لماذا تحركت الآن مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والاحتلال الإسرائيلي؟

مصطفى العويك | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

دخل ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل مراحله الأخيرة، وبات الطرفان قاب قوسين أو أدنى من التوصل الى اتفاق برعاية أميركية حسب تصريحات المعنيين بالملف من كلا الجانبين. 

وهذا الأمر يضع حدا لمفاوضات غير مباشرة ومعقدة استمرت لسنوات، شهدت الكثير من المد والجزر، وانتقال ملف التفاوض بين العديد من الأشخاص.

وكان التشاؤم يرخي بظلاله على قضية ترسيم الحدود البحرية، بسبب تحول الحكومتين اللبنانية والإسرائيلية إلى تصريف الأعمال.

وأيضا مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية (الكنيست) في إسرائيل في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 ونهاية ولاية رئيس الجمهورية اللبناني الميشال عون في 31 أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام.

مفاوضات معقدة

وأصبح هناك تفاؤل كبير في ظل نشاط أميركي محموم لإنجاز الاتفاق في أسرع وقت ممكن.

فهل لعبت أزمة الغاز العالمية الدور الأكبر في تسريع الوصول إلى اتفاق؟ أم أن تهديدات حزب الله هي ما فعلت ذلك حسبما ينسب لنفسه؟ وهل يمضي الحزب بالاتفاق في ظل تعثر الاتفاق النووي بين إيران وأميركا؟

وكان لبنان قد بدأ ترسيم حدوده البحرية عام 2006، حينما اتفقت الحكومة اللبنانية برئاسة فؤاد السنيورة مع جزيرة قبرص، لكنها لم تستطع إكمال عمليات الترسيم مع سوريا وإسرائيل، بسبب الخلافات السياسية مع الأولى، وحالة الحرب القائمة مع الثانية. 

ومنذ ذلك الوقت كانت قضية الحدود البحرية تثار في لبنان على وقع التطورات السياسية من أجل الاستهلاك المحلي، دون فعل أي خطوة فعالة تحت وطأة ضغوط حزب الله، الذي كان يرفض بشكل قاطع أي تواصل مباشر أو غير مباشر مع الدولة العبرية.

لكنه بعد ذلك وافق على إجراء رئيس مجلس النواب نبيه بري، وشريكه فيما يسمى الثنائي الشيعي، الذي يسيطر على كامل التمثيل السياسي للشيعة، مفاوضات مع الجانب الأميركي كوسيط. 

وفي أكتوبر 2020، أعلن بري عن إنجاز اتفاق الإطار بين لبنان وسوريا، والذي وضع الخطوط الرئيسة للاتفاق، مع بقاء مساحة متنازع عليها تبلغ 860 كلم. 

غداة ذلك انطلقت مفاوضات بين بيروت وتل أبيب برعاية أميركا والأمم المتحدة في مقر قوات حفظ السلام جنوب لبنان للوصول إلى اتفاق نهائي. لكنها توقفت في جولتها الخامسة في مايو/أيار 2021 بسبب رفض الاحتلال للمطالب اللبنانية. 

ليتحول الملف إلى المبعوث الخاص للرئيس الأميركي لشؤون الطاقة الدولية آموس هوكشتين، الذي عمل على تقريب وجهات النظر بين الطرفين، من خلال جولات متقطعة على المسؤولين في كلا البلدين. 

وتسارعت منذ بداية يوليو/تموز 2022 التطورات المرتبطة بهذا الملف، إثر وصول سفينة إنتاج وتخزين استأجرتها إسرائيل لحساب شركة "إينيرجيان بي أل سي" ومقرها لندن، على مقربة من حقل "كاريش" المتنازع عليه، إذ دفعت هذه الخطوة بيروت إلى المطالبة باستئناف المفاوضات بوساطة أميركية. 

وفي التاسع من الشهر نفسه، اعترض الجيش الإسرائيلي مسيرات غير مسلحة أرسلها حزب الله على مقربة من حقل "كاريش"، في رسالة واضحة. 

أتبعها أمين عام الحزب حسن نصر الله بتهديد إسرائيل في عدة خطابات له بأن استخراجها الغاز من الحقل المتنازع عليه قبل الاتفاق مع الدولة اللبنانية هو بمثابة "إعلان حرب". 

وفي 9 سبتمبر/أيلول 2022، أعلن هوكشتين عقب زيارة هي الثالثة له في غضون شهرين إلى بيروت، والتي استمرت لساعات، أن "تقدما أحرز في المفاوضات غير المباشرة في شأن ترسيم الحدود البحرية، لكن التوصل الى اتفاق لا يزال يتطلب المزيد من العمل". 

اتفاق قريب

استغل الوسيط الأميركي هوكشتين وجود رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي على رأس وفد رسمي، وكذلك نظيره الإسرائيلي يائير لابيد، في نيويورك لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة، من أجل تذليل العقبات الأخيرة أمام الاتفاق. 

وقال ميقاتي عقب اجتماعه بوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في 21 سبتمبر والذي حضره هوكشتين، إن "ملف ترسيم الحدود البحرية يشهد تقدما كبيرا". 

كما قال الياس بو صعب، نائب رئيس مجلس النواب اللبناني، والمكلف من قبل رئيس الجمهورية بمتابعة ملف الترسيم مع الجانب الأميركي، أن "الاجتماعات مع هوكشتين وضحت الكثير من علامات الاستفهام ونحن بانتظار أن يسلمنا المسودة النهائية أو الطرح الرسمي، لكي تدرسه القيادات اللبنانية". 

وشدد بو صعب على أن "موضوع التفاوض في مرحلته النهائية، والخطوة المقبلة هي أن يتسلم لبنان الطرح الخطي ويدرسه، فإما يقبله وإما يرفضه"، وفق قناة "أم تي في" المحلية.

في حين أشارت صحيفة "الأخبار" المحلية إلى أن "لبنان وافق عمليا على الطرح الأخير الذي تقدم به الوسيط الأميركي، والذي يتمحور حول إيجاد منطقة آمنة بين الخطين 1 (الذي كانت تل أبيب تتمسك به)، و23 (الذي كانت بيروت تتمسك به)، بعد أن أدخل الجانب اللبناني تعديلات عليها".

والتعديلات تهدف إلى عدم تجاوز "البلوك رقم 10 (ضمن المنطقة الاقتصادية اللبنانية)، وتحافظ على النقاط البرية ذات التأثير في الترسيم". مع ترجيح الصحيفة نقلا عن مصادر الوفد اللبناني المفاوض أن يحصل الاتفاق في نهاية سبتمبر.

من جهته، قال وزير الخارجية اللبناني عبد الله بو حبيب، الذي كان في عداد الوفد المرافق لرئيس الحكومة خلال محادثاته في نيويورك، إن حزب الله أبلغ الحكومة اللبنانية أنه لن يعرقل الاتفاق.

وتابع: "حزب الله ليس لديه أي اعتراض على الإطلاق على أي اتفاق نتوصل إليه كدولة، لقد سمعت ذلك منهم، وآخرون فعلوا ذلك أيضا"، وفق ما قال في حديث لصحيفة "ذا ناشيونال" الأميركية في 23 سبتمبر.

وتشير الصحيفة إلى أنه مع انهيار الاقتصاد اللبناني، تراجع حزب الله عن رفضه التواصل مع تل أبيب بأي طريقة كانت، وشجع الحكومة على المضي في المفاوضات التي قادها المبعوث الأميركي آموس هوكشتين. 

لكنه هدد إسرائيل باستخدام القوة إذا بدأت الحفر في المنطقة البحرية المتنازع عليها قبل إبرام أي اتفاق. 

وأعرب بو حبيب في حديثه للصحيفة عن تفاؤله بشأن التوصل الى اتفاق قبل 31 أكتوبر، وهو اليوم الأخير في ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون.

إذ يوجد تخوف من عدم انتخاب رئيس جديد يستطيع التوقيع على الاتفاق "أنا لا أتحدث مع إسرائيل، لكن أميركا أكدت أن الاتفاق سيجرى قبل 31 أكتوبر وقد يحصل ذلك قريبا جدا". 

وتؤكد الصحيفة في تقريرها أن هوكشتين يضع اللمسات الأخيرة على مشروع اقتراح يقدمه إلى الحكومتين في الأيام المقبلة، وأن الاتفاق سيتيح إمكانيات هائلة للبنان في مجال الطاقة. 

تلاقي مصالح

فور انتشار هذه الأنباء، سارع حزب الله عبر وسائل الإعلام المقربة منه إلى نسب هذا الانتصار لنفسه فقط. 

وكذلك فعل رئيس الجمهورية ميشال عون الذي يمني نفسه بأي انتصار في الأيام الأخيرة لولايته، حتى ولو كان معنويا، في محاولة منه ليرفع عن كاهله عبء كل الأزمات السياسية والاقتصادية والمعيشية التي انفجرت في عهده. 

بيد أن كل ذلك لا يعدو كونه جزءا من التقاليد السياسية اللبنانية بالتهرب من مسؤولية الإخفاقات والمسارعة إلى قطف ثمار الإنجازات. 

فالمحرك الأساسي لمسار المفاوضات هو حاجة السوق الأوروبية إلى الغاز والنفط على أبواب شتاء يبدو أنه سيكون قاسيا على القارة العجوز. 

لم تكن الإدارة الأميركية التي أدارت ظهرها للشرق الأوسط لتلقي بثقلها في ملف ترسيم الحدود البحرية بين بيروت وتل أبيب إلا من أجل أوروبا، إذ تبذل واشنطن جهودا حثيثة للتخفيف من تأثير الحرب الروسية- الأوكرانية على حلفائها الأوروبيين.

يقول رئيس تحرير صحيفة "الأخبار" المحلية، إبراهيم الأمين، المقرب من حزب الله، في مقالة 20 سبتمبر إنه "انطلقت عملية صياغة مسودة اتفاق يشتمل على إقرار إسرائيلي، بضمانة أميركية وفرنسية وأممية، بأن لبنان صاحب الحق الاقتصادي الكامل في كل المنطقة الواقعة شمال الخط 23.

ويضيف: لبنان هو صاحب الحق الخاص بحقل قانا (متداخل بين الحدود البحرية لكلا الجانبين)، حتى ولو امتد إلى داخل الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى تعهد عملاني بأن تطلق الشركات العالمية، وخاصة توتال الفرنسية، أوسع عملية تنقيب تشمل كل البلوكات النفطية اللبنانية". 

ويشير الأمين إلى وجود جهة محايدة في الاتفاق ستتخذ "الإجراءات الكفيلة بمنع الاحتكاك على جانبي الخط الحدودي البحري، وبما يسهل عمليات شركات التنقيب والاستخراج، وفق آلية تنظم الحركة المدنية والعسكرية في المناطق الحساسة". 

لكن الأمين ينسب الاتفاق إلى حزب الله فقط، وأن التهديدات التي أطلقها أمينه العام حسن نصر الله بـ"الذهاب إلى حرب واسعة ما لم يقر العالم بحقوق لبنان" دفعت تل أبيب إلى الطلب من باريس وواشنطن التدخل.

 وأن حزب الله كان "العامل الأساسي الذي أفهم العدو (إسرائيل) بوسائل مختلفة بأنه لن يكون قادرا على التنعم بالثروة النفطية والغازية الموجودة في البحر الفلسطيني المغتصب، ما لم يتنعم لبنان بثروته"، مؤكدا أن إسرائيل أذعنت لشروط الحزب.

في حين يخالفه الرأي الكاتب السياسي أحمد الأيوبي قائلا إن "المهم عند الأميركيين أن يستخرج غاز المتوسط بأي ثمن". 

ويضيف في حديث لـ "الاستقلال": أوروبا على أبواب الشتاء، و(الرئيس الروسي) فلاديمير بوتين قد يلجأ الى سلاح الغاز الطبيعي، وهذا لن تقبل أميركا بحصوله ولو اضطرت إلى التوقيع مع ألد خصومها: حزب الله ومن خلفه إيران". 

ويشير الأيوبي إلى أن نصر الله "بعدما أطلق سيلا من التهديدات المتعلقة بملف ترسيم الحدود، قال مقابل هذا إن مراسلة غير علنية حصلت مع إسرائيل. وهذه المرة الأولى التي يتحدث عن مراسلات ونوع من المفاوضات غير المباشرة". 

ويلفت إلى أنه "من يقرأ تمسك نصر الله برفع ما يسميه الحظر الأميركي عن شركات النفط والغاز شرطا لتوقيع الترسيم، يدرك عمليا أنه يريد استقرارا اقتصاديا ومن خلفه استقرارا أمنيا على الحدود الجنوبية، نظرا إلى ما تمثله عمليات التنقيب والاستخراج من ضمانة أمنية ترتبط بأمن الطاقة لأوروبا والغرب".