فرسان مالطا.. دولة بلا أرض اخترقت استخبارات العالم بدعم من الفاتيكان

داود علي | منذ عام واحد

12

طباعة

مشاركة

"فرسان مالطا" دولة غير موجودة على الخريطة، وواحدة من أكثر المنظمات غموضا في التاريخ، بميزانية تقدر بملايين الدولارات، لكنها تخضع في الوقت الراهن لإرادة وإدارة الفاتيكان.

و"فرسان مالطا" تنظيم مسيحي كاثوليكي، أسس في القدس "تحت مظلة غزو الحملات الصليبية"، قبل نحو ألف عام؛ بهدف تقديم الرعاية الطبية لحجاج الأرض المقدسة.

كان اسمه الرسمي آنذاك عام 1050 "نظام السيادة العسكري لفرسان مستشفى القديس يوحنا الأورشليمي من روديس ومالطا".

ومع انتهاء الحملات الصليبية وطردهم من القدس والشرق، بقي "فرسان مالطا" بأفكارهم وأهدافهم، فيما تغيرت فقط هيئتهم بفعل الزمن والتحولات الجيوسياسية.

وسابقا كانت لهم وظيفة واحدة أساسية، تتمثل في دعم الوجود المسيحي بالأراضي المقدسة (القدس)، وحاليا توسعت المهمة وشملت العالم بأسره.

التنظيم يضم 13 ألفا و500 عضو، و95 ألف متطوع و52 ألف موظف، ومعترف به كدولة مقرها العاصمة الإيطالية روما، وهي عضو مراقب في الأمم المتحدة، رغم أنها ليست لها أرض.

ويأخذون الأمر والإشارة من البابا فرانسيس، الذي أعاد هيكلتهم وتنظيمهم في 3 سبتمبر/أيلول 2022، وأطلق يدهم في كثير من الصراعات والأحداث حول العالم، وباتت لهم اليد الطولى تحت مظلة العمل الخيري التطوعي. 

قناة اتصال 

وفي 30 ديسمبر/ كانون الأول 2022، نشرت مجلة "إنتيليجنس أونلاين" الفرنسية المختصة في شؤون الاستخبارات، تقريرها عن مستجدات "منظمة فرسان مالطا".

وقالت إن "زعيمها الجديد جون دونلاب يحاول الموازنة بين تقديم المساعدات إلى أوكرانيا وتعزيز علاقاته مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وكل ذلك تحت أعين الفاتيكان الساهرة".

وذكرت المجلة أنه "بأمر من البابا فرانسيس يقود المحامي الكندي جون دونلاب منظمة فرسان مالطا المنخرطة في أوكرانيا حاليا أكثر مما كانت عليه منذ سنوات".

وهو ما أكده الوفد الكبير من فرسان مالطا الذي حضر إلى كييف يومي 28 و29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، إلى جانب سفراء من الداعمين الأوروبيين الرئيسيين لأوكرانيا، ألمانيا والمجر وبولندا ورومانيا.

لكن انخراط "فرسان مالطا" في كييف ليس عاديا، حيث تنشط هناك منذ عام تحت اسم "Malteser International" الإغاثية بإدارة "بافلو تيتكو"، وهو عسكري أوكراني من مدينة لفيف، يتحدث الألمانية والروسية والبولندية، وانضم إلى "فرسان مالطا" بعد خدمته لسنوات في الجيش السوفييتي آنذاك.

نشاط فرسان مالطا في أوكرانيا لم يمنعها من الحفاظ على وجودها في روسيا، ففي عام 2022 احتفلت بالذكرى الـ30 لتجديد علاقاتها الدبلوماسية الثنائية مع موسكو. 

ويأتي ذلك ضمن إستراتيجية البابا فرانسيس، الذي لا يريد أن يفقد روسيا ويبعدها عن العالم المسيحي، بعدما فتحت عليه عقب حقبة الشيوعية المتطرفة.

لذلك وضعت "فرسان مالطا" سفيرها في الاتحاد الروسي، بعناية شديدة، فكان الأمير دوق أوستا، المطالِب بالعرش الإيطالي.

وانتقل الأمير الإيطالي إلى روسيا عام 1994 للعمل في شركة خاصة، حيث يتمتع بعلاقة جيدة مع الكرملين.

والأمير "أوستا" ضابط سابق في القوات الخاصة الإيطالية وحاصل على وسام الصداقة الروسي من الرئيس فلاديمير بوتين عام 2018. 

وهكذا يضمن الأمير لمنظمة "فرسان مالطا" قناة اتصال مع رئيس الدبلوماسية الروسية الأرثوذكسية، المتروبوليت هيلاريون، المقرب جدا من البطريرك كيريل في موسكو. 

كما أنه مرتبط شخصيا بشبكة عائلة "رومانوف" الروسية القوية، ففي 6 ديسمبر/ كانون الأول 2022، حضر حفل تعميد الأمير ألكسندر رومانوف، سليل ملك روسيا الراحل، القيصر ألكسندر الثاني.

فيما تعتبر روسيا "فرسان مالطا" قناة اتصال قيمة، وخصص وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، وقتا لزيارة مقرها خلال زيارته إلى الفاتيكان عام 2012 للاحتفال بالذكرى الـ20 لتجديد العلاقات الثنائية. 

إعادة هيكلة 

استخدام فرانسيس لفرسان مالطا في هذه المهمة الصعبة، جاء في ظل أزمة عميقة ومستمرة داخل المنظمة.

واستطاع البابا فرانسيس عام 2017 وضع الكيانات المركزية للمنظمة تحت وصايته، الأمر الذي اعتقد البعض أنه ينتهك طابع المنظمة السيادي.

ويقف ممثل البابا داخل المنظمة منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، الكاردينال سيلفانو ماريا توماسي، إلى جانب دونلاب (الرئيس الحالي).

فيما عزل الكاردينال السابق والمستشار المقرب من البابا، أنجيلو بيكيو، من هذا المنصب في سبتمبر/أيلول 2020، للاشتباه في تورطه مع الباحثة الإيطالية، سيسيليا ماروغنا، في قضايا اختلاس، حيث ادعت ماروغنا أنها تدير شبكة استخبارات نيابة عن الفاتيكان.

بعدها وبتعليمات من البابا، تمثلت مهمة توماسي في تنظيم عمليات المنظمة وشؤونها المالية.

وعملت المنظمة على تحفيز مجلسها القيادي وإقرار إصلاحات البابا التي نقلها توماسي لحوالي 14 ألف فارس، و70 أخا، وآلاف المتطوعين.

البابا فرانسيس لا يعتمد على فرسان مالطا فقط دبلوماسيا، فللمنظمة "نشاط استخباراتي" عميق وقديم، خاصة مع الولايات المتحدة التي أدركت منذ فترة طويلة الدور القيم الذي يمكن لمنظمة فرسان مالطا أن تلعبه. 

فقبيل نهاية الحرب العالمية الثانية، كان سفير "فرسان مالطا" في واشنطن ثم في روما، لويجي باريلي، على اتصال وثيق مع رئيس مكتب الخدمات الإستراتيجية في أوروبا، ألان دالاس، الذي أدار سلسلة من المفاوضات السرية مع ألمانيا النازية، في إطار مهمة أطلق عليها اسم "عملية الشروق".

وأصبح دالاس عام 1951 أول مدير مدني لوكالة المخابرات المركزية، وحافظت الوكالة بعده على علاقاتها مع "فرسان مالطا".

استمرت هذه العلاقة غير الرسمية حتى قيام "التحالف المقدس" بين المنظمة ووكالة المخابرات المركزية ضد "الثورة الساندينية الشيوعية" في جمهورية نيكاراغوا خلال الثمانينيات، وفي هذا الصراع، تعاون فرسان مالطا مع ضباط المخابرات الأميركية.

كما هو الحال مع شركة "WR Grace" للاستيراد والتصدير التي شاركت في دعم الولايات المتحدة برئاسة قائد الرابطة الأميركية لفرسان مالطا، بيتر جريس، والذي استعان بعدة مديرين تنفيذيين في وكالة المخابرات المركزية.

جواسيس فرنسيون

في عام 2011، نقلت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية عن الصحفي المخضرم، سيمور هيرش، الذي يعد واحدا من أشهر صحفيي التحقيقات الأميركيين، أن "قيادة العمليات الخاصة المشتركة للجيش اخترقها متعصبون مسيحيون يعتبرون أنفسهم صليبيين في العصر الحديث ويهدفون لتحويل المساجد إلى كاتدرائيات".

وأكد أن "رئيس قيادة العمليات الخاصة المشتركة السابق، الجنرال ستانلي ماكريستال، وخليفته نائب الأدميرال ويليام ماكرافين، بالإضافة إلى العديد من كبار القادة الآخرين في قيادة الجيش الأميركي، جميعهم أعضاء، أو على الأقل من أنصار فرسان مالطا".

وسبق أن ذكر تقرير لموقع "أفترمات نيوز" الأميركي، مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 2007، أن فرسان مالطا هم "مليشيا البابا" ويقسمون على الطاعة التامة بقسم الدم الذي يؤخذ على محمل الجد ويؤدي إلى الموت.

على نسق آخر، تمكن بعض ضباط المخابرات الفرنسية من الانضمام إلى قيادة "فرسان مالطا"، كالقائد الفخري، كزافييه غيلو.

ويقدم بعض مسؤولي العمليات في المخابرات الفرنسية، النصح والمشورة لأعضاء المنظمة. 

ويذكر أن مستشار الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران، فرانسوا دي غروسوفر، كان فارسا بارزا وسفيرا للمنظمة في المغرب، وعثر عليه ميتا في مكتبه بقصر الإليزيه عام 1994.

ومن مركزية أوروبا إلى العالم الكبير تواصل "فرسان مالطا" توسيع نطاق عمل بعثاتها الدبلوماسية إلى مناطق جديدة.

وكما فعل البابا فرانسيس، بوضع إستراتيجية جديدة في آسيا والصين، بدأت المنظمة بهدوء تنشط بشكل مباشر في بكين حيث لديها بعض الممثلين غير الرسميين والعلاقات المحدودة.

اختراق للعرب

في البلاد العربية نشط "فرسان مالطا" بقوة وعلى الدوام، ولطالما أبدى المسيحيون الموارنة في بيروت الكفاءة العالية في الانخراط في نشاطات المنظمة في لبنان.

ونال رئيس "فرسان مالطا" في لبنان، مروان صحناوي، الثناء في بيروت وروما كما يحظى بدعم من البابا فرانسيس.

ولعب أعضاء المنظمة الفرنسيين (معظمهم من الدبلوماسيين) دورا فعالا في تطوير التقارب مع "فرسان مالطا" في لبنان والدول المحيطة، وذلك برعاية السفير الفرنسي السابق في سوريا والسعودية آنذاك، تشارلز هنري راجون، وخليفته في الرياض، برتراند بيسانسينوت. 

وقدمت وزارة الخارجية الفرنسية الدعم لفرع المنظمة في لبنان عقب انفجار ميناء بيروت في أغسطس/ آب 2020، رغم أن معظم ذلك الدعم تموله مؤسستا "بيير فابر" و"لويس دريفوس".

ومن لبنان أيضا، يعمل "فرسان مالطا" في سوريا التي مزقتها الحرب، حيث يعتبر المبعوث الفرنسي الخاص إلى شمال سوريا، بريجيت كورمي، أحد أعيان فرسان المنظمة، ومن المقربين لبابا الفاتيكان. 

ولم تكن المنظمة وفرسانها ببعيد عن الربيع العربي والأحداث السياسية التي طرأت في العشرية الثانية من القرن الجاري.

وفي 8 أبريل/ نيسان 2014، تلقى النائب العام المصري عدة بلاغات تتهم سفارة "فرسان مالطا"، والتي مقرها وسط القاهرة، بالضلوع في أحداث العنف التي شهدتها "بلاد الكنانة".

ووفق ما أورد التلفزيون المصري الرسمي، فإن رئيس نيابة منطقة قصر النيل (آنذاك) المستشار سمير حسن، باشر التحقيقات في بلاغات تتهم القائم بأعمال سفارة "فرسان مالطا"، والعاملين بها بـ"إثارة الفوضى داخل البلاد، والمساس باستقلاليتها ووحدتها وسلامة أراضيها".

وتضمن البلاغ ضد "فرسان مالطا" الإخلال بالنظام العام، وتعريض سلامة المجتمع وأمنه للخطر، إضافة إلى ارتكاب جرائم القتل العمد، والشروع فيه بحق المواطنين، وإخفاء وحيازة أسلحة مختلفة داخل مقر السفارة.

وتقدم حينها المحامي عزب مخلوف، رئيس "حركة الاستقرار والتنمية"، ببلاغ ضد كل من وزيري الخارجية، نبيل فهمي، والداخلية، محمد إبراهيم، وكذلك رئيس بعثة "فرسان مالطا" في القاهرة، يطالب فيه بـ"كشف هوية هذه السفارة السرية وإغلاقها."

ورغم وجود مقر لهم في القاهرة منذ مطلع الثمانينيات، ظهر اسم "فرسان مالطا" للمرة الأولى في وسائل الإعلام المصرية عندما أدلى قائد الحرس الجمهوري السابق، أيمن فهيم، بشهادته في "قضية القرن"، المتهم فيها الرئيس المخلوع حسني مبارك وآخرين بـ"قتل المتظاهرين".

وذكر فهيم، في شهادته أمام المحكمة، أن السيارتين الدبلوماسيتين المسروقتين، اللتين تم رصدهما بدهس المتظاهرين في محيط ميدان التحرير خلال أحداث "جمعة الغضب" في 28 يناير/ كانون الثاني 2011، كانتا بقيادة أعضاء من "سفارة فرسان مالطا".