"مستشفى الموت"... كيف كشف حقيقة المنظومة الصحية "المزرية" في المغرب؟

“إنه لأمر فادح أن يتحوّل دخول المغربي إلى مستشفى الدولة إلى مقامرة قد تخرجه في تابوت"
تدهور صحي مقلق وسخط شعبي آخذ في التصاعد، ذلك المشهد في مدينة أكادير وسط المغرب، حيث خرج السكان في احتجاجات غاضبة تنديدا بالخدمات الصحية "المزرية" بل و"القاتلة"، على خلفية تسجيل وفيات متتالية في صفوف الحوامل خلال فترة وجيزة.
هذه الحوادث التي أعادت إلى الواجهة واقع الهشاشة داخل القطاع، دفعت وزير الصحة والحماية الاجتماعية، محمد أمين التهراوي، إلى زيارة المستشفى الجهوي الحسن الثاني بأكادير، في 16 سبتمبر/ أيلول 2025.
لكن أصوات المواطنين أكدوا أن ما يحدث في أكادير ليس وضعا استثنائيا يخص المدينة، بل مظهر من مظاهر أزمة وطنية تمس المنظومة الصحية برمتها.
إقرار رسمي
بعد الزيارة مباشرة، أعرب الوزير عن تضامنه مع سكان أكادير، ومع العائلات والأسر والمرضى الذين يعيشون معاناة حقيقية بسبب الاختلالات التي يعرفها مستشفى الحسن الثاني.
وشدد على أن هذه "الاختلالات لا يمكن إنكارها، فهي موجودة ونلمسها في مجالات متعددة، سواء على مستوى التجهيز أو الخدمات".
ليعلن بعدها عن إصدارا قرار بإعفاء المديرين والمسؤولين المباشرين في المستشفى، إضافة إلى فسخ عقود شركات الاستقبال والنظافة والحراسة.
وأكد التهراوي في تصريحات صحفية وجود مجموعة من الاختلالات، من بينها “مشكل التغيب المتكرر وغير المبرر لبعض الكوادر"، كما أقر بـ"نقص في الأدوية والمعدات الطبية".
وفيما يتعلق بحالات الوفيات التي عرفها المستشفى أخيرا، قال التهراوي: “نترحم على أرواح المتوفين ونتقدم بتعازينا إلى أسرهم في هذه الظروف الصعبة”.
وأكد أن "الوزارة أرسلت المفتشية العامة للتحقيق في هذه الحالات؛ حيث تعمل على جمع المعطيات اللازمة وإعداد تقارير دقيقة ستُحال على النيابة العامة لتحديد المسؤوليات واتخاذ الإجراءات القانونية".
وفي استباق لنتائج التحقيق، نقل موقع "مغرب تايمز" المحلي عن مصدر خاص في 15 سبتمبر، أن السبب المحتمل للوفيات قد يكون مرتبطا بمادة "الهالوثان"، وهي مادة مخدرة تُستعمل في العمليات الجراحية.
وأضاف أن "خللا أصاب عملية أو سلسلة التبريد الخاصة بهذه المادة داخل المستشفى، ما أدى إلى تلفها وفقدان فعاليتها، الأمر الذي دفع الأطباء إلى استعمال كميات مضاعفة منها حتى تُعطي مفعولها، وهو ما قد يكون وراء حالات الوفيات المسجلة".
في ظل هذه التطورات، يطالب متتبعون للشأن الصحي بكشف نتائج التحقيقات بشكل عاجل، مع ضرورة محاسبة المسؤولين والمتورطين عن أي تقصير أو إهمال محتمل، مؤكدين أن أرواح "المواطنين لا تحتمل مزيدا من الانتظار أو الغموض".
"المستشفى الجهوي الحسن الثاني بأكادير لم يعد مرفقا صحيا... بل تحول إلى شبحٍ مخيف يُرعب المواطنين حتى قبل دخولهم إليه".. بهذه الكلمات لخص يوسف الطويل، أحد سكان مدينة أكادير، واقعا صحيا يزداد قتامة في نظر شريحة واسعة من المواطنين.
ويقول الطويل لـ"الاستقلال": إن “المعاناة تبدأ منذ البوابة؛ حيث يتحول الأمن الخاص إلى حاجز نفسي قاسٍ أمام المرضى وذويهم، وبعد تجاوز هذا العائق، يجد المرضى أنفسهم أمام أبواب مغلقة أخرى: أجهزة معطلة، مواعيد بعيدة جدا..”.
ويضيف: “حتى الأدوية الضرورية يُطلب من المرضى اقتناؤها من خارج المستشفى، بسبب افتقاره المستمر للأدوية الأساسية، ما يجعل الناس يُفكرون ألف مرة قبل أن يُقرروا قصد المستشفى، حتى في الحالات الحرجة”.
أما "الكارثة العظمى"، حسب قوله، فهي الحديث عن وفيات متتالية في صفوف نساء حوامل داخل المستشفى خلال فترة قصيرة، وهو ما فجّر احتجاجات شعبية واسعة، تمثلت في مظاهرتين نظمهما المواطنون أمام المؤسسة، رفضا للصمت، ودقا لناقوس الخطر.
فشل سياسي
النشطاء رفضوا الاكتفاء فقط بهذه الإجراءات وطالبوا الوزير أيضا بتقديم استقالته لعدة تقديرات أبرزها “جهله” لخبايا القطاع.
وقال الكاتب الصحفي مصطفى الفن: "وزير الصحة، وعوض أن يقدم استقالته على عجل.. وهذا أضعف الإيمان؛ لأنه هو جزء (مرضي) من هذه الأعطاب التي تخترق هذا القطاع المنكوب في المغرب بكامله وليس في أكادير فقط".
وأضاف في تدوينة عبر فيسبوك في 16 سبتمبر: "نعم، فعوض أن يقدم الوزير استقالته على عجل خشية ربما أن تنتقل (عدوى) الغضب والاحتجاجات إلى مناطق أخرى ومدن أخرى تعيش نفس النكبة في قطاع الصحة.. فقد فوجئنا بأن السيد يريد أن يقدم أكباش فداء".
واستطرد: "ليظل هو في مكانه كما لو أنه هو (المنقذ) من الغرق أو كما لو أنه غير مسؤول عما يجري في قطاعه.. وشخصيا أنا جد مصدوم من مثل هذه القرارات الخرقاء والرعناء والتضليلية إذا ما حصل ذلك..".
وتابع: "لماذا؟.. لأن المسؤولية سياسية في المقام الأول وتفرض أن ترحل الحيتان الكبيرة أولا قبل أي إعفاء وقبل أي قرار صغير أو كبير في مثل هذه الحالات..
وختم الفن بالقول: “ظني أن أي إعفاء في حق بسطاء الأطر (الكوادر) والموظفين فلن يزيد بقعة الزيت إلا اتساعا… لأن هؤلاء الأطر والموظفين يستحقون التضامن وليس الإعفاء من وزير غير قادر على ملء كرسي أكبر منه..”.
وشدد على أن “ما حصل في أكادير وفي غير أكادير فهو عنوان عريض لفشل سياسي مبين لتجربة حكومية مكونة من رجال أعمال همهم الأول هو اعتراض الصفقات العمومية والباقي تفاصيل..”.
"المنظمة الوطنية لحقوق الإنسان ومحاربة الفساد" أكدت أتها "تتابع ببالغ القلق والانشغال ما تعرفه المنظومة الصحية ببلادنا من تدهور خطير وصل إلى درجة الانهيار الشامل، في وقت تتعالى فيه صرخات المواطنين في مختلف المدن المغربية، من أكادير إلى باقي المدن".
وشددت المنظمة عبر بيان نشرته في 16 سبتمبر، أن "المنظومة أمام وضع شاذ وغير طبيعي؛ حيث يتم تكليف أشخاص بعيدين عن القطاع الصحي بإدارته، دون رؤية ولا خبرة ولا التزام بالمسؤولية الوطنية".
وذكرت أنه "يتم التعامل مع وزارة الصحة وكأنها شركة خاصة، الهدف منها تحقيق الأرباح من صفقات المختبرات والأدوية والعيادات الخاصة، بينما المواطن الفقير يظل وحيدا في مواجهة الألم والمرض".
ولفتت المنظمة إلى أنه "من أخطر مظاهر الانهيار الصحي، هو تعيين وزراء ومسؤولين بعيدين كل البعد عن الميدان الطبي".
وتساءلت “كيف لشخص لم يمارس يوما العمل الطبي، ولم يعرف تحديات المستشفيات العمومية، أن يدير قطاعا بهذه الحساسية؟”
ورأت المنظمة أن "هذه التعيينات تترجم منطق المحسوبية والولاءات السياسية، ولا علاقة لها بالكفاءة.. والنتيجة هي قرارات مرتجلة، و برامج فاشلة، وميزانيات مهدورة، بينما يظل المريض هو الضحية الأولى".
وشددت على أن أهم توصية"هي إقالة المسؤولين المباشرين عن الانهيار الحالي، بمن فيهم الوزير والطاقم الإداري المرتبط به".
وذكرت أن "الوزير الذي وُضع على رأس قطاع الصحة ليس أهلا لهذه المسؤولية، ولم يأتِ لإصلاح المستشفيات أو إنصاف الأطر الطبية، بل جُلب ليضمن استمرار التحكم في صفقات الأدوية والمعامل والمستشفيات الخاصة، بينما المواطن الفقير يموت يوميا في أروقة المستشفيات العمومية".
وتساءل بيان المنظمة: “كيف نثق في وزير لا يعرف شيئا عن الميدان الصحي، كانت مهمته سابقا إدارة ملابس وماكياج زوجة رئيس الحكومة، واليوم يُسلّم له قطاع حيوي كالصحة؟!”
وعند تتبّع المسار المهني للوزير التهراوي ومحاولة ربطه بمنصبه الحالي على رأس وزارة الصحة، يظهر أن خلفيته لا ترتبط بشكل مباشر بالقطاع الصحي.
فقد سبق له أن شغل منصب نائب الرئيس التنفيذي في مجموعة "أكسال"، المملوكة لسلوى الإدريسي، زوجة رئيس الحكومة عزيز أخنوش، كما تولّى منصب رئيس ديوان أخنوش عندما كان وزيرا للفلاحة والصيد البحري.
أزمة وطنية
وقال الصحفي يونس مسكين: إن "ما جرى في أكادير لم يكن إلا حلقة جديدة في سلسلة من قصص متشابهة: في الرباط، في قلب مستشفى مولاي يوسف، فارق أربعة مرضى الحياة دفعة واحدة في غرفة الإنعاش، وسط حديث عن أعطاب في قنوات الأوكسجين وبيانات رسمية لم تنجح في إقناع أحد".
وأضاف مسكين في مقال نشره عبر موقع "صوت المغرب" في 16 سبتمبر، أنه "في فاس، حيث انكشف المستور حين فككت السلطات شبكة داخل مستشفى عمومي يُتهم أفرادها بالتورط في وفاة أطفال مرضى بالسرطان".
واستطرد: "أما في مستشفى الليمون بالرباط؛ فقد رحل رضيع وتدهورت حالة خمسة من حديثي الولادة، لتعلن الوزارة فتح تحقيق عاجل في مشهد تكرر حتى بات روتينيا: المأساة أولا، التحقيق ثانيا، ثم النسيان".
ولفت مسكين إلى أنه "في العرائش، تكررت الفاجعة حين ماتت أمّ ورضيعها داخل مؤسسة عمومية، بينما لم تجد النقابات سوى المطالبة بتحقيق (محايد) يعرف الجميع مسبقا أنه لن يبدّل من واقع الحال إلا لغته الخشبية".
ورأى أن "هذه الوقائع ليست أخبارا متفرقة من جغرافيا متباعدة، بل هي علامات متراكمة على خريطة واحدة: خريطة انهيار الثقة في المستشفى العمومي".
وشدد مسكين على أن "المشكل ليس في قلة الموارد المالية وحدها، ولا في ضعف التجهيزات أو قلة الأطر، بل في منظومة كاملة فقدت البوصلة".
وتابع: "المنظومة التي جعلت من الاحتجاج أمام أبواب المستشفيات رد الفعل الطبيعي، بدل أن تكون هذه المؤسسات مصدر طمأنينة وملاذا أخيرا للمريض".
وتأسف مسكين قائلا: “إنه لأمر فادح أن يتحوّل دخول المغربي إلى مستشفى الدولة إلى مقامرة قد تخرجه في تابوت... والأفدح أن نتعايش مع هذه الحقيقة كأنها قدر محتوم”.
واستدرك: “لكن التاريخ يعلمنا أن الشعوب لا تعيش على وقع الإذلال الصحي بلا نهاية، وأن المآسي إذا تكررت تحولت إلى لحظة وعي جماعي”.
واسترسل: “لعلّ أهم ما في احتجاجات أكادير، أنها بعثت رسالة أبعد من أسوار مستشفى الحسن الثاني: أن حياة المواطن أغلى من أن تُختزل في بلاغ رسمي أو تحقيق إداري، وأن الحق في العلاج ليس منّة من الدولة، بل هو جوهر وجودها”.
البرلمانية السابقة حنان رحاب، شددت على أن "احتجاج المستشفيات قادم ويجب ألا نغطي الشمس بالغربال..".
وأكدت في تدوينة عبر فيسبوك في 14 سبتمبر أن "ما حدث اليوم بأكادير من احتجاجات ضد الخدمات الصحية العمومية.. وشجع جزءا كبيرا من القطاع الخاص.. والفساد في القطاع عموما على المستويات المحلية والإقليمية.. لا يستبعد أن يتحول إلى كرة الثلج التي كلما تدحرجت.. تكبر...".
وأوضحت أن "الوضع في أكادير.. لا يختلف عن الكثير من المناطق بما فيها المدن الكبرى... وقد كانت تحذيرات سابقة، وتحركات شعبية.. تتلوها إصلاحات على المستوى المحلي لذر الرماد في العيون.. ثم تعود الأمور إلى سابق عهدها...".
ولفتت إلى أن "صحة المغاربة ليست ترفا، بل حق، وحق غير قابل للمساومة أو التبرع بأي مبررات لتأجيل الاستشفاء في ظروف إنسانية؛ لأن الحق في الصحة مرتبط بأسمى حق من حقوق الإنسان .. الذي هو الحق في الحياة...".
ونبهت إلى أنه "ليس مبالغة اليوم عدّ المستشفيات العمومية مناطق منكوبة…. ولا حول ولا قوة إلا بالله.. وكان الله في عون من دفعته الأقدار للجوء إلى خدماتها…".