري الإثيوبي حول ملف سد النهضة، خاصة وأن الإمارات حملت رفضا واضحا للدور الاستخباراتي المصري في إثيوبيا، في وقت حاولت فيه تركيا إبداء قدر من الاحترام لمصالح مصر المائية؛ دون أن تعير سلطة السيسي أي اهتمام للتريث التركي في التعاون العسكري مع "أديس أبابا".

و. المباحثات حول أمن النظامين التركي والإماراتي وجماعة الإخوان: كانت قضية أمن النظامين الإماراتي والتركي، وحتى المصري، من بين عناوين التفاهمات التي شملها اتصال أردوغان وولي عهد أبوظبي. وقد ارتبطت التفاهمات في هذا الصدد بما يمثل مخاوف للنظامين التركي والإماراتي.

فمن الجانب الإماراتي، تخشى أبوظبي جماعة الإخوان المسلمين وامتداداتها في الخليج، والتي سبق لها– ضمن مسيرة الربيع العربي– أن أنتجت حالة حراك في الشارع طالب بأن تتحول تلك الدولة باتجاه التأطير السياسي / الدستوري، فتتحول إلى إمارة دستورية. 

أما على صعيد تركيا، فثمة مخاوف من خبرات عدة تمثلت في محاولة الانقلاب العسكري يوليو /تموز 2016.

 وكشف المخابرات التركية عن ترتيبات لاغتيال الرئيس رجب طيب أردوغان، وهو ما يؤكده التزامن بين زيارة الرجل لمحطة "أكويو" للطاقة النووية في مدينة "مرسين"، وتجريد الشرطة المحلية للمدينة من الذخيرة (49)؛ والقبض على غالبية عناصر خلية لتنظيم الدولة (11 من أصل 15 صدر بحقهم مذكرة توقيف)، والتي سبق أن أعلنت مسؤوليتها عن تنفيذ عدد من العمليات الإرهابية في تركيا (50)، ما يعزى للهواجس الأوربية– الأميركية– الإسرائيلية من "تركيا النووية" (51). 

هذا إلى جانب ترتيبات المنهج السياسي لبعض كوادر جماعة الإخوان المسلمين المتواجدين في تركيا.

وتفيد المقدمات المتعددة التي شملها ترتيب اللقاء اتجاها للتفاهم حول ترتيبات متبادلة بين الطرفين، يمكن إيجازها فيما يلي:

1. إدارة عودة العلاقات عبر طحنون بن زايد يعني أن الترتيبات الأمنية تسبق غيرها. 

وإذا كان مسار الأحداث اللاحقة قد كشف عن اتجاه للتعاون الأمني المحلي، سواء عبر تزويد الإمارات لتركيا بمعلومات عن انقلاب 2016 (52)، أو بعد طلبها تدقيق بيانات بعض أعضاء جماعة الإخوان، فإن التواصل يقوم على أساس توفير دعائم لاستقرار الوضع السياسي التركي.

2. بعد قلق الخليج، وبخاصة السعودية والإمارات والكويت من النشاط الإسلامي بها، واهتمام أبوظبي ببدء التنسيق الأمني بطلب معلومات حول بعض كوادر جماعة الإخوان في تركيا (53)، يمكن القول بأن ملف الإسلاميين في أنقرة ونشاطهم الإقليمي، يمثل أحد أهم ملفات التواصل الإماراتي التركي.

كما أنه من الواضح أيضا أن تركيا وضعت سقفا لطموحات كل من الإمارات ومصر في هذا الصدد بالإبقاء على التنسيق الأمني في هذا الملف على مستوى المعلومات.

الطلب الإماراتي في هذا الصدد يتعلق بادعاءات تفيد بـ"تورط 20 اسما من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الموجودين في تركيا في أعمال عنف". فيما تشير وسائل إعلام إماراتية إلى كونهم 15 اسما فقط (54).

ويتعلق أسلوب التعاطي الإماراتي مع الملف، عبر تنقيح التقرير المصري، وقصر المطالب على تدقيق المعلومات (55)، بإدراك الاستخبارات الإماراتية أن أجهزة الأمن التركية لن تلتفت لأي طلب مصري بهذا الصدد، لثلاثة عوامل:

- أولها يتعلق بالموقف المبدئي للرئيس التركي من عملية تسليم "معارضين" بشكل عام؛ و"إسلاميين" بشكل خاص، لدولة تكن عداء أيديولوجيا لهم، حتى وإن بادر رأس سلطة 3 يوليو لإعلان استعداده للقبول المشروط لفكر هذا التيار. 

- العامل الثاني يتعلق بعدم ثقة أجهزة الأمن التركية في سلامة إجراءات التحقيق والتحري والعدالة المصرية بشكل عام. هذا العامل غير منبت الصلة بالعامل السابق. فعدم ثقة السلطات التركية في مسار العدالة والأمن في مصر يرتبط بموقف مبدئي تركي، أو بموقف مبدئي للرئيس أردوغان في المقام الأخير.

- أما العامل الثالث فيتمثل في أن أجهزة الدولة التركية ترى أن مصر لم تول الاحترام الكافي لبادرات التقارب التي أطلقتها تركيا، وهي البادرات التي ارتبطت باحترام حقوق الدولة المصرية، والأمن المائي والبحري للمصريين.

غير أن رد فعل الدولة التركية كان حازما و"دولتيا" وليس فصائليا، حيث قررت منع الأسماء العشرين من السفر إلى خارج تركيا. 

وفي تقديرات المراقبين، فإن المعلومات التي سلمتها الإمارات عن انقلاب يوليو /تموز 2016 كانت دقيقة وأمنية من درجة عالية، وتتضمن شرائح معلوماتية عن تورط قوى كبرى في العملية بتفاصيل دقيقة، وأن هذا الإجراء؛ المبدي لحسن النية الإماراتية؛ يتطلب على الأقل مبادلة من نفس المستوى، أي "معلوماتية".

ويرتبط بهذا الإجراء أمران آخران، وهما:

الأمر الأول يتعلق بزعيم مافيا التركية "سادات بكير"، والذي غادر الإمارات لدولة لاتينية، ما يمنح تركيا بديلا بالمبادلة بالمثل؛ عبر السماح لهذه الأسماء بالرحيل من البلاد وهو أفضل الافتراضات، في حال ثبوت تورطهم فعليا.

الأمر الثاني يتعلق بمصير "محمد دحلان" القيادي المفصول من حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"؛ والذي غدا فيما بعد مستشارا أمنيا لولي عهد الإمارات.

وجمدت الإمارات نشاط دحلان ووضعته قيد الإقامة الجبرية (56)، فهل يكون تسليمه ثمنا لتسليم الكوادر الإخوانية؛ حال تدقيق المعلومات الإماراتية بصددها؟ وهل تدفع أبوظبي هذا الثمن الباهظ نيابة عن القاهرة؟


خاتمة

تعيد الإمارات حساباتها فيما يتعلق بتوجهاتها الإقليمية والدولية، بعض المراجعات التي أنتجتها تكتيكية، وبعضها ما زال محلا للتقييم، تكشف قادم الأيام عن مدى استقرارها. العلاقات الإماراتية– التركية أحد أوجه المراجعات، والتي يصفها البعض بالترحيل المؤقت للخلافات، فيما يقف هدفان إستراتيجيان وراء المراجعة المتعلقة بتركيا بصورة خاصة.

أول هذين الهدفين يتعلق بالاستثمارات الإماراتية في شرق المتوسط، وهو ما يخلق نمط مصالح قابل للاستقرار ما دامت تركيا في حال تصاعد للقوة الصلبة، من جهة، وفي توظيف فعال لقوتها الناعمة، وبخاصة أداتها الدبلوماسية، من أجل دعم مكاسب القوة الصلبة، وتحويلها لمربع الاستدامة لأطول فترة ممكنة. 

أما الهدف الثاني فيتعلق بصناعة السلاح. وتبدو تركيا في هذا الإطار قوة صاعدة في مجال الصناعات الدفاعية والبحث العلمي المرتبط بها، وهو ما يمثل رافدا مهما للقوة الناعمة التي تغري الإمارات بالتعاطي معها، كما أنها قابلة للاستدامة لفترة طويلة ما استمرت سياسة الاهتمام بالبحث العلمي في هذا المجال، وما تواصل سعي أنقرة للتجديد في تقنيتها الدفاعية.

الإمارات في مساعي مراجعة علاقتها بتركيا مدفوعة أولا بمصالحها الاستثمارية، وثانيا بضغوط إقليمية راغبة في "التطبيع" معها وإن كانت هذه الرغبة متذبذبة بواقع التدافع بين مراكز الحكم في دول بحجم مصر، وبموجب ضغوط عالمية في دول مثل تونس، وتحت وطأة الحاجة المالية مثل الأردن. 

ومن جهة ثالثة، فإن الضغوط الأميركية تفرض نمطا إماراتيا من أنماط تعديل مسارات السياسة الخارجية، هذا علاوة على الرغبة في احتواء إيران من مداخل العراق وأفغانستان. وما زال محلا للتساؤل؛ ما إذا كان ثمة ما تريد الإمارات نيله من تركيا من خلال علاقة التوافق؛ لم تتمكن من نيله في إطار العلاقة الصراعية، وبخاصة فيما يتعلق بالمستوى الأمني المرتبط بموقف الإمارات من جماعة الإخوان.

تمكنت الدولتان من وضع ملامح تفاهمات بخصوص محكات خلافاتهما في كل من العراق وليبيا والقرن الإفريقي، كما اتفقتا على إنتاج مسارين للأمن الاقتصادي والسياسي في إطار علاقتهما الثنائية. وواضح من مسار العلاقة حتى الآن أن ثمة اعترافا واضحا بمكانة أعلى لتركيا في المنظومة الإقليمية.

 وهو ما ينعكس على نسق المطالب التي تتقدم بها الإمارات، ونمط الاستجابات التي تقدمها تركيا في إطار هذه العلاقة.