"من حليفة للإمارات إلى منافِسة".. لماذا غيرت السعودية موقفها في السودان؟

“طالما استمر التنافس سيبقى السودان عالقا بشكل مأساوي في مرمى النيران”
بعد يومين فقط من تحقيق الجيش السوداني نصرا بارزا على مليشيا الدعم السريع، حيث استعاد السيطرة على العاصمة الخرطوم بعد عامين من الحرب، زار قائد الجيش عبد الفتاح البرهان السعودية.
والتقى رئيس السيادة البرهان مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بمكة المكرمة في 28 مارس/ آذار 2025.
اللافت في المشهد كان الغياب التام للإمارات، القوة الخليجية التي دعمت خصوم البرهان في الحرب السودانية بالسلاح والمرتزقة والغطاء السياسي.
خلاف متفاقم
هذا المشهد جسّد جوهر الخلاف المتفاقم بين السعودية والإمارات، اللتين كانتا حليفتين في إعادة تشكيل العالم العربي، وأصبحتا حاليا مهندستي رؤى متنافسة حيال السودان والمنطقة.
وفي تقرير لها، قالت مجلة "ريسبونسبل ستيتكرافت" الأميركية: إن "السعودية انتقلت من دور الوسيط إلى لعب دور داعم للطرف المناوئ لشريكتها الإقليمية السابقة، الإمارات".
ولسنتين، غرقت السودان في فوضى عارمة، فالحرب التي اندلعت في أبريل/نيسان 2023 بين القوات المسلحة السودانية والدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) خلّفت معاناة هائلة.
نحو 150 ألف قتيل، واتهامات بارتكاب فظائع جماعية نالت الطرفين، خصوصا الدعم السريع في دارفور، و12 مليون نازح، وأكثر من نصف السكان يواجهون انعداما حادا في الأمن الغذائي.
وتابع التقرير: "الخرطوم التي كانت تُجسّد يوما ما نقطة التقاء الفرقاء، باتت اليوم تحمل ندوب الحرب، دمارا واسعا، ومنازل منهوبة، وشوارع مليئة بجثث لم تُدفن بعد".
وعلى وقع هذا المشهد من الخراب والمكاسب العسكرية، قام البرهان برحلته عبر البحر الأحمر.
وفي وقت مبكر من الحرب، لعبت السعودية دورا بارزا عبر تسهيل إجلاء آلاف الأجانب عبر ميناء بورتسودان، وهي خطوة أكسبتها قدرا كبيرا من التعاطف.
وبالاستناد إلى هذا الدور، وبالشراكة مع الولايات المتحدة الأميركية، تبنّت المملكة دور الوسيط، مستضيفة محادثات وقف إطلاق النار في جدة خلال مايو/أيار 2023.
وبحسب التقرير، فقد توافقت هذه الوساطة مع التوجه الإستراتيجي الأوسع للرياض نحو خفض التوترات، وهو ما تجلّى في تقاربها مع إيران، وتحوّل دورها في اليمن من طرف في الحرب إلى وسيط للسلام.
فعدم الاستقرار على الضفة الأخرى من البحر الأحمر يُهدد بشكل مباشر الطموحات الاقتصادية الكبرى للمملكة في إطار "رؤية 2030"، ولا سيما مشاريعها العملاقة مثل "نيوم" ومشروعات السياحة على البحر الأحمر على ساحلها الغربي.
إلى جانب توسعة ميناء ينبع، التي تهدف إلى تنويع مسارات تصدير النفط بعيدا عن مضيق هرمز.
كما أن مثل هذه الاضطرابات تهدد بتقويض الاستثمارات الحيوية للمملكة في مجال الأمن الغذائي في السودان؛ حيث أصبحت المشاريع الزراعية الضخمة ركيزة أساسية للعلاقات الثنائية.
لكن “مسار جدة” سرعان ما ذبل، وتبخّرت الالتزامات الموقّعة على الورق أمام واقع الحرب المستمرة، ومع انهيار محادثات جدة، حاولت واشنطن إحياء المبادرة عبر مسار جديد في جنيف ركّز على إيصال المساعدات الإنسانية، إلا أن هذه الجهود تعثرت بعدما قاطع الجيش السوداني المحادثات.
وبحلول عام 2025، أدت عودة مبدأ "أميركا أولا" -الذي يتبناه الرئيس دونالد ترامب- إلى تقويض ما تبقى من النفوذ الدبلوماسي الأميركي؛ إذ أدّت تخفيضات "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" إلى إغلاق 77 بالمئة من مطابخ الطوارئ الخاصة بإغاثة الجوعى في السودان.
هذا بدوره عمّق المجاعة وسحب من واشنطن إحدى أبرز أدوات الضغط التي كان يمكن استخدامها لدفع الأطراف إلى تقديم تنازلات.
وفي ظل هذا الانكفاء الأميركي، وجدت السعودية نفسها أمام فراغ لم تقاوم ملأه، وفق مجلة “ريسبونسبل ستيتكرافت”.
لحظة التحول
ورصد التقرير ما وصفه بـ"لحظة التحول"، التي كانت في فبراير/شباط 2025، حين أعلنت الدعم السريع وحلفاؤها من نيروبي ميثاقا لتأسيس إدارة موازية.
وردّت السعودية، إلى جانب قطر والكويت، برفض علني وحاسم، وأكدت الخارجية السعودية معارضتها القاطعة لـ"أي خطوات أو إجراءات غير شرعية تتم خارج إطار عمل المؤسسات الرسمية لجمهورية السودان، قد تمس وحدته ولا تعبر عن إرادة شعبه الشقيق".
وكرست زيارة البرهان الأخيرة إلى السعودية وتوقيتها هذا التوجّه، فقد أعلن الطرفان خلال الزيارة إنشاء "مجلس تنسيق لتعزيز العلاقات"، في إشارة إلى انخراط طويل الأمد يتجاوز دور الوسيط المحايد.
والأكثر أهمية، وفق المجلة، أن هذا اللقاء تلا مباشرة زيارة وفد سعودي رفيع إلى بورتسودان، ركزت بشكل أساسي على جهود إعادة الإعمار.
وبينما تسعى الرياض بفعالية لتعزيز دورها كعامل استقرار إقليمي، تواجه أبو ظبي تدقيقا متزايدا بشأن دورها في تأجيج المجهود الحربي للدعم السريع.
وفي مارس 2025، رفع السودان دعوى أمام محكمة العدل الدولية، متهما الإمارات بانتهاك اتفاقية الإبادة الجماعية من خلال دعمها العسكري والمالي والسياسي للدعم السريع، مما سهل ارتكاب الفظائع، خاصة التطهير العرقي للمساليت في غرب دارفور.
وبينما وصف المستشار الدبلوماسي لرئيس الإمارات أنور قرقاش، القضية بأنها "مناورات إعلامية ضعيفة"، فإن التهم تتناغم مع نتائج تقرير لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة.
فقد وصف التقرير الأممي الأدلة على تزويد الإمارات الدعم السريع بالأسلحة -بما في ذلك الطائرات المسيرة وأنظمة الدفاع الجوي- بأنها "ذات مصداقية".
ووفق التقرير، فقد أثار هذا الدعم تداعيات سياسية كبيرة في واشنطن.
ففي يناير/كانون الثاني 2025، أكد السيناتور كريس فان هولن (ديمقراطي من ولاية ماريلاند) والنائبة سارة جاكوبس (ديمقراطية من كاليفورنيا) -استنادا إلى إحاطات من الإدارة- أن الإمارات كانت بالفعل تزود الدعم السريع بالأسلحة.
وهو ما يتناقض تماما مع التأكيدات السابقة التي قدمتها الإدارة الأميركية.
كما أوقف النائب غريغوري ميكس (ديمقراطي عن ولاية نيويورك)، العضو البارز في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، مبيعات أسلحة إلى الإمارات بسبب دورها في السودان.
وتظهر تصرفات الإمارات في السودان كجزء من منهج إقليمي أوسع، إذ يتضمن الكتاب الإرشادي لسياسات أبو ظبي تمكين الجهات الفاعلة غير الحكومية، غالبا ذات التوجهات الانفصالية، لضمان الوصول إلى الموارد والجغرافيا الإستراتيجية، وفق المجلة.
وتابعت: “نرى هذا النمط في ليبيا من خلال دعمها خليفة حفتر، وفي اليمن من خلال دعمها المستمر للمجلس الانتقالي الجنوبي الذي يدفع نحو الانفصال في تحدٍ مباشر للجهود السعودية للحفاظ على وحدة اليمن تحت مجلس القيادة الرئاسي”.
وتقدم الصومال مثالا آخر واضحا، حيث تجاوزت الإمارات مقديشو لتسليح وتمويل كيانات إقليمية مثل بونتلاند (التي يُقال إنها استخدمت قاعدة بوساسو لإعادة تزويد الدعم السريع بالأسلحة)، وصوماليلاند، وجيبالاند، مما أسهم في تفكيك البلاد وتأمين موطئ قدم على السواحل.
وبدا إعلان حكومة الدعم السريع الموازية في نيروبي، خلال مارس 2025، تطبيقا مباشرا لهذه التكتيكات، فقد أتمت الإمارات قرضا بقيمة 1.5 مليار دولار لكينيا في نفس الأسبوع، مما أثار تكهنات بأن نفوذها لعب دورا في استضافة نيروبي لهذا الحدث.
تباعد عميق
لذا، فإن اتساع الفجوة بشأن السودان ليس خلافا معزولا، بل هو مؤشر على تباعد إستراتيجي أعمق بين الرياض وأبو ظبي، وفق وصف المجلة.
"فبينما كانا ينسقان بشكل وثيق في السابق، لا سيما أثناء محاولة إعادة تشكيل مجلس التعاون الخليجي خلال حصار قطر، تتباعد مساراتهما الآن بشكل حاد".
علاوة على ذلك، يتنافس البلدان بشراسة على المستوى الاقتصادي؛ حيث تتحدى السعودية مكانة دبي كمركز أعمال من خلال سياسات تتطلب مقرات إقليمية في الرياض وإطلاق مشاريع عملاقة منافسة.
وداخل مجموعة "أوبك+"، تصاعدت التوترات بينهما بشأن حصص الإنتاج، مما يعكس اختلاف الأولويات وتوقعات غير منسجمة حول قرب مستقبل خالٍ من الكربون.
وحتى الحدود البحرية قرب جزر الياسات أصبحت نقطة خلاف؛ حيث قدمت الرياض شكاوى للأمم المتحدة ضد ترسيم أبو ظبي الأحادي للمنطقة الغنية بالنفط، وفق التقرير.
هذه المنافسة تتسرب حاليا إلى المجال العام عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ففي الآونة الأخيرة، شهدت المواجهات الإلكترونية أن بعض المعلقين السعوديين المعروفين وصفوا نظراءهم الإماراتيين بـ"المنبوذين"، ورأوا أنهم "مكروهين من العرب والمسلمين".
وقالت المجلة: إن "هذا يحدث في بيئات إعلامية خاضعة لرقابة مشددة، لذلك غالبا ما تعكس هذه التراشقات الحادة استياء رسميا".
وأضافت: "في النهاية، تدفع السودان ثمن هذه العلاقة الخليجية المتصدعة، فالسعودية، المدفوعة بمقتضيات رؤية 2030 ورغبتها في إعادة تأكيد القيادة الإقليمية من خلال الاستقرار والمؤسسات الحكومية، راهنت على القوات المسلحة السودانية".
"بينما تواصل الإمارات، التي تركز على الوصول إلى الموارد ومواجهة التهديدات الأيديولوجية المزعومة، دعمها للدعم السريع رغم تزايد الإدانات".
وختمت قائلة: "طالما استمر التنافس، سيبقى السودان عالقا بشكل مأساوي في مرمى النيران، ومستقبله رهينة صراع جيوسياسي يعيد تشكيل معالم القوة في المنطقة".