جودت سعيد.. مفكر إسلامي سوري واجه استبداد عائلة الأسد وانحاز للثورة
.jpg)
طوال حياته، عارض المفكر والداعية الإسلامي السوري جودت سعيد استبداد نظام عائلة "الأسد"، حتى رحل في 30 يناير/ كانون الثاني 2022، عن عمر ناهز 91 عاما، بمدينة إسطنبول التركية.
اعتقل الشيخ مرات خلال عهد حافظ الأسد، وحينما بدأت المظاهرات السلمية ضد نظام بشار في مارس/ آذار 2011، خرج يحمل لافتة كبيرة على كامل جسمه في ساحة الأمويين بدمشق كتب عليها: "لا للعنف، لا لقتل المتظاهرين، نعم للثورة السلمية".
غير أنه في عام 2012، اضطر سعيد للخروج من سوريا مع أبنائه إلى تركيا، بعد تعرض قريته لقصف من قبل قوات النظام السوري، أدى لمقتل شقيقه، وبقي مستقرا في إسطنبول حتى وفاته.
النشأة والتكوين
ولد جودت سعيد في 9 فبراير/ شباط 1931 من أب ذي أصول شركسية، بقرية بئر عجم في القنيطرة، ولديه بنت وولدان.
في شبابه ذهب إلى مصر لإكمال دراسته بالأزهر الشريف، وهناك حصل على إجازة في اللغة العربية وتعرف على مفكرين مثل مالك بن نبي، ثم عاد إلى سوريا نهاية الخمسينيات، وعمل مدرسا للغة العربية في ثانويات العاصمة دمشق.
وفي تلك الفترة بدأت أفكاره تظهر على الساحة، ما سبب له متاعب لدرجة الاعتقال من السلطات السورية آنذاك.
لينتهي به الأمر بصرفه عن عمله لتشبثه بأفكاره ومواقفه التي ترى أن الحكم الذي يؤسس بالعنف والقوة والسلاح والانقلاب يشكل مجتمعا يغلب عليه الظلم ولا يشعر فيه الإنسان بالأمن.
وعن ذلك، يقول سعيد إنني "لما رجعت من مصر إلى سوريا نهاية الخمسينيات؛ خشيت أن يتكرر فيها ما حصل في مصر".
وعندما سجن عام 1965 وخرج حرص على تأليف كتاب ليعرف فيه عن نفسه، وظهر إلى النور باسم "مذهب ابن آدم الأول"، تحدث فيه عن ما سماه "العنف في العمل الإسلامي|، وبعد عشرين عاما ألف كتابا في 1997 حمل اسم "كن كابن آدم ".
ومن مؤلفاته أيضا"حتى يغيروا ما بأنفسهم"، و"فقدان التوازن الاجتماعي"، "والعمل قدرة وإرادة"، و"اقرأ وربك الأكرم".
وجرى اعتقاله عدة مرات في "حكم البعث"، أول مرة كانت في 1965، ثم فصل نهائيا من سلك التعليم، قبل اعتقاله مرة ثانية سنة 1986 لمدة ستة أشهر.
وفي عام 1973 قرر سعيد العودة لمنزله في القنيطرة، وقام بترميمه للإقامة فيه، واستقر هناك برفقة عائلته، وعمل في الفلاحة وتربية النحل، لضمان استقلاله الفكري، ليواصل من هناك نشر أفكاره الإصلاحية.
وكان سعيد بعيدا عن التزلف أو التقرب من سلطة النظام السوري الأب والابن، إذ لم يكن خطيبا في الجوامع، ولم يكترث له الإعلام السوري، بعكس ما كان يدعى في الخارج إلى مؤتمرات وندوات دولية.
وحضر سعيد منتديات ربيع دمشق بعد وراثة بشار الأسد السلطة عن أبيه حافظ عقب وفاته عام 2000، وكان أحد الموقعين إلى جانب العشرات من المفكرين والمعارضين السوريين على "إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي" عام 2005، الذي دعا لإنهاء حكم الحزب الواحد وإطلاق الحريات السياسية في سوريا.
وفي عام 2008 كانت له مقالات عن أصالة حقوق الإنسان في الإسلام، ونشرت في "المشكاة" وهي مجلة فكرية حقوقية معارضة.
وكان سعيد من أوائل من شاركوا في الثورة السورية مع طلابه ومحبيه، وشارك أحد أبنائه في المظاهرة الشهيرة التي خرج فيها العشرات أمام وزارة الداخلية بوسط دمشق في 16 مارس/آذار 2011 للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين.
كما شوهد سعيد بين جموع المتظاهرين في حي برزة الدمشقي بداية الحراك الشعبي حاملا ورقة كبيرة كتب عليها:"يوجد حل عربي عربي، لا يخسر أحد ويربح الجميع، مثال: أوربا".
وجال سعيد على مناطق سوريا إبان اندلاع الثورة في درعا وريف دمشق عام 2011، قبل أن يقابلها النظام بالعنف، وخطب وسط جموع المتظاهرين وحثهم على اتباع السلمية ونبذ العنف.
وبقي سعيد مقيما في سوريا حتى عام 2012، حيث تعرضت قريته لقصف من قبل قوات النظام السوري، أدى لمقتل شقيقه، ليقرر الخروج مع أولاده إلى تركيا، وبقي مستقرا في إسطنبول حتى وفاته.
الآراء والأقوال
ومن أبرز آرائه وأقوله التي انتشرت بين طلابه ومحبيه: الإنسان بإقناعه يعطيك روحه وماله وبإكراهه لا يعطيك إلا الكذب والنفاق والغدر. من يؤمن بالسلاح لا يؤمن بالإنسان، لأن السلاح يلغي الإنسان، ولهذا "لا إكراه في الدين".
الأمم المتحدة لا تزال تسير على رأي قارون وأبي سيدنا إبراهيم، يؤمنون بالقوة، بينما الأنبياء يدعون إلى كلمة سواء.
الديمقراطية لا تدخل أي بلد، ما لم يقر الجميع بالاحتكام إلى صندوق الانتخابات. الأغنياء يخافون معنى العدل، بينما الأقوياء يقبلون بالقوة ولا يقبلون بالديمقراطية.
الآخر طالما لا يمارس شريعة الغابة والامتيازات، ويقبل فكرة كلمة سواء وعدم اللجوء إلى العنف، فهذا له ما لنا وعليه ما علينا ولا نسأل عن دينه، بمعنى الكل هنا له منا البر والقسط.
قالوا عنه
وفي نعيه، كتب الداعية السوري عبد الكريم بكار: "فقدت أمة الإسلام اليوم واحدا من رموز المفكرين في العصر الحديث هو الأستاذ السوري جودت سعيد الذي قضى حياة مديدة في تثقيف الشباب مع الصدع بالحق والزهد في الدنيا".
كما أصدرت هيئة العلماء الفلسطينيين، بيان تعزية واصفة سعيد بأنه "أحد أبرز رموز الفكر الإسلامي المعاصر، وداعية الفكر السلمي، وأحد أبرز رموز المجتمع السوري، الذي لبى نداء ربه تعالى في مهاجره في مدينة إسطنبول عقب حياة حافلة بالعمل الإسلامي، ورفض الطغيان ومواجهة الاستبداد بأشكاله المختلفة".
ونعاه المتحدث الرسمي للمجلس الإسلامي السوري المعارض، الشيخ مطيع البطين، بقوله: "الأستاذ الكبير جودت سعيد تسعون عاما من الفكر والفلسفة والدعوة إلى السلم مقرونة بسلوك عملي يرفض الطغيان ويواجه الاستبداد ويقف مع ثورة الأحرار ضد الطائفية والإجرام".
وقال عنه الباحث السوري في علوم الإسلام "محمد أمير ناشر النعم": "كنت وما زلت أسمي الأستاذ المعلم جودت سعيد ضمير الثورة السورية التي حلمنا ونحلم بها".
وكتب عنه الكاتب السوري محمد منصور قائلا: "رحم الله المفكر جودت سعيد.. قرأت العديد من كتبه القيمة قبل ثلاثين عاما وقد بهرت بها. وبالأخص كتابيه (مذهب ابن آدم الأول) الذي يتحدث عن مشكلة العنف في العمل الإسلامي، و(حتى يغيروا ما بأنفسهم) عن إرادة التغيير الذاتية".
وأضاف منصور في منشور على فيسبوك: "لكن كل ما قاله يمكن تطبيقه في كل مكان ما عدا سوريا.. ففي سورية عصابة حاكمة على قدر من الهمجية والانحطاط والتوحش لا ترقى حتى لحكم زريبة حيوانات؛ وبالتالي كل نظريات البشر لا تنطبق عليها. نظام عصبيته قائمة على أحقاد تبيح لديه اعتقال أطفال في سجونه وتعذيبهم حتى الموت.. لا ينفع معه لا نظريات غاندي سورية ولا غاندي الهند".
كما نعاه أستاذ الشؤون الدولية بجامعة قطر محمد الشنقيطي، بقوله: "رحم الله المفكر الإسلامي السوري #جودت_سعيد، الذي رحل اليوم، فقد كان أمة وحده من دون الناس".
رحم الله المفكر الإسلامي السوري #جودت_سعيد، الذي رحل اليوم، فقد كان أمَّة وحده من دون الناس.. pic.twitter.com/q31Pv4FeQE
— محمد المختار الشنقيطي (@mshinqiti) January 30, 2022