رغم "حسم" ملف الصحراء.. لماذا تأخر المغرب في استرجاع سبتة ومليلية؟

سلمان الراشدي | منذ عام واحد

12

طباعة

مشاركة

بصورة لافتة تتزايد الأصوات السياسية والأكاديمية الإسبانية المتخوفة من "تنويم" حكومة مدريد لملف مدينتي سبتة ومليلية، مقابل حراك شعبي وصمت رسمي في المغرب.

وأثارت قضية "سبتة ومليلية" جدلا أخيرا، على خلفية أنباء إسبانية حديثة حول احتمال تسليمهما إلى المغرب، يقابلها تأكيدات في اتجاه احتفاظ مدريد بهما لعدم كسر شوكة "الثور الأحمر".

وطرحت هذه التطورات تساؤلات حول تأخر المغرب رسميا في المطالبة باسترجاع سبتة ومليلية (شمال)، مقابل دفاعه المستميت عن إقليم الصحراء (جنوب) المتنازع عليه مع جبهة البوليساريو.

وتقع سبتة ومليلية أقصى الشمال المغربي، وتخضعان لإدارة إسبانيا، وترفض الرباط الاعتراف بشرعية الحكم الإسباني، وتعد المدينتين جزءا لا يتجزأ من أراضيها، وتطالب مدريد بإجراء مفاوضات مباشرة على أمل استرجاعهما.

تهديد مباشر

صحيفة "إل ديباتي" الإسبانية، استحضرت في 12 ديسمبر/ كانون الأول 2022، تقريرا لباحثين من مختلف الجامعات الإسبانية، بعنوان "مطالبات المغرب بشأن سبتة ومليلية من منظور المنطقة الرمادية"، أشاروا فيه إلى عدم اعتراف المغرب بالمياه الإقليمية لسبتة أو مليلية.

كما لفتت إلى الرسالة التي وصفتها بـ"الواضحة جدا"، والتي بعثها المغرب في 9 سبتمبر/أيلول 2022 إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، مؤكدا فيها أنه ليست لديه "حدود برية" مع إسبانيا، ومعرفا سبتة ومليلية بأنهما "ثغران محتلان".

ورأت "إل ديباتي" أن هذه تبقى مجرد أمثلة لأصوات تحذّر من الضغط المغربي المستمر على "المدينتين الإسبانيتين المستقلتين والمياه الخاضعة للسلطة القضائية الإسبانية"، وفق تعبيرها.

ومضت إلى التذكير بالجدل المثار بين البلدين، منذ 2020، بعدما صادق المغرب على قانونين شرع بموجبهما في ترسيم حدوده البحرية الإقليمية حتى 12 ميلا بحريا والمنطقة الاقتصادية الخالصة (ZEE) البالغة 200 ميل بحري، إلى جانب توسيع جرفه القاري.

وأشارت الصحيفة إلى أن هذين القانونين، رغم عدم تطبيقهما بعد، فهما يتصادمان مع ترسيم حدود المياه الإسبانية.

بدوره، أكد رئيس أركان الدفاع الإسباني السابق، فرناندو أليخاندري، أن المغرب يمثّل "تهديدا مباشرا" لإسبانيا، بشأن احتمال مطالبته "الوشيكة" باسترجاع ثغوره المحتلة، بحسب ما جاء في كتابه الصادر مطلع ديسمبر 2022.

بدوره، قال العقيد الإسباني، رئيس المخابرات والأمن الأوروبي سابقا، بيدرو بانيوس: "طالبت عبر قناة محلية الناتو بحماية سبتة ومليلية، في حال تعرضهما لأي هجوم محتمل، لكن يبدو أن الناتو يفضل أفغانستان على (المحيط) الأطلسي".

وأشار بانيوس في مقابلة مع موقع "تلفزيون الريف" الإلكتروني، في 11 ديسمبر 2022، إلى أن "هناك سياسيين إسبانيين، بينهم وزراء في الحكومة، يتحدثون عن التنازل عن سبتة ومليلية، وهذا يقلقني شخصيا".

وأضاف "لدي إحساس أو إدراك لا معلومة، أن هناك اتفاقا سريا للتنازل تدريجيا عن المدينتين".

تعريفات متباينة

ورغم أنه لم يسبق أن تمت إحالة قضية سبتة ومليلية على اللجنة الخاصة بتصفية إرث الاستعمار في منظمة الأمم المتحدة، المعروفة باسم "اللجنة الرابعة"، وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة لا تعترف بالمدينتين كمنطقتين محتلتين، إلا أن المغرب لم يتخل في أي مرحلة من تاريخه عن إعلانه المدينتين مجتزأتين من ترابه الوطني.

واستمر في رفض الاعتراف بسياسة الأمر الواقع التي تباشرها إسبانيا، حتى بعد منح البرلمان الإسباني الإقليمين الحكم الذاتي عام 1995.

وكانت المدينتان تحت حكم البرتغال قبل أن تستولي إسبانيا على البرتغال، وتضمها للتاج الإسباني.

وبعد إعلان البرتغال استقلالها عن التاج الإسباني عام 1668، أعلنت- وفقا لنصوص "معاهدة لشبونة" الموقعة بين البلدين- اعترافها بالسيادة الإسبانية على المدينتين.

موقف الرباط ومدريد من ملف سبتة ومليلية يجد أصوله في تاريخ العلاقة بين البلدين، وتحديدا في فترة حصول المغرب على استقلاله، حيث يقول مؤرخون إن لديهما "تعريفا متباينا" لمفاهيم "الاستقلال" و"السيادة" و"الوحدة الترابية".

ويعود ذلك إلى أول وثيقة اعتراف إسبانية باستقلال المغرب، حيث تذهب الفقرة الثانية من "البيان المشترك" الصادر في 7 أبريل/ نيسان 1956، إلى أن مدريد تعترف باستقلال المغرب المعلن من طرف الملك محمد الخامس، وسيادته الكاملة واحترام الوحدة الترابية للمملكة، وتلتزم القيام بالإجراءات الضرورية لجعله (استقلال المغرب) نافذا. 

التفسير العملي لهذه الوثيقة، طبقه الملك محمد الخامس، الذي قام في 9 أبريل 2022 بزيارة تطوان قادما من إسبانيا بعد توقيع الاتفاق بين الجانبين، معلنا تحرير شمال المغرب من الاحتلال وتوحيد المملكة.

وقال في خطابه: "بالأمس عدنا من ديار فرنسا ووجهتنا عاصمة مملكتنا رباط الفتح لنزف منها إلى رعايانا بشائر الاستقلال، واليوم نعود من رحلتنا من الديار الإسبانية ووجهتنا تطوان قاعدة نواحي مملكتنا في الشمال، وتحت سماء هذه المدينة قصدنا أن يرن صوت الإعلان بوحدة التراب إلى رعايانا في جميع المملكة، وذلك رمز إلى إتمام هذه الوحدة وتثبيتها".

غير أن هذا التفاهم بين الرباط ومدريد، سرعان ما تلاشى بسبب فهم كل طرف لمعنى "الاستقلال" و"السيادة" و"الوحدة الترابية".

يوم وطني

ومع انقضاء عام 2020، عادت قضية سبتة ومليلية،  إلى واجهة الأخبار، إثر مقابلة تلفزيونية خصها رئيس الحكومة المغربي آنذاك سعد الدين العثماني، لإحدى القنوات العربية.

وكان الأبرز في المقابلة هو تصريح العثماني نية المغرب فتح ملف المدينتين مع إسبانيا بعد حسم "قضية الصحراء" (جنوب)، لإنهاء ما يزيد على خمسة قرون من الاحتلال.

و"حسم قضية الصحراء" يعني قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الاعتراف بسيادة المغرب على إقليم الصحراء، في 10 ديسمبر 2020.

ومنذ 1975، هناك نزاع بين المغرب وجبهة "البوليساريو" حول إقليم الصحراء، بدأ بعد إنهاء الاحتلال الإسباني وجوده في المنطقة.

وتقترح الرباط حكما ذاتيا موسعا في إقليم الصحراء تحت سيادتها، بينما تدعو "البوليساريو" إلى استفتاء لتقرير المصير، وهو طرح تدعمه الجزائر التي تستضيف لاجئين من الإقليم.

وكانت إسبانيا ضمن القوى التي تعمل على إطالة أمد النزاع حول قضية إقليم الصحراء، ورأى ساستها أن إطالة عمر النزاع الصحراوي أكثر مما مضى، سيشغل المغرب عن الالتفات إلى الشمال وسيحول دون تطلعه لاسترجاع سبتة ومليلية.

وثارت في 13 مارس/آذار 2021 دعوة دشنها نشطاء مغاربة، وطالبوا فيها بتخصيص هذا اليوم من كل عام يوما وطنيا للمطالبة باسترجاع المدينتين، والتذكير بأنهما "مناطق محتلة يجب تحريرها".

ورأى نشطاء "الرابطة المغربية للمواطنة وحقوق الإنسان"، أن سبتة ومليلية جزء لا يتجزأ من التراب المغربي، بدليل الوقائع التاريخية والجغرافية.

وشنت المنظمة حملة إدانة واسعة ضد ما أسمته جهود "طمس المعالم الإسلامية" و"الزيارات المتكررة للمسؤولين الإسبان بهدف شرعنة الاحتلال الإسباني للمدينتين المغربيتين".

وخلال العقد الأخير، اتجه المغرب لتبني سياسة تؤدي إلى تفريغ المدينتين من جدواهما الاقتصادية بالنسبة لمدريد، ورفع تكلفة احتفاظ المملكة الإسبانية بهما.

وتمكن المغرب من إنشاء ميناء "الناظور" ذي الطاقة الاستيعابية الضخمة، علاوة على ميناء "طنجة 2" الذي يعمل بحجم تبادلات عالمية تفوق 7.3 مليارات يورو سنويا.

مسألة وقت

وفي الإطار نفسه، اتخذت السلطات المغربية إجراءات لإغلاق المعابر التي تصل مدينتي سبتة ومليلية بباقي التراب المغربي، من أجل الاستفادة من عوائد التجارة ورسوم رسو السفن.

وأغلقت السلطات المغربية معبر مدينة سبتة عقب تقرير صدر عن البرلمان، في فبراير/شباط 2019، ورد فيه أن "المغربيات الممتهنات للتهريب المعيشي بالمعبر، يعشن أوضاعا مأساوية، وينمن ليومين وأكثر في العراء"، كما مرت معابر "مليلية" بظروف مشابهة؟

وبعد عامين من الإغلاق بسبب تفشي جائحة كورونا وأزمة سياسية مرت بها علاقات البلدين، فتحت السلطات المغربية والإسبانية الحدود البرية للمدينتين، في 17 مايو/أيار 2021.

وفي مارس 2022، عاد الدفء للعلاقات بين البلدين، بعد إعلان إسبانيا دعمها لمبادرة الحكم الذاتي المغربية لتسوية النزاع في إقليم الصحراء.

ورأى رئيس وزراء إسبانيا بيدرو سانشيز، في رسالة وجهها إلى ملك المغرب محمد السادس في 14 مارس، أن مبادرة الرباط للحكم الذاتي هي "الأكثر جدية" لتسوية النزاع بالإقليم، وسط صمت الطرفين عن سبتة ومليلية.

وفي الوقت الراهن، استعصى فهم صمت الرباط ومدريد على الصحافة والمعارضة في البلدين، حيث قررت حكومتا البلدين عدم إثارة الموضوع أمام الرأي العام.

وفي تعليقه عن الصمت الحكومي ومخاوف النخبة في إسبانيا، قال رئيس المركز المغاربي للأبحاث والدراسات الإستراتيجية نبيل الأندلوسي، إن "الأصوات الإسبانية المتوجسة من إمكانية مطالبة المغرب باسترجاع سبتة ومليلية، في الحقيقة لا تنطلق من فراغ، وهذا أمر آتٍ آجلا أم عاجلا".

وأكد الأندلوسي لـ"الاستقلال" على أن "المسألة مسألة وقت ليس إلا، لكون المدينتين محتلتين من طرف إسبانيا وليستا إسبانيتين، تاريخيا وجغرافيا وانتماء".

واستدرك: "لكن أستبعد وجود توجه مغربي رسمي لتحريك هذا الملف، في الوقت الراهن، لأسباب كثيرة مرتبطة بمقاربة الأولويات عند صناع القرار ومدبري السياسة الخارجية المغربية، خاصة في ظل عدم حسم المغرب، وبشكل نهائي، للإشكال المفتعل بشأن الصحراء المغربية".

وشدد الأندلوسي على أن "الصمت المغربي الرسمي عن المطالبة باسترجاع المدينتين، المحتلتين منذ القرن السادس عشر بالنسبة لمليلية، والسابع عشر بالنسبة لسبتة، تحكمه إكراهات إقليمية ودولية".

ولفت إلى أن "الملك الراحل الحسن الثاني سبق أن اقترح تأسيس لجنة مشتركة أو ما سماه (خلية تفكير)، لبحث الحلول الممكنة لمعالجة هذا الملف بالطرق السلمية والودية والحوار بين الطرفين".

وقال الأندلوسي: "في سنة 2021، وبصفتي رئيسا آنذاك للجنة الشؤون القانونية والتشريعية وحقوق الإنسان بالبرلمان العربي، تقدمت بمقترح تبناه البرلمان العربي بالإجماع، طالبنا من خلاله باسترجاع سبتة ومليلية المحتلتين من طرف إسبانيا، وقد صدر بلاغ رسمي حينها في الموضوع".

وختم بالقول: "لذا فمن المهم أن يتحرك السياسيون المغاربة والمنتخبون وفعاليات المجتمع المدني، لطرح هذا الملف والترافع من أجله".