مشروع الجزيرة الزراعي.. هكذا تحرق حرب السودان أكبر "سلة غذاء" بالعالم

داود علي | منذ شهر واحد

12

طباعة

مشاركة

قبل اندلاع الحرب الأخيرة بين الجيش السوداني ومليشيا “الدعم السريع” في 15 أبريل/ نيسان 2023، كان السودان يمتلك واحدة من أكبر مشروعات الأمن الغذائي في العالم، وهو مشروع "الجزيرة". 

ويعد "الجزيرة" أكبر مشروع مروي زراعي في إفريقيا، وأكبر مزرعة في العالم ذات إدارة واحدة، بحسب دراسة صادرة عن جامعة “كامبريدج” البريطانية عام 2018.

ذلك المشروع يعد سلة غذاء السودان، وكانت تستثمر فيه بعض الدول العربية والإقليمية مثل السعودية والإمارات وقطر، غير أنه في الوضع الراهن على وشك الدمار الكامل بسبب الحرب الدائرة. 

وفي 21 مارس/ آذار 2024، حذرت وكالات الأمم المتحدة، من حدوث “مجاعة وشيكة”، حيث أعلن برنامج الغذاء العالمي أن انخفاض إنتاج المحاصيل وارتفاع أسعار السلع والخدمات يشكل خطرا كبيرا لانعدام الأمن لملايين الأشخاص في جميع أنحاء السودان.

وخص بالذكر "مشروع الجزيرة"، الذي يعاني من اجتياحات مليشيا “الدعم السريع”، ما أدى إلى تضرره بشكل كبير، ووقوع البلاد على شفا كارثة أمن قومي.

مشروع الجزيرة

وتؤكد الأرقام مدى أهمية مشروع "الجزيرة" في بنية الأمن الغذائي السوداني، كونه يقع داخل أهم نقطة إستراتيجية، وتحديدا في منطقة الوسط بين النيلين الأزرق والأبيض، داخل السهل الطيني الممتد من منطقة سنار إلى جنوب الخرطوم العاصمة.

ويعد من أكبر المشاريع الزراعية على مستوى العالم، إذ يحتل مساحة 2.2 مليون فدان (مما يعادل مساحة هولندا) ويسهم بنصيب مقدر من الدخل القومي.

و"الجزيرة" من المشروعات التاريخية في السودان حتى قبل إعلان الجمهورية نفسها، إذ وضعت لبناته الأولى عام 1911، كمزرعة تجريبية أقامها المحتل الإنجليزي (آنذاك) لزراعة القطن في مساحة قدرها 250 فدانا (بمنطقة طيبة وكركوك) شمال مدينة ود مدني بولاية الجزيرة.

وعندما نجحت التجربة بدأت المساحة في الازدياد عاما بعد آخر حتى بلغت 22 ألف فدان عام 1924. 

وفي العام الذي تلاه (1925) افتتح المشروع رسميا، خاصة أنه تم دعمه بمشروع خزان سنار. 

وفي عام 1943 ازدادت المساحة حتى بلغت مليون فدان، وفي الفترة من 1958 وحتى 1962، تمت إضافة أرض زراعية بمساحة مليون فدان أخرى عرفت باسم “امتداد المناقل” ليصل المشروع إلى مساحته الحالية (2.2 مليون فدان). 

ويضم المشروع أكثر من 3 ملايين ونصف مليون نسمة يقيمون فيه بشكل مستقر، وجميعهم من المزارعين والعمال الزراعيين الدائمين والموسمين وعمال المؤسسات الخدمية.

وكان يسهم حتى العام 2023 بنحو 65 بالمئة من إنتاج السودان من القطن، ونسبة كبيرة من إنتاج القمح والذرة والفول السوداني والقمح والخضراوات والأعلاف وزهرة الشمس بالإضافة إلى الإنتاج الحيواني.

ويمتلك المشروع 13 محلجا للقطن ومصنعا تعاونيا للألبان، ويتولى عمليات إنتاج وتسويق وتخزين المحاصيل داخل الدولة وخارجها.

كما وفر فرصا واسعة للاستثمار في الصناعات الزراعية كصناعة الغزل والنسيج ومطاحن الغلال وصناعة الزيوت وتصنيع الأغذية والجلود.

كما يدخل ضمن المشروع حوالي 60 بالمئة من مساحة مشروع "الرهد" الزراعي الذي يقع في الجانب الجنوبي الشرقي لمحافظة أم القرى على ضفة نهر الرهد الشرقية. 

وهو نهر موسمي ينبع من جبال الحبشة على بعد حوالي 20 كيلومترا، شمال غرب بحيرة تانا، ويساعد بقوة في إمداد مشروع الجزيرة الذي يغطي غالبية احتياجات السودان الغذائية.

حلول الكارثة 

وبدأت مأساة مشروع الجزيرة في 18 ديسمبر/ كانون الأول 2023، عندما اجتاحت “الدعم السريع” ولاية الجزيرة، واقتحمت مدينة "ود مدني" عاصمة الولاية.

وقتها هجر آلاف المزارعين في المشروع مزارعهم ونزحوا إلى مناطق أخرى، ما أثر كثيرا على الموسم الزراعي وأدى إلى نقص المساحات المزروعة وتوقف التمويلات البنكية.

كما أسهم احتلال مليشيا “الدعم السريع” لمكاتب المشروع وإدارته في منطقة بركات، إلى استفحال الأزمة، بعد أن استحال الدخول إليها ونهبت الأجهزة الإلكترونية وعددا كبيرا من السيارات والجرارات والمخازن.

وكذلك أدى عدم توفر الأمن وتأخر وصول المدخلات الزراعية من "تقاو وأسمدة وغيرها من المواد اللازمة"، إلى تراجع الإنتاجية في المشروع ككل.

وهو ما أدى إلى أن يعلن وزير الزراعة السوداني أبو بكر البشرى، أن أثر الحرب في مشروع الجزيرة كان مدمرا من ناحية البنية التحتية، ومن ناحية الموسم الزراعي أيضا.

وأضاف في بيان، أن بنك الموارد الجينية تأثر وشرد المفتشين الزراعيين ومفتشي الري ونهبت عرباتهم، وكانوا هم الذين يقومون بالدور الإرشادي والتوعوي ومتابعة المحصول.

وأردف الوزير: "الحرب باغتتنا في الموسم الصيفي، وكذلك نستعد للموسم الشتوي في مشروع الجزيرة، وكنا نعول كثيرا على زراعة القمح في الموسم الشتوي بخطة زراعة 350 ألف فدان من القمح".

ثم عقب: "لكن نتيجة للحرب لم تكتمل الزراعة، وما زرع حتى الآن نحو 220 ألف فدان فقط".

وشدد البشرى على أن “المخاوف تزداد من إمكانية الانهيار الكلي لمشروع الجزيرة الذي يؤوي أكثر من 3.5 ملايين نسمة يقيمون فيه بشكل مستقر”.

ويشكل مصدر دخل رئيس لأكثر من 140 ألف مزارع، وبسبب معاناة المزارعين في الري والتمويل، أصبح المشروع يسبب خسائر ضخمة أسفرت عن مشكلات اقتصادية واجتماعية شكلت في مجملها التهديد الأخطر للأمن الغذائي.

خطر المجاعة 

وفي 6 مارس/ آذار 2024، حذر برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة من أن السودان قد يعاني "أكبر أزمة جوع" في العالم ما لم يتوقف القتال، وأن الأطفال سيكونون الخط الأول الذي يسقط جراء الفاجعة المنتظرة.

فيما وصف المنسق العام لمعسكرات النازحين واللاجئين في دارفور، يعقوب محمد عبدالله فوري، في مقابلة مع وكالة "الأناضول" التركية الرسمية في 14 مارس، الوضع في السودان بـ"المأساوي".

خاصة مع غياب المساعدات الدولية، وتحدث عن عدم قدرة النساء على الخروج من المخيمات لجلب الطعام خوفا من الاغتصاب، ليزداد الخطر على حياة الأطفال بشكل مخيف.

وقال فوري، الذي يوجد في مخيم "كلمة" بمدينة نيالا في ولاية جنوب دارفور، إنه "حتى أوراق الأشجار انعدمت، والجراد لم يعد موجودا لسد جوع الأطفال في مخيمات النازحين بدارفور".

وأضاف: "كانت النساء تحضر أوراق الأشجار وتضعها على النار لتعد منها حساء للأطفال، كما كانت تمسك الجراد ليتناولوه، وكل ذلك أصبح غير موجود".

ومطلع أبريل/ نيسان 2024، حذرت الأمم المتحدة، مرة أخرى، أن ما يقرب من 18 مليون إنسان في السودان، يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد نتيجة للحرب الأهلية.

وتعليقا على كارثة مشروع الجزيرة، قال الصحفي السوداني محمد نصر: "نحن أمام أكبر خطر يواجه السودان في تاريخه ومنذ استقلاله، ولن أبالغ إذا ما قلت إن الحرب الحالية أخطر من الاحتلال البريطاني وكل احتلال جاء على أرض السودان، لأن هذه المرة السودان منقسم، والمليشيات تتخطفه". 

وأكد نصر لـ"الاستقلال" أن "كثيرا ما حذرنا من فشل الدولة، وأن الدولة إذا سقطت سيهوى السودان بأكمله إلى عصور الظلام، وجمهوريات الموز التي كنا نضرب بها المثل في إفريقيا ووسط آسيا". 

وشدد على أن "مشروع الجزيرة هو الرافد الأساسي للغذاء في السودان، وكان يمد دولا كثيرة بالأغذية والمنتجات الحيوانية، مثل السعودية والإمارات وقطر، حتى مصر كانت لها استثمارات متعددة في مشروع الجزيرة". 

واستدرك متأسفا: “المشروع في الوقت الراهن يكاد يكون في خبر كان، بعد هجرة العائلات والمزارعين، وجفاف الأرض، فهي حالة لن تبقي ولن تذر، فماذا بعد الطعام والغذاء والماء؟”

واختتم نصر حديثه بالقول: "يجب أن تكون هناك قوى عاقلة قوية قادرة على الإمساك بزمام الأمور أو على الأقل منع الحالة من التردي بهذا الشكل، لأنه مع الاستمرار لن يبقى سودان يتم التصارع عليه، ولن يبقى شعبا حقيقيا يمكن أن يحكم".