الوساطة التركية بين إثيوبيا والسودان.. التوقيت والدلالة والتداعيات

قسم البحوث | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

مقدمة

أولا: ما تريده تركيا من إفريقيا

ثانيا: زيارة البرهان

1. قراءة في الزيارة

2. الزيارة في إطار تطور العلاقات بين البلدين

ثالثا: زيارة آبي أحمد

1. قراءة في الزيارة

2. الزيارة في إطار تطور العلاقات بين البلدين

رابعا: زيارة طحنون

خامسا: ردة الفعل المصرية.. الوساطة الإسرائيلية ومقدماتها

خاتمة


مقدمة

خلال أغسطس/آب 2021، شهدت تركيا 3 زيارات ترتبط بعضها أو جميعها بملف سد النهضة الإثيوبي، أولاها زيارة رئيس المجلس الرئاسي الانتقالي بالسودان عبد الفتاح البرهان، التي أثارت موضوع تسوية النزاع بين الخرطوم وأديس أبابا.

كما جاءت زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي "آبي أحمد"، التي أثارت ملف سد النهضة، والنزاع الحدودي مع السودان، والتحدي الأمني لإقليم "تيغراي"، وما تبعه من أحداث، حيث طالب "أحمد" بوساطة تركية في هذه الملفات.

أما ثالث الزيارات، فتمثلت في زيارة مستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد، التي تزامنت مع زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي. ولم يصرح أي من المسؤولين بانطوائها على طرح قضية "سد النهضة"، لكن المتغيرات تكشف عن هذا الطرح.

ماذا وراء هذه الزيارات الثلاث؟ وكيف تعمل تركيا على توظيفها حيال أهدافها في إفريقيا؟ وما هي ردود الفعل المصرية؟ وكيف دخلت "إسرائيل" على خط الملف؟ وما حدود دورها؟ هذه الدراسة تحاول طرح إجابات على هذه الأسئلة.


أولا: ما تريده تركيا من إفريقيا

تولي تركيا أهمية فائقة للحضور في القارة السمراء، وقد تضاعَف عدد السفارات التركية في إفريقيا إلى 4 أضعاف خلال العقدين الماضيين، ليصل إلى حوالي 43 سفارة، منها 30 سفارة افتتحت بعد عام 2009.

في هذا الإطار، افتتحت أنقرة خلال الفترة الأخيرة سفارتين جديدتين لها في كل من توغو وغينيا الاستوائية، وذلك بهدف تعزيز العلاقات والحضور التركي في المنطقة

الحدود الدنيا من شروط الحضور والتدخل التي تضعها تركيا، مقارنة بالشروط المجحفة التي تضعها الدول الكبرى، تغري الدول الإفريقية بالاستعانة بالأتراك لمواجهة الأزمات التي تطرأ في أنحاء القارة. 

واتسع نطاق اهتمام تركيا بالقارة الإفريقية خلال العقدين الأخيرين، سواء في غرب القارة أو شرقها، لعدة أسباب، منها:

1. يحرك تركيا في المقام الأول عدد من الدوافع الأمنية، تتمثل في مواجهة تدفقات الهجرة غير الشرعية، ومعاونة الاتحاد الإفريقي في مجال مكافحة الإرهاب في الساحل والصحراء، والمشاركة في أداء دور أمني في قوة الساحل الخمس التي تحمل ذات الهدف. 

ومن بين الأهداف التركية في هذا الصدد مواجهة التنظيم الدولي لـ"جماعة الخدمة" (تنظيم فتح الله غولن الذي تصنفه أنقرة إرهابيا)، والتي تنتشر من خلال شبكة مدارس دولية واسعة. كما يطل شرق القارة على مناطق إستراتيجية هامة مثل "خليج عدن" والقرن الإفريقي.

2. موازنة نفوذ الدول المنافسة لها إقليميا في القارة الإفريقية، وبخاصة فرنسا و"إسرائيل". وتهدف التحركات التركية بشكل أساسي إلى إعادة تشكيل المحاور الإقليمية وميزان القوى الدولي في هذه المنطقة.

3. تسعى تركيا إلى تكوين شبكة حلفاء إقليميين تربطهم بها وبليبيا مصالح جيوبوليتيكية، ومن بينهم النيجر وتشاد، والتعامل معهم كنقطة ارتكاز مستقبلية لمواجهة التحديات في الغرب الإفريقي. 

وتمتد أهمية تشاد والنيجر لارتباطهما بتأمين الوجود التركي في ليبيا.

4. الحصول على دعم الدول الإفريقية الفاعلة في الاتحاد الإفريقي لاستمرار الوجود التركي في ليبيا، وذلك بهدف تقوية موقف تركيا في معادلة تسوية الأزمة الليبية مستقبلاً.

5. تحرص تركيا على المشاركة في إنهاض إفريقيا، والاستفادة من هذا النهوض في تلك القارة التي تضم 54 دولة يزيد عدد سكانها عن مليار نسمة، 70 بالمئة منهم تحت عمر 25.

ويبلغ متوسط الأعمار في إفريقيا 18 عاما، كما أنها ثاني أكبر قارة من حيث المساحة وعدد السكان، إضافة لكونها غنية بالموارد والثروات.

وتعتبر القارة صاحبة الاقتصاد الأسرع نموًّا؛ حيث تقع 10 دول إفريقية ضمن لائحة الدول الأسرع نموًّا في العالم. وتأتي منطقة شرق إفريقيا ثانيةً بعد غرب إفريقيا من حيث سرعة نمو الاقتصاد. وفي 2014، جذبت هذه القارة 55 مليار دولار من 1.26 تريليون دولار من قيمة الاستثمار الأجنبي المباشر.

6. كما ترغب تركيا في ضمان تأمين المصالح الاقتصادية والتجارية لشركاتها في إفريقيا، وإقامة علاقات اقتصادية مع دول المنطقة يمكن أن تؤدي إلى روابط سياسية وأيديولوجية في المستقبل تستطيع أنقرة من خلالها بناء نفوذ قوي في القارة والمنطقة، باعتبارها مساحة حركة معتبرة لأنقرة، والبحث عن فرص للشراكات الاقتصادية في الساحل؛ والتي من شأنها تعزيز مكانة أنقرة كقوة إقليمية ودولية فاعلة، ولدعم الاقتصاد التركي ما يكفل لها الاستمرار في حضورها الإقليمي والعالمي.

وفي هذا الإطار تتحرك أنقرة عبر عدة مسارات، يمكن إيجاز ملامحها فيما يلي:

1. بالنظر للاعتبارات الأمنية والإستراتيجية، اتجهت تركيا خلال الفترة الماضية نحو إضفاء بعد عسكري على سياستها الخارجية في القارة السمراء، ما تمثل في اتفاقيات التعاون الأمني التي أبرمتها التي جمعتها بعدد من دول القارة مثل موريتانيا وجامبيا وكوت ديفوار وتشاد والسودان وغينيا ونيجيريا وبنين والنيجر، مع إشارة مراقبين إلى سعي أنقرة إلى إنشاء قاعدة عسكرية في غرب إفريقيا، وبخاصة النيجر قرب الحدود مع ليبيا، وهو ما يمنحها موطئ قدم علني في دولة إفريقية ثالثة بعد الصومال وليبيا.

وكان البرلمان التركي قد وافق في نوفمبر/تشرين الثاني 2014 على المشاركة في عمليات حفظ السلام الدولية في كلٍّ من مالي وإفريقيا الوسطى. 

كما تجري مؤسسة "صادات" التركية برامج تدريبية عسكرية للعديد من القوات والجيوش الإفريقية علاوة على الاستعداد لتوفير السلاح الذي قد تحتاجه هذه الدول. كما أعلنت أنقرة، في مارس/آذار 2018، عن مساهمات مالية في تمويل قوة دول الساحل الخمس بهدف مكافحة الإرهاب.

2. اتجهت أنقرة لتعميق تواصلها مع عدد من القبائل المنتشرة في النصف الشمالي من القارة، ومن بينهم قبائل الطوارق التي زار 10 من شيوخها وقادتها "تركيا خلال 2020.

 ويرتبط بهذا المسار سعي تركيا لجهود مكافحة "تغريب" القارة، ومعاونة "الطوارق" في دعم الهوية الإسلامية للقارة.

3. وتعمل وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا) في القارة من خلال 22 مكتب تنسيق، وتقدم مساعدات في مختلف المجالات إلى البلدان الإفريقية. وقد نفذت الوكالة العديد من المشروعات في دول المنطقة مثل تشاد والنيجر وغيرهما.

 وتعمل هذه المؤسسة من خلال بناء المدارس والمساجد وترميم الآثار، حيث رممت تركيا على سبيل المثال مؤخرًا قبر ملك الحبشة "النجاشي أصحمة بن أبجر" وعددًا من قبور الصحابة في إثيوبيا.

4. وتمثل "مؤسسة المعارف التركية" التي أنشأتها الحكومة لإدارة المدارس الخارجية التي كانت ترتبط سابقا بـ"جماعة الخدمة" التي يتزعمها "فتح الله غولن" أحد أبرز الأدوات في دعم توجه القوة الناعمة لتركيا، حيث تتحرك هذه المؤسسة عبر 23 فرعاً لها في إفريقيا. 

وعبر العالم تدير هذه المؤسسة نحو 400 مدرسة في 45 دولة، واستطاعت تأسيس مكاتب وممثليات لها في عدد من دول المنطقة، هي تشاد والغابون وغامبيا وغينيا ومالي وموريتانيا والنيجر والسنغال وسيراليون والسودان وتونس.

5. تستخدم تركيا شركاتها الكبرى كمسار للقوة الناعمة، ليسهم في دعم التعاون الاقتصادي بين تركيا وبلدان القارة السمراء، ما أدى بأنقرة إلى أن تصبح شريكاً تجارياً لعدد من دول المنطقة، أبرزها السنغال التي تنفذ الشركات التركية فيها بعض مشروعات البنى التحتية الرئيسة مثل "مركز عبده ضيوف الدولي للمؤتمرات"، و"قصر داكار الرياضي"، و"فندق راديسون"، بالإضافة إلى إدارة "مطار بليز ديان الدولي" لمدة 25 عاماً.

كما استحوذت تركيا على حوالي 29 مشروعاً بقيمة تتجاوز 700 مليون يورو في عام 2018. وفي الكاميرون بنت شركات المقاولات التركية "مجمع جابوما الرياضي" في دوالا؛ بتمويل من "ترك إكسيم بنك" التركي بقيمة 116 مليار فرنك إفريقي.

كما وقعت أنقرة مع مالي في ديسمبر/كانون الأول 2019 من خلال مجموعة "كاليون" التركية مذكرة تفاهم بشأن مشروع إنشاء "متروباص" في العاصمة باماكو.

وضخت تركيا نحو 250 مليون دولار في مشروعات البنية التحتية بالنيجر، واستطاعت مجموعة شركات تركية الفوز بعقود ضخمة أبرزها بناء "مطار نيامي الجديد" بتكلفة 154 مليون يورو، علاوة على تنامي التعاون التركي النيجيري في القطاع النفطي. 

واستحوذت "مجموعة البيرق التركية" على "ميناء كوناكري المستقل" في غينيا لمدة 25 عاماً، باستثمارات تتجاوز 700 مليون دولار، وكذلك "ميناء بانجول-بارا" في جامبيا، علاوة على دعم حضورها في قطاع التعدين، خاصة في مجال التنقيب عن اليورانيوم والذهب في دول المنطقة.


ثانيا: زيارة البرهان

رغم قوة العلاقات التاريخية بين تركيا والسودان، فإن حجم الاستثمارات التركية في الخرطوم يبلغ نحو 314 مليون دولار فقط. 

غير أنه خلال العامين الماضيين، نفذت شركات المقاولات التركية 90 مشروعًا في السودان وحده بينها 20 مشروعًا في المجال الزراعي، كما افتتح بنك الزراعة التركي التابع للدولة فرعًا له في الخرطوم. 

وكانت زيارة نائب رئيس مجلس السيادة السوداني محمد حمدان دقلو "حميدتي" لتركيا في منتصف مايو /أيار 2021، أفضت لتوقيع اتفاقيات اقتصادية تبلغ نحو 10 مليارات دولار.

1. قراءة في الزيارة: في 12 أغسطس/آب، وصل رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، إلي تركيا في زيارة رسمية استغرقت يومين بدعوة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. 

خلال الزيارة الرسمية التي أجراها الوفد السوداني برئاسة البرهان، وقعت الدولتان على 7 اتفاقيات ومذكرات تفاهم، شملت مجالات الزراعة والطاقة والدفاع والمالية والإعلام. 

لم يُكشف عن تفاصيل معظم الاتفاقيات، وبخاصة مذكرة التعاون الدفاعي، لكن أهم هذه الاتفاقيات هي موافقة السودان على تخصيص 100 ألف هكتار (مليون فدان) من الأراضي الزراعية لتشغلها أنقرة كمرحلة أولى، كما بدأت خطوات للتعاون في تصدير اللحوم السودانية إلى أوروبا عبر تركيا.

وصرح "البرهان" أن الاتفاقيات الأخيرة ستقود إلى رفع حجم التبادل التجاري بين الخرطوم وأنقرة إلى ملياري دولار خلال الخمس سنوات المقبلة

كما صرح مسؤولون حكوميون سودانيون لوسائل الإعلام بأن "البرهان" لن يناقش مع الرئيس التركي الاتفاقيات المتعلقة بـ"جزيرة سواكن" الواقعة على البحر الأحمر، وأنه ما زال "متحفظاً" على الاتفاق الذي أبرمه الرئيس الأسبق "عمر البشير" مع تركيا؛ حول تولي أنقرة بناء ميناء مدني حربي في الجزيرة.

هذا عن المعلن من الزيارة، أما ما لم تخض فيه وسائل الإعلام فيمكن الحديث عنه في اتجاهين:

الاتجاه الأول: يرتبط بمساعي السودان لجذب استثمارات أجنبية قوية، وهو ما واجه فيه الخرطوم تعنتا قويا مع المحور الإماراتي - السعودي الذي لم يف بتعهداته بدعم البلاد والتي كان من المفترض أن تبلغ 3 مليارات دولار من الرياض وحدها، علاوة على 400 مليون إضافية من كل من المملكة والإمارات كاستثمارات زراعية لم يتلق السودان منها سوى 750 مليون دولار. ولا يكفي هذا المبلغ في مواجهة التحديات التي يجابهها السودان، بعد انتفاضة ديسمبر/كانون أول 2018، وهي التحديات التي ما زالت قائمة إلى اليوم، وتتفاقم. وهو ما دفع واشنطن لأن تعد في مطلع أغسطس /آب بتقديم 700 مليون. 

في هذا الإطار، اتجه السودان إلى تركيا، رغبة في الحصول على استثمارات تركية، بعدما أسفرت موجة الاستثمارات السابقة عن نجاح ملحوظ، وبخاصة في المجال الزراعي والثروة الحيوانية. 

ولعل هذا النجاح هو ما دفع البرهان لتخصيص 100 ألف هكتار (مليون فدان) لشركات الاستثمار الزراعي التركي؛ كمرحلة أولى (منح حق التشغيل).

أما الاتجاه الثاني، فيتمثل فيما وراء عملية منح شركات تركيا حق تشغيل 100 ألف هكتار. وكانت وسائل إعلام عربية محدودة قد توقعت أن تكون الوساطة بخصوص "ملف سد النهضة"، خاصة وأن الوفد المرافق لـ"البرهان" قد تضمن وزير الدفاع يس إبراهيم ومدير المخابرات العامة جمال الدين عبد المجيد. 

ولم يعلن خلال الفترة عن أي تناول لهذا الملف، غير أن الرئيس التركي أعرب عن قلقه من التوتر بين السودان وإثيوبيا بشأن ملف سد النهضة.

وفي هذا الإطار، أفاد مراقبون بأن السودان، القلق من تراجع مصر عن الخيار العسكري بضرب "سد النهضة الإثيوبي"، يبحث عن مخرج من هذه الأزمة بعيدا عن القاهرة، وأن تخصيص المليون فدان أتى في إطار تعهد تركي بالمساعدة في توفير حلول لأزمة السد. 

ويضاف لهذا بطبيعة الحال، حالة فقدان الثقة التي يمر بها السودان حيال مصر، حيث عمدت الأخيرة إلى الاستئثار بالوجود الأميركي في البحر الأحمر عبر استضافتها "طراد الصواريخ الموجهة يو إس إس مونتيري" (CG 61) في "قاعدة برنيس".

وهي الخطوة التي يتوقع لها أن تكون دائمة بعد تصريح السفير الأميركي بالقاهرة "جوناثان كوهين" بالقول: "تجسد هذه الزيارة قوة التعاون البحري الأميركي المصري، فمن خلال عملنا معاً، نحارب التهريب والاتجار غير المشروع والقرصنة ونوفر الأمان في البحر". 

وهو ما أزعج السودان الذي كان لتوه قد رفض تنفيذ اتفاقية وقعها الرئيس السوداني الأسبق "عمر البشير" مع روسيا، تقضي بمنحها قاعدة عسكرية بجوار "ميناء بورتسودان" المطل على البحر الأحمر، وهي الخطوة التي كان مرتقبا أن تأتي في إطار تأسيس وجود دائم للقوات الأميركية في إفريقيا "أفريكوم".

2. الزيارة في إطار تطور العلاقات بين البلدين: وصف عدد من المراقبين والخبراء العلاقات التركية السودانية خلال فترة حكم عمر البشير بأنها كانت استثنائية في إيجابيتها للبلدين.

لم يكن غريبا أن تنظر تركيا بعين الريبة للأوضاع السياسية التي أعقبت حراك ديسمبر/كانون أول 2018، الذي أدى لإنهاء حكم "البشير"، حيث صرح الرئيس التركي بأن الانقلاب في السودان يستهدف المصالح التركية في الواقع. وفي يونيو/حزيران 2020، نظمت "جمعية الصداقة التركية السودانية" تظاهرةً في إسطنبول لمناهضة التدخل العسكري السوداني

وكان استهداف الشركات التي تتمتع بعلاقات داخل تركيا بالتدقيق من الحكومة الجديدة يرجع لعلاقاتها الوثيقة بحكومة "البشير"، وهو ما ارتبط آنذاك بتعاظم النفوذ الإماراتي - السعودي، والذي قاد الخرطوم للتطبيع مع "إسرائيل" يناير/كانون الثاني 2021، ما أدى لحزمة مساعدات أميركية محدودة.

قبيل التغيرات التي شهدها السودان، كانت العلاقات بين البلدين تنمو بوتيرة متسارعة خاصة بعد التوقيع على الاتفاق المتعلق بجزيرة "سواكن" في البحر الأحمر، حيث زادت التجارة البينية وحصلت شركة تركية على امتياز بناء مطار الخرطوم الجديد، كما استأجرت تركيا مثلًا 7805 كيلومتر مربع من الأراضي الزراعية السودانية لمدة 99 عامًا لغرض الاستثمار.

وبعد استقرار الأوضاع في السودان، و"اتفاق العلا" السعودي - القطري للمصالحة، بدا أن العلاقات السودانية التركية تتجه نحو التعاظم مجددا. 

وكما توقع الخبراء، فإن نوعية الاستثمارات التركية في السودان مكنتها من النجاة، حيث كانت ذات طابع إنمائي واضح، وبخاصة ما تعلق منها بقطاعات الزراعة والثروة الحيوانية والمقاولات، فيما توقف مشروع "سواكن" حتى اليوم.

نوعية الاستثمارات المشار إليها، بالتزامن مع إخلال السعودية والإمارات بتعهداتهما المالية حيال السودان، دفعا السلطات السودانية للاتجاه نحو تركيا مجددا.

إذ زار نائب رئيس المجلس الرئاسي الانتقالي "محمد حمدان دقلو" تركيا بناء على دعوة من السفير التركي "عرفات نذير أوغلو"، وجهها له خلال اجتماع سبق الزيارة بنحو الأسبوع. 

لبى "حميدتي" الدعوة على رأس وفد تضمن عضوية كل من وزراء الزراعة والغابات، والطاقة والنفط، والثروة الحيوانية، والنقل، والتنمية العمرانية والطرق والجسور. 

من خلال الوزارات المشاركة في الوفد؛ يمكن استشفاف أن الزيارة كانت اقتصادية إنمائية بالأساس، وأنها بدأت لتؤول حبلى بعدد من الاتفاقيات والصفقات

وبالفعل، وقع الطرفان عدة اتفاقيات اقتصادية خلال الزيارة، بلغت قيمتها نحو 10 مليارات دولار، كما اتفقا على إحياء الاتفاقيات الـ 22 التي تم توقيعها بين الخرطوم وأنقرة في عدة مجالات ديسمبر/كانون الأول 2017، علاوة على التوافق على ترتيبات لرفع حجم التبادل التجاري مع الخرطوم إلى مليار دولار، بدلا من الوضع الراهن البالغ حجمه 481 مليون دولار.

قدمت أنقرة تسهيلات للسودان خلال زيارة "حميدتي"، يرى المراقبون أنها أتت لقطع الطرق على ترتيبات فرنسية لاستغلال الوضع في السودان بعد رفع اسمه من قائمة الدول الراعية لـ"الإرهاب".

وهي الترتيبات التي بدأتها فرنسا بـ"مؤتمر باريس" الذي دعا خلاله الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" لدعم السودان.


ثالثا: زيارة آبي أحمد

تعد تركيا ثاني أكبر مستثمر أجنبي في إثيوبيا؛ برأس مال يصل إلى نحو 2.5 مليار دولار، تديرها نحو 200 شركة، توظف أكثر من 20 ألف إثيوبي.

وبعد أن سلمت إثيوبيا كافة مدارس "جماعة الخدمة" إلى مؤسسة "المعارف" التركية، لم يكد يمضي أسبوع على زيارة "البرهان" لتركيا حتى كانت الأخيرة تستقبل رئيس الوزراء الإثيوبي "آبي أحمد"، في 18 أغسطس /آب، ما يوافق الذكرى 125 لتأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

1. قراءة في الزيارة: هذه الزيارة، التي دامت يوما واحدا، سبقها اتصال هاتفي بين الرئيس التركي ورئيس الوزراء الإثيوبي، أكد فيه الأول أن تركيا ستواصل "توفير كافة أنواع الدعم" لإثيوبيا. 

يقودنا هذا إلى أن الزيارة تأتي في إطار تشهد فيه إثيوبيا تصعيدا عنيفا على جبهة إقليم "تيغراي"، بالإضافة إلى استمرار أزمة "سد النهضة".

لم تكد الزيارة تختتم، حتى شكر "آبي أحمد" تركيا على تعاونها مع بلاده في إطار ظروف حرجة، مشيرا إلى توقيع 4 اتفاقيات بين البلدين؛ شملت: "مذكرة تفاهم للتعاون في مجال المياه"، و"اتفاقية الإطار العسكري"، و"بروتوكول التنفيذ المتعلق بالمساعدات المالية"، و"اتفاقية التعاون المالي العسكري"

وخلال الزيارة، أكد الرئيس التركي استعداد بلاده للتوسط من أجل حل النزاع بين إثيوبيا والسودان بشأن "منطقة الفشقة".

وصرحت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الإثيوبية "السفيرة دينا مفتي" لوكالة الأناضول التركية أن إثيوبيا ستقبل إذا لعبت تركيا دورًا في التوسط في النزاع الحدودي بين الخرطوم وأديس أبابا.

ولفت محللون إثيويون أن رئيس الوزراء آبي أحمد يتطلع إلى أن تتولى تركيا مساعدته في مواجهة تحديين رئيسين، هما النزاع الحدودي بين السودان وإثيوبيا ونزاع إقليم "تيغراي"، خاصة مع دخول مجموعات متمردة أخرى من "عفار" و"بني شنقول-جومز" ومنطقة "جامبيلا" مؤخرًا إلى المعركة من أجل تغيير النظام، مما يعقد الإستراتيجية الإثيوبية لمواجهة الأزمة. 

وفي نفس الوقت، ترى إثيوبيا أن تركيا التي تعزز علاقاتها الاقتصادية والعسكرية في إفريقيا، يمكن أن تخلق توازنًا للقوى في منطقة القرن الإفريقي المضطربة.

وفي الوقت نفسه، فإن اضطراب الأوضاع في إثيوبيا، يدفع تركيا نحو بذل مساع، وإن كانت عسكرية، لضمان حماية استثماراتها الضخمة في أديس أبابا.

 كما أن توقيع اتفاق "تعاون مالي عسكري" يحول التعاون بين البلدين من تحالف اقتصادي إلى سياسي يمثل بداية تحول إثيوبيا لتحالفها نحو شريك إستراتيجي جديد.

بدورها، نجحت مصر في توفير أدوات للضغط السياسي على إثيوبيا، وقادت لانسحاب فرنسا من خارطة دعم أديس أبابا، كما تدخلت الولايات المتحدة على خط دعم "جبهة تيغراي"؛ مطالبة آبي أحمد بالحوار مع الجبهة.

بينما استغلت إثيوبيا الخلاف الروسي - المصري لتوقع عدة اتفاقيات للتعاون العسكري مع موسكو، وذلك في ختام الاجتماع المشترك الحادي عشر للتعاون التقني العسكري الإثيوبي - الروسي الذي عقد منتصف يوليو /تموز 2021.

وبرغم التوقيع مع الروس، اتجهت إثيوبيا للتوقيع مع تركيا على اتفاقيات ذات طبيعة عسكرية كذلك، وهو ما يمكن تفسيره في اتجاهات ثلاثة:

الاتجاه الأول: يتعلق باحتمال تأخر عملية تجديد العتاد العسكري الإثيوبي، وبطء عملية توريد الأسلحة، في توقيت تقف فيه عدة مجموعات من المتمردين على أعتاب العاصمة الإثيوبية. 

هذا الأمر ربما دفع "آبي أحمد" إلى اللجوء لتركيا للحصول على دعم سريع في مواجهة التطورات العسكرية الراهنة في الداخل الإثيوبي.

في هذا الإطار، كانت شائعات قد سرت في أعقاب الزيارة عن تزويد تركيا "آبي أحمد" بطائرات من دون طيار، من طراز "بيرقدار تي بي 2"، وهو ما نفته السفارة التركية في إثيوبيا.

ولا ترغب تركيا في أن تكون علاقاتها مع الجانب الإثيوبي على حساب علاقتها المستقبلية مع مصر، وذلك برغم اشتراك القاهرة في أكثر من فعالية عسكرية مع الولايات المتحدة واليونان في البحر الأسود وبحر إيجه من أجل الضغط على أنقرة.

 هذا التقدير تكشف عن تطوراته المحتملة زيارة مستشار الأمن القومي الإماراتي "طحنون بن زايد" إلى تركيا، في نفس يوم زيارة "آبي أحمد".

غير أن تركيا التي قد تتشكك في نوايا "آبي أحمد" والسلاح التركي الذي قد يحوزه، قد ترغب في تعميق حضورها في إثيوبيا، ومساعدة "آبي أحمد" من خلال صفقة تأجير "مسيرات"، وتوفير طواقم مدربة لاستخدامها، ومن ثم استردادها في أعقاب انتهاء مهامها. وهو ما يوفر لأردوغان" فرصة إدارة الملف بتوازن لا يخل بنواياه التحالفية المستقبلية.

الاتجاه الثاني: يتمثل في أن يكون تكتيك "آبي أحمد" معتمدا على تدخل الوساطة التركية بين "أديس أبابا" و"تيغراي"، ما يؤدي لتوفير قدر من الوقت؛ يمكن رئيس الوزراء الإثيوبي من مواجهة التمرد على حدود العاصمة. 

ويصطدم هذا التقدير بمدى استعداد "جبهة تحرير تيغراي" لقبول الوساطة التركية تحت سقف الرعاية الأميركية الداعمة للجبهة.

ومن جهة ثالثة، فإن "آبي أحمد" ربما أراد دفع القاهرة للاستعانة بـ"إسرائيل" للتدخل من أجل الوساطة، وهو ما يمنحه فرصة أكبر في دفع التمرد حول العاصمة لمربع أبعد، بفعل مطالب إسرائيلية موجهة إلى الولايات المتحدة. 

وهذا التحليل يستند إلى إدراك "أديس أبابا" مدى رغبة "إسرائيل" في التدخل، لرغبتها في المياه من جهة، أو في زيادة عمق تبعية القاهرة لدورها الرئيس في قيادة القيادة المركزية للقوات الأميركية "سينتكوم"، علاوة على رغبتها في إفشال الوساطة الجزائرية.

وفي نفس الإطار، ربما تسعى إثيوبيا لتدشين حالة تنافس تركي - إسرائيلي لتسوية الأوضاع في المنطقة، وهو ما من شأنه أن يوفر ضغوطا مزدوجة على القاهرة. وحالة التنافس هذه تغري الطرفين، التركي والإسرائيلي، حيث يعد احتواء الدولتين لبعضهما هدفا إستراتيجيا.

ومن جهة رابعة، يتبقى في هذا الإطار أن نلفت إلى أن "تخصيص" المليون فدان من الأراضي السودانية، و"اتفاق التعاون المائي الإثيوبي - التركي"، يعنيان أن ثمة توافقا على دور تركي ما، وأن هذا الدور يرتبط أساسا بالوساطة بين إثيوبيا والسودان، ويتعلق بملف سد النهضة، وأنه يحمل رسالة لمصر بإمكانية زيادة الضغوط، ما لم تقم القاهرة بخفض سقف التوتر بينها وبين أنقرة.

يدعم هذا التوجه المؤتمر الصحافي الذي جمع القيادتين التركية والإثيوبية، حيث تضمن تصريح الرئيس التركي - تحديدا - الإشارة إلى مشكلة "الفشقة" الحدودية، وإشارته إلى أن نفس القضية أثيرت خلال الزيارة التي أجراها رئيس المجلس الانتقالي الرئاسي السوداني لأنقرة.

وأضاف أردوغان أنه "سيتم حل النزاع على أساس الحوار، وستقدم تركيا أي نوع من الدعم للحل السلمي". غير أن انطلاق الرئيس التركي في تصريحاته من أهمية استقرار إثيوبيا ووحدة أراضيها لاستقرار المنطقة سيجعل التدخل التركي حاسما، وإن كان في حدود الوساطة.

2. الزيارة في إطار تطور العلاقات بين البلدين: لم تكن هذه المرة الأولى التي طلبت فيها إثيوبيا من تركيا التدخل للوساطة في الخلاف الحدودي السوداني الإثيوبي، حيث سبق لها أن تقدمت بنفس الطلب في فبراير/شباط من نفس العام، خلال احتفالية افتتاح المقر الجديد للسفارة الإثيوبية في أنقرة. وكان الرئيس التركي قد زار أديس أبابا قبيل افتتاح المبنى الجديد.

خلال هذه الزيارة، اتفق الطرفان على رفع حجم التجارة البينية مبدئيا إلى 500 مليون دولار، وتوقيع اتفاقيات لدعم الاستثمارات التركية في إثيوبيا، والتي تقع في الترتيب الصيني بعد الاستثمارات الصينية. 

خلال الزيارة كذلك، وقعت الدولتان عددا من الاتفاقيات بين الجانبين، كان من بينها اتفاقية أمنية تتعلق بمكافحة "حركة الخدمة"، وحصر مدارسه لتسليمها إلى "وقف المعارف" التركي؛ ليتولى إدارتها.

وفي أغسطس/آب 2020، وصلت إلى ميناء جيبوتي شحنة مدرعات عسكرية تركية من طراز "HIZIR"، والتي يتفق المراقبون أنها كانت موجهة لإثيوبيا؛ في ذلك التوقيت.

وترغب إثيوبيا في التعاون مع تركيا للإفادة من وضعها كحليف محتمل في مواجهة ترتيبات عسكرية كانت مصر تعد لها منذ أواخر عام 2020، فيما كانت أنقرة ترغب في مبادلة الضغوط مع القاهرة، والتي كانت قد انخرطت في سلسلة ترتيبات أمنية متعلقة بـ"بحر إيجة". 

هذا فضلا عن رغبة تركيا في تعزيز حضورها في شرق إفريقيا، حيث وجدت في إثيوبيا بوابة مكملة للبوابة الصومالية.


رابعا: زيارة طحنون

خلال زيارة "آبي أحمد" لأنقرة، كان "طحنون بن زايد" في اجتماع أمني مع رئيس الاستخبارات التركي "هاكان فيدان"، وما لبث أن طلب الاجتماع بالرئيس التركي للضرورة، وذلك بحسب تسريبات تركية، وهو ما تم بالفعل.

 ولكن بعد انتظار دام لساعات، حتى انتهاء مراسم الزيارة المخططة، حدث اللقاء الذي تداولته وسائل الإعلام، والذي تحدث إثره الرئيس التركي عن أمله في أن يسهم اللقاء والترتيبات المرتبطة به في تلاق تركي - إماراتي، وأن يؤدي لحل عدد من مشكلات المنطقة. 

ورأى عدد غير قليل من المراقبين أن الحضور الإماراتي بعيد نسبيا عن ملف سد النهضة وأنه - برأي البعض - يرتبط بترتيبات تتعلق بالوجود العسكري الإماراتي في أفغانستان، حيث تستضيف الإمارات الرئيس الأفغاني الهارب "أشرف غني"، وأن أبوظبي تسعى لطلب تعاون تركي في هذا الملف.

 فيما يرى آخرون أن العزلة التي بدأت الإمارات محاطة بها إقليميا بعد تلاشي الدفء في العلاقات مع إسرائيل، والتواصل المحدود مع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، واضطراب العلاقات مع السعودية وعدد من الدول العربية بعد فضيحة برنامج التجسس الإسرائيلي "بيغاسوس"، هو ما دفع الدولة الخليجية لكسر طوق العزلة هذا بإعادة التواصل مع تركيا وقطر. 

لكن الاتجاه نحو كسر العزلة لا يفسر الإصرار على المقابلة بهذه الصورة؛ التي أدت للقاء خلا من التحضيرات البروتوكولية.

 ويمكن التأكيد على أن الإمارات لا ترغب في أن تجري تسوية هذا الملف بمعزل عن حضورها كفاعل معتبر، سبق له أن قدم مبادرة وساطة بشأن سد النهضة في أبريل /نيسان 2021.

ولا تريد لتركيا الانفراد بإدارة هذا الملف، ما قد يؤدي لفقدانها دورها في إثيوبيا أو مصر، إذ ترغب في الحضور، وفق رؤية دعم السد، مع إطالة أمد الملء.

 وهي الإستراتيجية التي أملتها على مصر منذ 2015، والتي أضافت لها أبعادا أخرى تتمثل في السعي لحصول الأخيرة على منح وقروض مالية دولية جديدة، تساعد في تجاوز التأثيرات السلبية المحتملة لعمليات ملء خزانات السد، بعد أن كانت التصورات السابقة تركز بالأساس على أن تشمل ضمان تعظيم استفادة القاهرة من المشاريع التنموية والاستثمارات الإماراتية في المنطقة، وترتيبات لإدخالها شريكاً في بعضها. 

كما تعهّدت الإمارات بضمان عدم الإضرار بدولتي المصب، وتقديم مساعدات أخرى للمصريين لإنجاز مزيد من المشاريع الداخلية لتلافي الأضرار الناشئة عن سد النهضة وتحسين إدارة المياه.


خامسا: ردة الفعل المصرية.. الوساطة الإسرائيلية ومقدماتها

يمكن القول إن هناك مدخلين لقراءة ردة الفعل المصرية حيال هذه الزيارات الثلاثة، يتمثل أولها في التمهيد لوساطة إسرائيلية، كما يتمثل ثانيها في الترتيبات التي يمكن أن تنتهجها تركيا لصالح مصر في هذا الملف.

أ. الوساطة الإسرائيلية: في 23 أغسطس /آب، نشرت وسائل إعلام عربية عن دور للوساطة قد تلعبه "إسرائيل" في ملف سد النهضة، بالتنسيق مع الولايات المتحدة، التي ترى أن الدور الإسرائيلي قد يسهم في تقارب أكبر في العلاقات بين مصر و"تل أبيب"، ويعزز تعاونهما في إطار القيادة المركزية الأميركية للشرق الأوسط "سنتكوم"، على أن تظهر ثمار هذا الدور قبل الاقتراب من موعد الملء الثالث للسد في الصيف المقبل، بما يمنع تجدد أزمة السد خلال الصيف المقبل ومنع احتمالات تطورها إلى نزاع عسكري بأي صورة.

غير أن المسؤولين المصريين لم يعربوا عن تفاؤل أداء هذه الوساطة، واصفين إياها بالتأهيل لـ"جولة مفاوضات جديدة"، خاصة بعد المعارضة المصرية الخجولة لقضية عضوية إسرائيل بصفة "مراقب" في الاتحاد الإفريقي، وهو ما يعني زوال "الممانعة" المصرية من هذه الوساطة، وهو ما يمكن عزوه لتداعيات الوساطة التركية.

وتهتم "إسرائيل" بعرض الوساطة هذا باعتباره مدخلا لكسب الوقت فيما يتعلق بإنجاز ترتيبات حضورها في ليبيا جنبا إلى جنب مع مصر؛ من ناحية.

ومن ناحية أخرى، تسعى لتفويت الفرصة على كل من الجزائر وتركيا، واللتين سبق لإثيوبيا أن استدعتهما للوساطة في هذا الملف

ويعد إبعاد الجزائر عن الملفات الفعالة في القارة السمراء هدفا إسرائيلي، خاصة بعد الدور الذي لعبته الأولى في محاولة لمنع عضوية "إسرائيل" في الاتحاد الإفريقي إلى جانب ليبيا، ورغبتها في الحد من قوة الجزائر، والحيلولة دون تطوير قدراتها في القارة، وكبح توجهها لتعميق علاقتها بإيران، ما يؤدي لاستبعادها من الحوار الإستراتيجي مع الولايات المتحدة.

ونفس منهج الاحتواء تلعبه "إسرائيل" مع تركيا، حيث ترى الدولتان أن حضور إحداهما يتناسب عسكيا مع حضور الدولة الأخرى، من حيث المدى والشدة. 

كما ترغب مصر في الحد من اتساع النفوذ التركي في إفريقيا، خاصة وأن قطاعا من هذا التوسع يهدد تصوراتها لترتيبات إخراج أنقرة من الغرب الليبي.

ب. الدور التركي المحتمل لصالح مصر: لا يستبعد مراقبون أن يكون التدخل التركي لصالح مصر. وبخاصة مع إعلان تركيا - من جهة - أنها لم تزود "أديس أبابا" بطائرات بيرقدار، وهي خطوة من شأنها أن تؤدي للإضرار القائم في توازن القوى.

كما أنها - من جهة أخرى - أعلنت أنها ستتدخل بالوساطة، بما يكفل حل المشكلات التي طلبت فيها إثيوبيا المساعدة. 

وفي هذا الإطار، ينوه المراقبون إلى أنه يمكن لتركيا أن تبني منطق الوساطة على نمط تبادل ملفات، بمعنى أن تساهم في حل أزمة سدّ النهضة في مقابل أن تحصل من مصر على تنازلات في منطقة شرقي المتوسط، أو على الأقل من خلال تسوية تشمل عدم معاودة القاهرة المشاركة في محاولات إشعال الموقف في شرق المتوسط مجددا.

غير أن هذا الاتجاه التركي المحتمل يصطدم باتجاه مصر نحو دعم وجودها في ليبيا عبر تطور إستراتيجي يربط "إسرائيل" - صاحبة الكلمة المسموعة في قيادة "سنتكوم" بتطورات الملف الليبي.

وهو التطور الذي يمكن أن يؤدي إلى دمج شرق ليبيا في خريطة عمل "سنتكوم". 

يمكن لهذا التطور أن يؤدي لصدام بين تركيا من جهة، ومصر وإسرائيل من جهة أخرى في حال تطور نموذج النفوذ المصري باتجاه عرقلة العملية السياسية في ليبيا، والإصرار على التقسيم العملي في طرابلس أو مع محاولة الضغط لإخراج تركيا من تلك الدولة.

 وتعمل تركيا - بجد - من أجل تعظيم نفوذها في جيران ليبيا، وهو ما من شأنه أن يعقد الوضع أمام القاهرة في هذا الصدد. 


خاتمة

استدعى كل من السودان وإثيوبيا الدور التركي لتسوية الخلافات والمشكلات التي ترتبت على سد النهضة، سواء في ذلك الأزمة الحدودية السودانية الإثيوبية حول إقليم "الفشقة"، أو أزمة تمرد إقليم "تيغراي" وما لحقه من تعدد في حركات التمرد، علاوة على أزمة "سد النهضة" نفسها.

لاقت الدعوتان السودانية والإثيوبية هوى تركيا، لكنها لم تلق اندفاعا وراء هذا الهوى، في ترو تركي أكد على "الوساطة" كسقف للتدخل، وهو التزام تحدد مصر مدى التزام تركيا به، من خلال ردود أفعالها حيال الحضور التركي في ليبيا وشرق المتوسط. 

تدخلت الإمارات آملة ألا تنفرد تركيا بلعب دور فعال، كما فتحت مصر الباب أمام وساطة إسرائيلية بمباركة أميركية، تمهيدا لتوسيع نطاق التعاون المصري الإسرائيلي على مستوى "سنتكوم" خاصة في ليبيا، علاوة على إتاحة الفرصة لـ"إسرائيل" لاحتواء الوساطتين التركية والجزائرية.

ويكشف قادم الأيام عن آفاق الوساطة التركية، وقدرة تركيا على توظيف موارد قوتها لاحتواء تداعيات الوساطة الإسرائيلية.