"العدالة أو الفوضى".. قصة المارد التونسي الذي يخرج ليلا ضد قيس سعيد
.jpg)
كلما أسدل الليل ظلامه، تحولت شوارع الأحياء الشعبية في العاصمة تونس إلى ساحات مواجهة بين قوات الأمن والشباب الغاضب من سياسات الرئيس قيس سعيد الاستبدادية.
ويعمد الشباب إلى إغلاق الطرق بإشعال الإطارات المطاطية ومواجهة القوات الأمنية المقتحمة لأحيائهم باستعمال الحجارة وقنابل المولوتوف والألعاب النارية، في مشهد يذكر بأحداث ثورة عام 2011.
وتفجرت الاحتجاجات الليلية في ضواحي العاصمة منذ 14 أكتوبر/ تشرين الأول 2022 من حي التضامن أكبر أحياء تونس.
حيث شهد اشتباكات بين الشرطة ومواطنين، مباشرة بعد وفاة شاب من الحي يدعى "مالك السليمي" متأثرا بإصابته التي يؤكد الأهالي أنها من طرف الأمن، بينما تنكر وزارة الداخلية التونسية ذلك.
وشهدت رقعة الاحتجاجات توسعا لتشمل عددا من الأحياء في العاصمة تونس وبعض المدن الداخلية، بالإضافة إلى تواصل احتجاج الأهالي في مدينة جرجيس وبنزرت والمكنين بالساحل الجنوبي على خلفية غرق قوارب للمهاجرين غير النظاميين .
إلا أن اللافت في تحركات هذه المرة الشعار الذي رفعه المحتجون وتداولته مواقع التواصل الاجتماعي، وهو "العدالة أو الفوضى".
وهو ما يؤكد، وفق نشطاء وسياسيين، أن هذه التحركات تتجاوز بعدها الاجتماعي لتشمل مطالب سياسية وحقوقية مازال التونسيون متمسكين بها بعد 11 عاما من الثورة، رغم انقلاب سعيد على السلطات الديمقراطية في 2021.
مواجهات ليلية
تعود أطوار الأحداث إلى تاريخ 31 أغسطس/ آب 2022، عندما كان الشاب مالك موجودا رفقة أصدقائه على متن دراجته النارية بحي التضامن.
وأثناء سيرهم بالدراجة قامت سيارة شرطة بملاحقتهم من الخلف ما اضطرهم إلى التوقف على جانب الطريق"، وفق ما نقلته جمعية "تقاطع من أجل الحقوق والحريات" (غير حكومية).
وأضافت الجمعية، في بيان، أنه "بعد وقوفهم ونزولهم من الدراجة قام أعوان الشرطة بالتوجه إلى مالك مباشرة وضربه ضربا شديدا دون أي سبب يدفعهم للقيام بذلك".
وأشارت إلى أن "الضحية مالك حاول المقاومة والهروب من بين أيديهم ليقوموا بدفعه حتى سقط في قناة صغيرة لتصريف مياه الأمطار وأغمى عليه ليبقى هناك إلى حين وصول سيارة الحماية المدنية".
ومنذ ذلك اليوم بقي مالك في المستشفى تحت العناية الطبية بسبب ما لحقه من كسور عديدة وارتجاج أصاب رأسه، حتى توفي يوم 13 أكتوبر 2022.
وانطلقت المواجهات بالتزامن مع جنازة الشاب الفقيد يوم 14 أكتوبر، لتتواصل في مساء بحي التضامن مواجهات ليلية بين شبابه الغاضب وقوات الأمن.
ثم انتشرت عدوى الاحتجاجات الليلية إلى أحياء مجاورة بالعاصمة مثل الزهروني والملاسين ودوّار هيشر.
ويعد حي التضامن، الأكبر في تونس من حيث الكثافة السكانية، فهو يضمّ أكثر من 90 ألف ساكن يتوزعون على مساحة لا تتجاوز 400 هكتار وفق إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء لسنة 2014، جعلت منه "الصين الشعبية" للبلاد التونسية كما يقال.
واستعار الشباب المحتج في هذه الأحياء المهمشة في ضواحي العاصمة، شعار "العدالة أو الفوضى" الذي رفع سابقا من قبل مجموعات مشجعي النوادي الرياضية وخاصة النادي الإفريقي إبان قضية وفاة الشاب عمر العبيدي غرقا بعد مطاردة أمنية في عام 2017.
وبلغت قضية عمر العبيدي مرحلتها الأخيرة بعد أن حددت المحكمة يوم 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، تاريخا نهائيا للتصريح بالحكم في حق 14 عنصرا أمنيا متهمين بالمشاركة في قتله.
ويتهم الناشطون السلطات بالتستر على المذنبين والتشجيع على الإفلات من العقاب، إذ قال المحامي ورئيس هيئة الدفاع عن الفقيد العبيدي، التومي بن فرحات، إنه تم رفض سماع الشهود والطب الشرعي في عديد المطالب السابقة ولهذا فإن "الثقة منعدمة في القضاء".
وأضاف، أن هناك "تهاونا كبيرا في الأعمال الاستقرائية، فضلا عن طمس الأدلة مع عدم جدية باحث البداية أو في التحقيق، ناهيك عن حالة التضييق الكبيرة على الشهود، إذ انطلقنا بـ 11 شاهدا، ثم أصبحوا 8، بعد اضطرار شاهدين إلى الهجرة غير النظامية بسبب التضييق".
وخلص رئيس هيئة الدفاع خلال ندوة صحفية يوم 19 أكتوبر إلى أنه "كلما كان المتهم أمنيا، يحدث طول التقاضي، ويقع طمس الأدلة".
مقاربة أمنية
رغم الغضب المتصاعد في مختلف الأحياء، وتزامنه مع وضع اقتصادي واجتماعي هو الأسوأ منذ عقود، إلا أن السلطات تصر على الاستمرار في اعتماد المقاربات الأمنية وعدم الوفاء لكل الشعارات التي تم رفعها منذ وصول قيس سعيّد إلى السلطة وخاصة بعد انقلاب 25 يوليو/تموز 2021.
ووصف المتحدث باسم الإدارة العامة للحرس الوطني حسام الدين الجبابلي، أن الاحتجاجات في حي التضامن بـ"أحداث شغب"، وأنها تضمنت "رشق دوريات أمنية بالحجارة وخلع بعض المحلات والاعتداء على أملاك عمومية وخاصة وحرق بعض السيارات".
وأوضح في تصريح للقناة الوطنية (حكومية) ليلة 17 أكتوبر، أنه جرى "توقيف 6 أشخاص في الليلة الأولى للاحتجاجات ولاحقا إيقاف أكثر من 15 شخصا وتم الاحتفاظ بهم بإذن من النيابة العمومية".
من جانبها عدّدت مجموعة من منظمات المجتمع المدني في بيان مشترك بتاريخ 21 أكتوبر، التجاوزات التي حصلت خلال هذه الاحتجاجات.
وعبرت عن رفضها اعتماد السلطة على "المقاربات البوليسية والقضائية الفجة في التعامل مع الاحتجاجات الشعبية وتكريسها سياسة الإفلات من العقاب وعدم المساواة أمام القانون".
ونددت بـ"الاستعمال المفرط للقوة والإيقافات العشوائية واستهداف النشطاء عوض التعامل مع الاحتجاجات بإيجابية وتفهم أسبابها وسماع وجهة نظر أصحابها"، معبرة عن "مساندتها المطلقة لكل الاحتجاجات السلمية ضد سياسات التهميش والتفقير والتجويع وضد تلاعب السلطة الحالية بمصير التونسيين".
كما دعت المنظمات إلى "الإطلاق الفوري لسراح كل المعتقلين والكف عن ملاحقتهم وضمان حقهم في التعبير والاحتجاج"، مشيرة إلى أنها شرعت بالتنسيق مع كل الهيئات والهياكل المعنية في "تقديم الدعم القانوني لكل المحالين عشوائيا على القضاء".
ولفتت إلى "اختطاف الناشط سيف العيادي على خلفية مساندته لعائلة الشاب مالك السليمي ضحية العنف البوليسي في حي التضامن بغاية إخراس صوت الشهود وتبرئة المذنبين من عناصر الأمن، ومداهمة منزل الناشط أوس السعدي وإيداعه السجن دون تهمة واضحة، واختطاف الناشط الطلابي غيث مرزوق من إحدى مقاهي منطقة الجبل الأحمر واعتقاله.
وتابعت: بالإضافة إلى مواصلة محاكمة الصحفيين على غرار غسان بن خليفة وأروى بركات وخليفة القاسمي، وتتبع المعارضين والمعارضات لمشروع قانون زجر الاعتداءات على القوات الحاملة للسلاح.
يذكر أن أجهزة الأمن واصلت تتبع المحتجين في منطقة مرناق على خلفية احتجاجهم على أثر انتحار الشاب محمد أمين الدريدي (بائع متجول) ومحاكمتهم المستعجلة وإصدار أحكام قاسية وصلت لـ3 سنوات سجنا .
وذكرت منظمات المجتمع المدني ومن بينها نقابة الصحفيين والرابطة التونسية لحقوق الإنسان أنه تمت مداهمة منازل عديد من المحتجين بحي التضامن والانطلاقة والكبارية والاحتفاظ بهم للتحقيق معهم في قضايا كيدية ومعدة سلفًا من أجل منعهم من مواصلة الاحتجاج.
كما شهدت المحكمة الابتدائية ببن عروس أثناء محاكمة قتلة عمر العبيدي حصارا أمنيا منع بسببه عشرات المواطنين من الالتحاق بالوقفة الاحتجاجية التي تزامنت مع الجلسة واختطاف بعضهم، وقد طالت هذه التضيقات عددا من أعضاء فريق الدفاع من المحامين.
العدالة أو الفوضى
ويرى شباب الأحياء الشعبية أن كل واحد منهم من الممكن أن يلاقي في أي لحظة مصير عمر العبيدي أو مالك السليمي أو غيرهم من الذين تعرّضوا للعنف أو التعذيب في مراكز الإيقاف.
ويؤكد الناشط السياسي قيس بوزوزية لـ"الاستقلال"، وهو شاب من منطقة دوار هيشر بالعاصمة تونس، إن "شعار العدالة أو الفوضى، الذي رفع في أغلب الاحتجاجات، المقصود به العدالة في كل جوانبها".
ويوضح قائلا: بداية من العدالة الاجتماعية ممثلة في الحق في حياة كريمة وتوزيع عادل للثروة، حيث يعيش أغلب الشباب حالة شعور بالغبن والاغتراب في ظل التهميش الحكومي بالإضافة لغياب أي أمل".
ويضيف بوزوزية "زد على ذلك ما تتعرض له هذه الفئة من قمع يومي من قبل الأجهزة الأمنية يكاد يكون نمط عيش مع حالة إفلات من العقاب، يصل حد القتل بدم بارد على أتفه الأسباب وفي حالات كثيرة بدون أي سبب".
وأكد الناشط الشبابي أن "الشعار هو رد فعل على كل هذا، إذ يرى أغلب الشباب أن هذا الوضع يجب أن يوضع له حد، وبما أن السلطة السياسية متواطئة، فقد قرر الضغط عليها لتغيير سياساتها بوضعها أمام خيارين إما العدالة بكل جوانبها أو الفوضى".
ويعد بوزوزية أن التعاطي الأمني مع الاحتجاجات لم يتغير منذ ما قبل 2011, حيث يعتمد على قمع المتظاهرين بعنف شديد يصل حد القتل أولا، ثم تشويههم بوصفهم بالمجرمين أو اللصوص، وتلفيق القضايا ضدهم".
ويرى أن "هناك توجها جديدا يتمثل، في معاقبة أحياء بأكملها، عبر استهداف المواطنين بالغاز في منازلهم وإهانتهم، وإيقاف الشباب خاصة بشكل عشوائي، من أجل دفع المواطنين غير المشاركين في الاحتجاجات لاتخاذ موقف ضد المحتجين باعتبار أنهم السبب في كل هذا".
ويختم بوزوزية بالتأكيد أن "هذه التجاوزات ليست فردية ولا معزولة بل سياسة عامة لوزارة الداخلية، وهناك رضا وقبول لهذه التجاوزات من قبل القيادة الأمنية".
المصادر
- منظمات تندد بـ"اعتماد المقاربات البوليسية وتوظيف القضاء" ضد المحتجين في تونس
- الناطق باسم الداخلية: 'مالك السليمي لو وفّرت له عائلته الإحاطة النفسية والإجتماعية راو ما صارش هذا الكل
- احتجاجات ومواجهات في تونس لليوم السادس
- حي التضامن.. بصيص نور خافت وسط ظلمة التهميش
- عم المرحوم مالك السليمي: لسنا دعاة فوضى وإن شاء الله العدالة تاخو مجراها
- بعد ليلة ساخنة من الاحتجاجات.. الجزيرة نت ترصد الأوضاع في "دوار هيشر" بضواحي العاصمة التونسية
- ماذا تخبئ الأحياء الشعبية في تونس من أزمات اقتصادية؟