رفع الدعم عن حليب الأطفال.. ما تأثيره على الهرم السكاني في لبنان؟

مصطفى العويك | منذ عام واحد

12

طباعة

مشاركة

منذ خريف عام 2019، يجد الشعب اللبناني نفسه في حالة من القلق الدائم بسبب الأزمة الاقتصادية والمعيشية الخانقة التي تعصف بالبلاد، والتي لم يسلم من تداعياتها أي جانب في حياته اليومية، آخرها رفع الدعم عن حليب الأطفال.

ولا يبدو أن هناك انفراجة تلوح في الأفق القريب، بل على العكس تزداد الأزمة حدة بالتوازي مع الانهيار المستمر في سعر صرف العملة الوطنية، والتضخم الهائل في الأسعار، وسط عجز رسمي وحكومي واضح عن وضح حد لمعاناة اللبنانيين.

وتقتصر الإجراءات الحكومية على حلول ترقيعية، ومنها اللجوء إلى سياسة رفع الدعم عن السلع الحيوية والأساسية بشكل متدرج، واحدة تلو الأخرى، ضمن خطة "ترشيد الدعم"، وذلك من أجل ضمان توفر هذه السلع وعدم تهريبها أو إعادة تصدريها من قبل "الكارتيلات" الاحتكارية. 

تداعيات خطيرة

وفي هذا الإطار، أعلن وزير الصحة، فراس الأبيض، في 10 يناير/ كانون الثاني 2023، عن قرار رفع الدعم بالكامل عن حليب الأطفال، لمواجهة أزمة انقطاعه من الصيدليات ومراكز البيع منذ أسابيع. 

وأوضح الأبيض خلال مؤتمر صحفي أن "السبب الرئيس الذي دفع وزارة الصحة إلى اتخاذ هذا القرار، يتصل بضرورة تأمين حليب للأطفال وليس للتجار الذين يستغلون الدعم ويعمدون إلى تهريبه". 

وأضاف أن "الوزارة لاحظت أن الكميات الكبيرة من الحليب المدعوم التي يتم استيرادها وتكاد تكفي لبلدين، تختفي من السوق بعد وقت قليل من وصولها".

وبعد الكهرباء والوقود والسلع الغذائية والدواء، جاء دور حليب الأطفال، ولم يعد هناك دعم حكومي سوى لبعض الأدوية السرطانية، والقمح الذي بدوره يبدو أنه سيكون التالي في رفع الدعم أو تخفيفه مع توالي أزمات الطحين ورغيف الخبز.

قرار وزير الصحة كان متوقعا، لكنه سيفاقم من معاناة اللبنانيين، وسيرفع تكاليف المعيشة التي تثقل كاهل العائلات.

وحسب بعض الدراسات وخبراء الإحصاءات، فإن انعكاسات الأزمة الاقتصادية بدأت تنال الهرم السكاني والتركيبة الاجتماعية.

بالإضافة إلى توقع حصول تداعيات خطيرة على صحة المواطنين، مع عجز الدولة عن تأمين العلاج والأدوية، وتدهور المرافق الصحية العامة والخاصة.

ومع عدم توفر خطة قادرة على ضبط التهريب والبيع في السوق السوداء، حسب الأبيض، لم يكن هناك مفر من اتخاذ قرار إيقاف الدعم لضمان توفر الحليب للأطفال، لافتا إلى تبلغه من شركات مستوردة استعدادها لتأمينه بكميات كبيرة بعد رفع الدعم.

الرفع للضبط

وكان حليب الأطفال يواجه انقطاعا متكررا، أو محدودية في عدد العبوات التي تطرحها الشركات في الصيدليات ونقاط البيع منذ بدء الأزمة الاقتصادية في لبنان في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، مع تراجع سعر صرف الليرة. 

وزاد الأمر سوءا بانقطاعه بشكل شبه كامل منذ حوالي الشهر تقريبا، وهذا ما دفع باللبنانيين إلى اللجوء لطرق بديلة تراوحت بين تأمين حليب لأطفالهم من الخارج لمن تتوفر لديهم القدرات المالية، أو الاستعاضة عنه بعلب الحليب للبالغين.

أما بالنسبة للعائلات التي تعاني ماديا في بلد تقدر نسبة الفقراء فيه بأكثر من 80 بالمئة، حسب تقارير الأمم المتحدة وبعض المنظمات الدولية، فقد لجأت إلى الأطعمة الرخيصة والماء والسكر من أجل سد جوع أطفالها. 

وفي تقرير لموقع "الجزيرة" القطري في 13 يناير/ كانون الثاني 2022، أكد وزير الصحة أن "لبنان كان يستورد حليب الأطفال لبلدين، وكان معظم التجار يقومون بتهريبه لسوريا، أو سحبه من الأسواق لإعادة بيعه بأسعار أعلى".

ولفت الأبيض الى أن وزارته ليست مسؤولة عن ضبط الحدود مع سوريا، لذلك "رفع الدعم كان الوسيلة الوحيدة لتوفير الحليب في الصيدليات".

وأوضح أن الحليب خلافا للأدوية يجرى توزيعه على نحو 3 آلاف صيدلية، ويباع بلا وصفة طبية، فيما الوزارة لديها أقل من 10 مفتشين لمراقبة الأسواق، لذلك "لا يمكن ضبط عمليات تخزين الحليب واحتكاره". 

ولا يفوت الأبيض الإشارة إلى أن أزمة اختفاء الحليب تلقي بظلالها على مشكلة تراجع الرضاعة الطبيعية في لبنان رغم وضع وزارة الصحة خطة لدعمها وتشجعيها. 

وبعد أن كان سعر عبوة الحليب 900 غرام من 7 إلى 8 دولارات (حسب العلامة التجارية)، فقد ارتفع ليبلغ 15 إلى 16 دولارا. 

وإذا كان معدل الاستهلاك الوسطي للطفل يبلغ 3 عبوات شهريا، فإن العائلة بات عليها إنفاق حوالي 45 دولارا شهريا، في الوقت الذي يبلغ متوسط الدخل الشهري نحو 122 دولارا، حسب تقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش" في 12 ديسمبر/ كانون الأول 2022.

ويشير التقرير نفسه إلى أن 40 بالمئة من الأسر تقريبا تكسب 100 دولار أو أقل شهريا، وأن 90 بالمئة منها يكسب أقل من 377 دولارا.

سياسات خاطئة

واجه القرار الحكومي سلسلة انتقادات من داخل السلطة التشريعية، وغرد وزير الاقتصاد، أمين سلام، قائلا: "رفع الدعم عن حليب الأطفال في هذه المرحلة الصعبة، من دون خطة بديلة، قرار غير مسؤول وهروب الى الأمام، وحرمان أبنائنا من غذائهم الوحيد".

وأشار سلام في 12 يناير 2023، إلى أن أطفال لبنان "يستبدلون الحليب بالماء والسكر".

في حين يرى رئيس "المجلس الاقتصادي الاجتماعي" (رسمية)، شارل عربيد، أن "الأزمة الفعلية تكمن في سياسة الدعم نفسها التي ذهبت إليها السلطات الحكومية وأهدرت عليها مئات الدولارات ولم تستفد منها الأسر الأكثر فقرا، بينما استفاد منها الأغنياء والتجار والمحتكرون، وساهمت بدرجة كبيرة في تعزيز نشاط شبكات التهريب مع سوريا".

وأضاف عربيد لموقع "الجزيرة" في يناير 2023: "لو ذهبت الحكومة إلى دعم الأسر الأكثر فقرا عبر برنامج واضح لكنا تفادينا كل تداعيات سياسة الدعم الخاطئة".

وقرار رفع الدعم له تداعيات سلبية أخرى، كونه يقلص من قدرة الجمعيات والمنظمات غير الحكومية على تقديم الدعم للعائلات.

واللافت أن كل الإجراءات الحكومية لتقليص الدعم أو رفعه تحصل رغم تصريحات وزير السياحة، وليد نصار، التي يتحدث فيها عن نشاط سياحي مزدهر، أسهم في رفد الخزينة بعدة مليارات من الدولارات، كان يمكن من خلالها تأمين استمرارية سياسة الدعم الحكومية. 

وفي حوار مع موقع "سبوتينك" الروسي في 21 سبتمبر/ أيلول 2022، قال وزير السياحة، إن موسم السياحة الصيفي "دعم حزينة الدولة والاقتصاد بقيمة 6.6 مليار دولار". 

بعدها صرح نصار لصحيفة "نداء الوطن" اللبنانية في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، أنه يتوقع وفق دراسة أعدتها وزارته "توافد نحو 700 ألف سائح خلال فترة شهر ونصف الشهر لغاية 10 يناير/ كانون الثاني 2022، ما سيدر نحو 1.5 مليار دولار". 

بيد أن الباحث محمد شمس الدين شكك في هذه الأرقام استنادا إلى حركة مطار "رفيق الحريري الدولي" في بيروت خلال ديسمبر/ كانون الأول 2022، 

وقال "أظهرت الأرقام أن عدد الواصلين من كل الجنسيات هو 300 ألف و279 شخصا، وبالتالي نحن بعيدون جدا عن رقم الـ700 ألف".

ولفت إلى أن الوافدين "لم يأتوا جميعا للسياحة وتمضية العطلة". 

وأشار شمس الدين لقناة "الحرة" الأميركية إلى أن "الفقراء الذين يحتاجون الى مساعدة في لبنان تبلغ نسبتهم نحو 55 بالمئة". 

ومضى قائلا "بعد قرار رفع الدعم عن حليب الأطفال بات الطفل يكلف أسرته نحو 4 ملايين و500 ألف ليرة (90 دولارا تقريبا)، وهذا يؤدي باللبناني أن يفكر للمليون قبل أن يتزوج أو قبل أن ينجب ولدا".

والرقم الذي ذكره الباحث المتخصص في الإحصاءات يعادل تقريبا أكثر من نصف الراتب التي تمنحه الحكومة للموظفين بعد الزيادات الأخيرة. 

شيخوخة المجتمع

في 16 يناير/ كانون الثاني 2023، نشرت صحيفة "النهار" اللبنانية تقريرا يتضمن مسحا قامت به وزارة الصحة في فبراير/ شباط 2022، بالاشتراك مع 9 شركاء بينهم "اليونيسيف" شمل 3 آلاف و550 طفلا، و9 آلاف و200 امرأة في سن الإنجاب. 

وأظهر المسح أن "9 من أصل 10 أطفال تتراوح أعمارهم بين 6 أشهر و 23 شهرا لا يتلقون الحد الأدنى من النظم الغذائية المقبولة اللازمة لصحتهم ونموهم وتطورهم". 

وذكر أن "نحو 7 بالمئة من أطفال لبنان يعانون من ضعف النمو الشديد، و1.8 بالمئة من عموم الأطفال يعانون من سوء التغذية الحاد، في حين يعاني 41 بالمئة من الأطفال من فقر الدم". 

في المقابل "70 بالمئة من أطفال لبنان لا يحصلون على الرضاعة الطبيعية الحصرية". 

من جانبه، قال رئيس قسم طب الأطفال في المركز الطبي للجامعة اللبنانية الأميركية، جيرار واكيم: "بدأنا نرى أطفالا يعانون أكثر فأكثر من نقص في الفيتامينات والتغذية بسبب الأزمة الاقتصادية". 

وتشير الأرقام والدراسات الى تراجع النمو السكاني، فأعداد الوفيات تشهد تفوقا على أعداد المواليد في بعض المحافظات اللبنانية. 

وبحسب أرقام المديرية العامة للأحوال الشخصية تراجع عدد المواليد من 86 ألفا و584 عام 2019، وصولا إلى 58 ألفا تقريبا عام 2022. 

وتراجعت نسبة الخصوبة (عدد الولادات لكل امرأة) من 2.1 عام 2020 إلى 1.6 عام 2021. 

كذلك تراجعت نسبة استيراد الأدوية بعد رفع الدعم الحكومي من 10.129 أطنان عام 2018 إلى 6.171 طنا عام 2022، أي سجلت تراجعا بقيمة 4.048 أطنان نسبته 39.6 بالمئة، وذلك حسب دراسة نشرها موقع "الدولية للمعلومات" المتخصص في الدراسات في 11 يناير 2022. 

وتشير الدراسة إلى أن عجز اللبنانيين عن تحمل قيمة الفاتورة الاستشفائية أدى إلى إغلاق عدد من الأقسام في المستشفيات، وانخفاض عدد الأسرة، وتراجع نسبة الإشغال في المستشفيات إلى ما يقارب النصف بالمقارنة مع ما قبل الأزمة. 

وفي بلد مثل لبنان حيث يسعى العدد الأكبر من الشباب إلى الهجرة بحثا عن مستقبل أفضل فإن ذلك يهدد بما يعرف بشيخوخة المجتمع، أي زيادة السكان من كبار السن مقابل الأطفال والشباب.

وقال الباحث المتخصص في شؤون الأسرة، علي حطب، إن "الظروف الحالية لا تشجع الشباب كثيرا على تأسيس أسر لهم، بل على العكس يقدم المترددون في زيجاتهم على التراجع إما عن مشروع الخطبة وإما على إنهاء الزواج نفسه". 

وأكد لـ"الاستقلال" أن "محافظة سكان لبنان على حجمهم العددي سيكون صعبا وسيؤثر على حجم القوى البشرية اللازمة في فترات لاحقة حتى يقوموا بإعادة البناء الاقتصادي وتجديد الحياة الاجتماعية فيه وتطويره". 

بدوره، قال الدكتور فيصل القاق، اختصاصي طب النساء في الجامعة الأميركية ببيروت: "نلمس في عملنا بالعيادات أن الناس يتجهون إلى تأجيل الزواج والإنجاب". 

ولفت القاق لـ"الاستقلال" إلى إن "معدل الخصوبة الكلي اليوم في لبنان من بين الأدنى في العالم العربي، ويعني هذا أن تعويض الوفيات يكون قليلا جدا وغير كاف".

واستطرد: "إذا نظرنا إلى الهرم السكاني في لبنان، هناك بالطبع ميل الى شيخوخة السكان. صحيح أنه يلزمه وقت طويل حتى يتحول إلى واقع ملموس، إلا أنه مع هجرة الشباب وزيادة الوفيات، من المنطقي توقع ارتفاع معدلات الأعمار وزيادة نسبة السكان من الفئة العمرية 65 عاما فأكثر". 

وينبه القاق إلى أن "شيخوخة السكان تترتب عليها أعباء اقتصادية مثل التأمين الصحي والاجتماعي بالإمكان تفاديها عبر منح الاهتمام اللازم من قبل الدولة لموازنة التركيبة السكانية".