يعرقل التحقيقات في تفجير مرفأ بيروت.. ما الذي يحاول حزب الله إخفاءه؟

مصطفى العويك | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

منذ اللحظة الأولى لانفجار ميناء بيروت في 4 أغسطس/آب 2020، واللبنانيون يترقبون تحقيقا شفافا للوصول إلى معرفة الأسباب الحقيقية للانفجار الذي دمر نصف العاصمة، وأدى لمقتل أكثر من مائتي شخص.

إلا أن تنظيم "حزب الله" الشيعي، المدعوم من إيران يحول دون ذلك، باتهامه القضاء اللبناني بأنه مسيس، وتهديده علنا، في 21 سبتمبر/أيلول 2021، لقاضي التحقيق طارق البيطار، المكلف بإجراء التحقيقات اللازمة بالتفجير.

وكان الحزب قد رفض بداية تحقيقا دوليا بالتفجير، على اعتبار أن هذا سيكون وفقا لأجندات سياسية تصب في النهاية ضده.

وصمت عن عمل قاضي التحقيق العدلي الأول فادي صوان حتى نهاية العام 2020، ومن ثم هدد القاضي طارق البيطار الذي عين خلفا له.

وادعى صوان في 10 من ديسمبر/كانون الأول 2020، على رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب وثلاثة وزراء سابقين.

والوزراء هم: وزير المالية السابق علي حسن خليل (المحسوب على حركة أمل بزعامة رئيس البرلمان نبيه بري)، ووزيرا الأشغال السابقين غازي زعيتر (المحسوب على ذات الحركة) ويوسف فنيانوس (المحسوب على تيار المردة الذي يرأسه الوزير السابق سليمان فرنجية).

إلا أن أحدا منهم لم يمثل أمامه في جلسات حددها لاستجوابهم بوصفهم "مدعى عليهم".

تهديدات للقضاة

هذا الأمر أثار امتعاض الحزب، فأصدر بيانا، في 11 ديسمبر/كانون الأول 2020، رفض فيه "بشكل قاطع غياب المعايير الموحدة والتي أدت إلى ما نعتقده استهدافا سياسيا طال أشخاصا وتجاهل آخرين دون ميزان حق".

وعلى خلفية ذلك، تقدم المدعى عليهم بدعوى لكف يد القاضي صوان عن الملف بدعم من أحزابهم، بحجة الارتياب المشروع، وهي ثغرة قانونية يمكن استخدامها لتمييع الملفات وتسويفها، بحيث تنتقل التحقيقات من قاض إلى آخر.

وفي فبراير/شباط 2021، وافق مجلس القضاء الأعلى (الجهة القضائية الأعلى في لبنان)، برئاسة القاضي سهيل عبود، على اقتراح وزيرة العدل ماري كلود نجم، بتعيين القاضي طارق البيطار محققا عدليا في قضية انفجار المرفأ خلفا لصوان.

رحب مدير المفكرة القانونية في لبنان (منظمة غير حكومية تعنى بشرح القوانين) المحامي نزار صاغية في تصريح لصحيفة الشرق الأوسط السعودية، 21 فبراير/شباط 2021 بتعيين بيطار، واصفا إياه بأنه من «القضاة الذين يتمتعون بكفاءة وسمعة جيدة».

إلا أن ذلك لم يشفع لبيطار الذي أعاد تكرار استدعاء الوزراء السابق ذكرهم إلى التحقيق، الأمر الذي أغضب حزب الله.

فأرسل رئيس لجنة الارتباط والتنسيق في الحزب الحاج وفيق صفا تهديدا مباشرا لبيطار عبر الإعلامية اللبنانية لارا الهاشم، فحواه إما أن تسير بالتحقيق كما نريد أو "نقبعك" (نقتلعك) من مركزك.

وهو ما اعتبر ضغطا رئيسا على القضاء اللبناني، ومحاولة مكشوفة لحرف الأنظار عن الحقيقة الدامغة في هذا الملف. 

ويعرف لبنان بأنه بلد الجريمة السياسية، ونادرا ما يعرف المسؤولون عنها أو الفاعلون الحقيقيون، بسبب الضغوطات الهائلة التي تفرضها القوى السياسية الطائفية على المؤسسة القضائية التي تعد مستقلة شكليا.  

وهو شهد منذ استقلاله عن فرنسا عام 1943 حتى يومنا هذا، اغتيالات ذهب ضحيتها رئيسا جمهورية (بشير الجميل ورينه معوض)، وثلاثة رؤساء حكومات (رياض الصلح، رشيد كرامي ورفيق الحريري)، وعدد كبير من السياسيين وقادة الفكر والرأي أبرزهم (الوزير محمد شطح والصحافي جبران تويني)

ووفقا لدراسة أعدتها "الدولية للمعلومات"، (مركز دراسات معتبر في لبنان)، في فبراير/شباط 2021 فإن معظم تلك الجرائم لم تصل التحقيقات فيها إلى نتيجة وبقيت غامضة، ومنها ما بقي ملف التحقيق فيها فارغا من أي دليل أو بينة أو حتى شهادة شاهد.

وكانت القوات اللبنانية (حزب مسيحي لبناني يعتبر الأكثر خصومة مع حزب الله)، وسياسيون مستقلون، كالنائب السابق فارس سعيد، وهو مفكر مسيحي أسهم في تأسيس عدة تجمعات سياسية، قد وجهت أصابع الاتهام إلى حزب الله بالضلوع في التفجير.

والحزب مليشيا عسكرية ضخمة، مسلحة ومدربة على أعلى مستوى، وشارك في القتال في سوريا دفاعا عن رئيس النظام السوري بشار الأسد.

وطالبت القوى السياسية المناوئة لحزب الله، وفي طليعتها تيار المستقبل ومفتي الجمهورية اللبنانية ورؤساء الحكومات السابقون والقوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي، بتحقيق دولي مستقل يستطيع العمل بحرية ونزاهة بعيدا عن تدخلات السياسيين والأحزاب ورجال الدين. 

كما قدمت منظمات غير حكومية، محلية ودولية، وعددها 53، رسالة مشتركة إلى الدول الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في حزيران/ يونيو 2020 لحثها على تشكيل لجنة تحقيق دولية.

لكن حزب الله عارض بحزم أي خطوة من هذا القبيل، ومنع الحكومة اللبنانية من تقديم طلب رسمي إلى الأمم المتحدة بهذا الخصوص، ما اعتبر تأكيدا على ضلوعه في التفجير.

وأكده بعد ذلك بتعاطيه مع القاضي صوان واتهامه بالتسييس، ومن ثم بتهديد القاضي طارق البيطار.

قضاء خائف

تعاطي الحزب مع القضاء بهذا الشكل، أعاد اللبنانيين بالذاكرة إلى الحقبة التي تلت اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري عام 2005. 

ففي ذلك الحين طالبت القوى السياسية المعارضة لسوريا، وغالبية الشعب اللبناني، بتحقيق دولي في الجريمة بسبب عدم ثقتهم بالتحقيق المحلي.

حينذاك، عرقل حزب الله مسار التحقيق في القضية بكل ما أوتي من قوة. 

ففي البداية عارض إجراء تحقيق دولي مستقل، ولم يتعاون مطلقا مع لجنة تقصي الحقائق التي أرسلها الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون. 

كما سحب وزراءه من حكومة فؤاد السنيورة عام 2006، مع وزراء حليفه الشيعي نبيه بري، بهدف إسقاط الحكومة.

وهو ما أفقد الحكومة مشروعيتها، حيث تنص الفقرة "ي" من مقدمة الدستور اللبناني على أن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، حيث لم تعد تتمثل فيها جميع الطوائف والمذاهب.

بعد ذلك منع حزب الله البرلمان من إقرار تلك المسودة كقانون في مجلس النواب اللبناني.

وهو ما دفع برئيس الحكومة فؤاد السنيورة إلى تقديم طلب بهذا الخصوص مباشرة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، والذي أحاله بدوره إلى مجلس الأمن الذي صوت عليه بموافقة 10 دول وامتناع 5 عن التصويت.

شكلت هذه الذكريات المريرة للبنانيين مع حزب الله في قضية اغتيال الحريري، هاجسا أرخى بثقله على مسار التحقيقات في قضية انفجار ميناء بيروت. 

ويتحاشى القضاة في لبنان على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم، الاصطدام بحزب الله في أي قضية، مهما كانت، خوفا على حياتهم وحياة عوائلهم.

ففي البداية حاول القاضي فادي صوان، إخراج حزب الله من دائرة الشبهات، عبر إهمال التحقيق في مسألة المسؤول عن إدخال نيترات الأمونيوم إلى لبنان ومن المستفيد منها؟

وكذلك أهمل مسألة سحب كميات كبيرة منها عبر فتحة جانبية في سور العنبر الذي تم تخزينها فيه، على الرغم من وجود تقارير أمنية مدعمة بتحقيقات صحفية استقصائية دولية عن نقل تلك الكميات من قبل حزب الله إلى النظام السوري. 

ونشر موقع "دويتشه فيله" الألماني في أغسطس/آب 2020، خلاصة تحقيقات استقصائية لجريدة "دير شبيغل" الألمانية، وكذلك صحيفة "فيلت" الألمانية، ووكالة "رويترز" العالمية.

نشرت هذه التحقيقات بعد أسابيع قليلة على حدوث الانفجار، وخلصت إلى مسؤولية حزب الله عن استيراد هذه المواد الشديدة الخطورة من أجل تزويد النظام السوري بها. 

في حين تركزت تحقيقات صوان على مسألة إهمال بعض الوزراء، وعدم إيلائهم الأهمية اللازمة لوجود مواد شديدة الخطورة في حرم المرفأ وقرب التجمعات السكنية، رغم علمهم بها وبخطورتها. 

إلا أنه في نهاية المطاف، اصطدم بحزب الله بشكل غير مباشر بسبب اتهامه لبعض الوزراء التابعين لحلفاء الحزب. 

عندها التف الحزب على التحقيقات، ودفع محكمة النقض إلى كف يد صوان، عبر استخدام الحصانة التي يتمتع بها النواب المتهمون، وكذلك مواد قانونية تتيح تغيير القاضي بآخر تحت ذريعة الارتياب المشروع.

طريق مختلف

وفي فبراير/شباط 2021 أقرت المؤسسة القضائية تحت وطأة الضغوط السياسية كف يد صوان واستبداله بالقاضي طارق البيطار. 

سلك البيطار نفس طريق سلفه، إنما باستخدام أسلوب أكثر ذكاء. فقد غلف تحقيقاته بالسرية لعدة أشهر. 

كما استمال أهالي ضحايا الانفجار، حيث عمد إلى استقبالهم بصفة دورية وتمرير معلومات معينة إليهم. 

والأهم من ذلك أنه أمن لنفسه حماية مسيحية، حيث أكثر التردد على مقر البطريركية المارونية، وأيضا أجرى زيارة إلى بعبدا، مقر رئاسة الجمهورية، خلال شهري يونيو/حزيران ويوليو/ تموز 2021، للحصول على غطاء رئاسي.

كل تلك الخطوات أتاحت للبيطار الحصول على دعم شعبي بسبب تعاطف اللبنانيين مع أهالي الضحايا الذين تحركوا أكثر من مرة في الشارع لدعمه. 

وعلى الرغم من تحييد حزب الله من قبل البيطار إلا أنه تعرض إلى هجوم مستمر من أمين عام الحزب حسن نصر الله الذي اتهمه بالتسييس والاستنسابية.

واعتبر نصر الله في خطاب متلفز 8 أغسطس/آب 2021، أن القاضي بيطار "يشتغل سياسة والتحقيق مسيس والمطلوب إعادة الملف إلى المسار الطبيعي".

ونشر الإعلامي اللبناني "ادمون ساسين"، في 21 سبتمبر/أيلول تغريدة على حسابه على تويتر، يتحدث فيها عن تعرض القاضي بيطار إلى تهديد من رئيس جهاز الأمن وفيق صفا. 

وأكد البيطار حصول التهديد، في رسالة سرية أرسلها إلى مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات.

ونقلت قناة الجديد اللبنانية عن بيطار قوله أنه يفعل ما يمليه عليه واجبه المهني، في حين لم يعلق حزب الله على الموضوع حتى تاريخ كتابة هذه السطور. 

وأحدثت رسالة التهديد هذه موجة استنكار وتضامن واحتضان شعبي للبيطار. 

يقول الكاتب السياسي في جريدة النهار نبيل بو منصف، في حديث لـ"الاستقلال"، إن التصرف العدائي من قبل حزب الله تجاه القاضي بيطار ينم عن خوفه من مسار التحقيقات وتوجسه منها، ولا يوجد أي تفسير آخر لهذا التصرف العدواني. 

ويشير بو منصف إلى أن حزب الله تعمد توجيه التهديد بهذه الطريقة العلنية، عبر صحافية، لإرساء انطباع لدى الناس بأنه يمارس الترهيب بحق القاضي علانية، وأنه لا يعبأ بالقضاء والدولة كلها. 

كما يستبعد بو منصف أن يكون حزب الله يبتغي الدفاع عن النخب السياسية الحاكمة، ولا سيما أن الحزب في تهديده العلني قدم للعالم الذريعة كي يوجه إليه الاتهام بالضلوع في انفجار المرفأ.

 لكنه يرى أن التحقيق كان ولا يزال يسير في اتجاه لا يرضيه، وربما كان لدى القاضي بيطار معطيات وأدلة لم يكشف عنها حتى الآن، وهي التي أقلقت حزب الله وجعلته يسلك طريق التهديد.