"جنون اقتصادي".. هكذا يسعى عسكر مصر للاستيلاء على أقدم مستشفى نفسي

"اكتشفت أن المجانين في نعيم" عبارة شهيرة قالها الفنان الكوميدي المصري الراحل إسماعيل ياسين وهو يعود بقدميه إلى مستشفى الأمراض العقلية بحي العباسية جنوب مصر بعدما اكتشف أن "مجتمع العقلاء" في الخارج منافق.
لكن في الوقت الراهن، أصبح لسان حال مرضى المستشفى يقول إن "المجانين ليسوا في نعيم"، بعد سيطرة "بيزنس" الجيش والمخابرات على كل شيء في مصر، بما فيه المكان الذي يقيمون فيه.
وبعدما توسع "بيزنس" الجيش إلى أنشطة تمس حياة المصريين، كشفت "جبهة الدفاع عن مستشفى العباسية للصحة النفسية"، أن "جهة سيادية" لها نية الاستيلاء على قطعة أرض من المستشفى؛ لإقامة "بيزنس" ومحال تجارية عليها.
جهة سيادية
محاولات الاستيلاء على سور المستشفى تارة، وأجزاء من أرضها تارة أخرى بحجة إقامة جراج أو مشاريع وإعلانات يرجع تاريخها إلى عام 2018.
وكانت الجهات التي تقدمت للاستيلاء عليها ذات طابع عسكري وشرطي، منها وزارة الإنتاج الحربي، وجهاز مشروعات الجيش والشرطة.
آخر هذه المحاولات التي كشف عنها في بيان، أحمد حسين، مسؤول "جبهة الدفاع عن مستشفى العباسية"، وعضو مجلس إدارة المستشفى، 30 أغسطس/آب 2021، هي محاولة "جهة سيادية" يقول أطباء إنها الجيش، أخذ جزء من الأرض.
وقال حسين: إن إدارة المستشفى والأمانة العامة للصحة النفسية قامتا أوائل أغسطس/آب 2021 بالترتيب مع إحدى الجهات السيادية -غير المعنية بالصحة- لاستئجار قطعة أرض من المستشفى لمدة 20 عاما بغرض إقامة محال تجارية.
وردا على تلك الخطوة، تقدمت الجبهة ببلاغ للنيابة الإدارية قيد بقضية رقم 277 لسنة 2021.
"البيزنس المجنون" لجيش نظام عبد الفتاح السيسي لم تسلم منه حتى حديقة الحيوانات بالجيزة جنوب مصر، بعدما أمر السيسي في 29 أغسطس/آب 2021 بتطوير الأصول المملوكة لوزارة الزراعة من الحدائق والمتنزهات.
ودعا رئيس النظام المصري للتركيز خصوصا على حديقة الحيوانات وحديقة الأورمان التاريخية، بالشراكة مع خبرات أجنبية في مجال الإدارة والتشغيل، بدعوى التطوير، وتعظيم الاستفادة المالية من تلك الأصول، أي الاستفادة منها في البيزنس.
مصدر حكومي كشف أن التوجيه الرئاسي يعني تحويل حديقتي الحيوان والأورمان التاريخيتين، إلى مكان للمطاعم والمقاهي الحديثة يشرف عليها "جهاز مشروعات الخدمة الوطنية" التابع للجيش، بحسب موقع العربي الجديد 30 أغسطس/آب 2021.
نهب أرض المرضى
قصة السعي لنهب أرض مرضى مستشفى الأمراض النفسية بدأت عام 2010، بمحاولة نقل المستشفى لمدينة "بدر" على بعد 47 كم من القاهرة، وهدم المستشفى الحالي واستغلال موقعه الهام لأغراض استثمارية.
ورفض العاملون بالمستشفى ذلك، باعتبار أن مبنى المستشفى تاريخي ولبعد مدينة بدر عن المرضى؛ ما سيمثل إرهاقا لعشرات آلاف المرضى، وتم تنظيم وقفة احتجاجية حينئذ.
وفي 24 مارس/آذار 2011، تجدد الجدل بشأن نقل المستشفى بعد قرار لمجلس الوزراء بتخصيص قطعة أرض في مدينة بدر بمساحة 50.3 فدانا.
ونص القرار على أنها "مخصصة لإقامة مجمع طبي للصحة النفسية وعلاج الإدمان كبديل لمستشفى العباسية"، ثم نفت الحكومة المصرية لاحقا نية هدم أو نقل المستشفى.
في 19 فبراير/شباط 2018، رصدت صحيفة "المصري اليوم" ما قالت: إنه "خطابات متبادلة" بين وزارة الصحة، وهيئة الاستثمار لشراء جزء من المستشفى وتحويله لـ"جراج".
وفي 2 فبراير/شباط 2021، نشر عضو مجلس إدارة مستشفى العباسية للأمراض النفسية، أحمد حسين، مقالا في موقع "المنصة"، يحذر من أن "سور مستشفى العباسية في طريقه إلى وزارة الإنتاج الحربي".
وأشار إلى بدء مفاوضات مع وزارة الإنتاج الحربي لتأجير مساحة من سور المستشفى لمدة 25 سنة بنظام حق الانتفاع، تقوم خلالها بتسويق هذه المساحات كمحال وتوكيلات تجارية.
ونقل "حسين" عن ثلاثة موظفين كبار أن المساحة التي سيتم استقطاعها من سور المستشفى بطول 300 متر وبعمق 25 مترا داخل حرم المستشفى وبإجمالي 7500 متر مربع (المساحة المطلوب استغلالها في الرسم أدناه باللون الأحمر)، مقابل حصول مستشفى العباسية على نسبة 40 بالمئة من صافي أرباح العائد من تأجير المحال.
وأوضح أن مسألة تأجير السور عرضت في اجتماع بالمستشفى 15 سبتمبر/أيلول 2020، وكان البند الثاني في جدول الأعمال "فتح عيون تجارية بسور المستشفى بشارع امتداد رمسيس"، وأنه رفض ذلك.
كشف أن بند محضر الاجتماع الرسمي كان يشير لطرح مناقصة "يكون أحد المتقدمين لها وزارة الإنتاج الحربي والهيئة العربية للتصنيع ووزارة الداخلية".
وفي 30 أغسطس/آب 2021 عادت جبهة الدفاع عن مستشفى العباسية للصحة النفسية، لتكشف محاولة جديدة من إدارة المستشفى والأمانة العامة للصحة النفسية بوزارة الصحة للاستغناء عن نفس قطعة الأرض ومساحتها 7500 متر.
قالت الجبهة في بيان: إنها تأكدت من قيام إدارتي المستشفى والأمانة بمحاولة ثانية لاستقدام "جهة غير معنية بالصحة"، لاستئجار قطعة الأرض المشار إليها لمدة 20 سنة، بغرض إقامة محلات تجارية.
ومع أن بيان جبهة الدفاع عن مستشفى العباسية لم يحدد هذه "الجهة غير المعنية" التي تقدمت بطلب استئجار الأرض، كشف الطبيب أحمد حسين، لـموقع "مدى مصر" في 31 أغسطس/آب 2021، أنها "إحدى الجهات السيادية".
12 مليون مريض
أكدت "الجبهة" أن هذه الأرض المشار إليها سبق تخصيصها لإنشاء مستشفى لعلاج الاضطرابات النفسية لدى الأطفال، والأمراض النفسية والإدمان لدى المراهقين منذ عام 2017.
وأنه تم إنفاق أكثر من مليون و800 ألف جنيه (الدولار يعادل 15,71 جنيها) من ميزانية الصحة النفسية، على الدراسات والرسومات الهندسية لهذا المشروع الذي يعد الأوحد على مستوى الشرق الأوسط.
وأضافت أن دراسة لوزارة الصحة أكدت إصابة 30 بالمئة من المراهقين بالأعراض النفسية، وأخرى لمنظمة الصحة العالمية أوضحت إصابة 10 بالمئة من الأطفال بالاضطرابات النفسية.
وقالت: إنه في ضوء هذه الإحصاءات واحتياجات المرضى، تأتي تصرفات إدارتي المستشفى وأمانة الصحة النفسية بالتفريط في مشروع قومي لعلاج الأطفال والمراهقين والتنازل عن أرض المشروع لإحدى الجهات لإقامة مشروع تجاري.
واعتبرت أن تنفيذ هذا المشروع التجاري وإهدار مشروع مستشفى أطفال الاضطرابات النفسية "سيترتب عليه إهدار قرابة مليوني جنيه تم صرفها على المشروع".
ووفقا لإحصاءات آخر أبحاث وزارة الصحة، عن الصحة النفسية ومرض الإدمان، المنشورة أواخر 2017 عبر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، يعاني 10 إلى 12 بالمئة من المصريين المرض النفسي بمختلف أشكاله.
وبحساب تعداد السكان الذي يزيد عن 100 مليون، يعني ذلك أنه يوجد من 10 -12 مليون مريض نفسي في مصر.
وتشير الإحصاءات الرسمية أيضا أن 3.9 بالمئة من المصريين يعانون من مرض الإدمان في المرحلة العمرية من 15 سنة حتى 65 سنة، ما يعني وجود قرابة 2.5 مليون مريض إدمان، ولكن من يلجأ للعلاج منهم 10 بالمئة فقط.
ترجمة هذه الأرقام لواقع طبي واحتياجات المستشفيات، تعني بحسب مصادر طبية في وزارة الصحة لـ"الاستقلال" أن مصر تحتاج لقرابة 17 ألف سرير مريض نفسي بالمستشفيات، لتغطية أعداد المرضى النفسيين المحتاجين لخدمات الحجز الداخلي.
الإحصاءات الرسمية تشير إلى أن المتوفر حاليا في 18 مستشفى مصري للصحة النفسية هو 6700 سرير فقط، وأيضا هناك حاجة لتوفير 5800 سرير علاج إدمان، والموجود منها حاليا 1000 سرير فقط.
جشع الجيش
هذا "البيزنس المجنون" للجيش منذ تغوله على الاقتصاد المصري عقب انقلاب عام 2013، قدرته صحيفة "فايننشيال تايمز" 5 يونيو/ حزيران 2021 بـ110 مليار جنيه سنويا، وفق أرقام 2019 فقط، والذي تزايد في العامين الماضيين.
صورت دراسة للصحيفة ما يحدث في مصر على أنه "توسع سرطاني للاقتصاد العسكري" على حساب القطاعين العام والخاص ورفاهية المصريين المدنيين.
ونقلت عن الباحث في مركز كارنيغي، يزيد صايغ، تأكيده أن الكيانات الاقتصادية المرتبطة بالجيش حققت أرباحا عام 2019 فقط وصلت 7 مليارات دولار (قرابة 110 مليارات جنيه).
وأكدت أنه لهذا يدافع الجيش عن هذه المداخيل المالية مهما كان الثمن ويتوسع فيها.
ويجعل الافتقار إلى الشفافية من الصعب تحديد حجم الدور الاقتصادي للجيش، ففي يونيو/حزيران 2021 قال رئيس الوزراء مصطفى مدبولي: إن مصر أنجزت مشروعات بقيمة 4.5 تريليون جنيه إسترليني (287 مليار دولار) في 6 سنوات.
وعقب قائد الهيئة الهندسية للجيش، إيهاب الفار، قائلا: إن هذه الأموال أنفقت على 20 ألف مشروع، مضيفا أن الجيش استثمر 1.1 تريليون في 2800 مشروع.
وبحسب "فايننشيال تايمز" هناك 60 شركة تابعة لكيانات عسكرية مصرية تعمل في 19 من 24 صناعة من معايير تصنيف الصناعة العالمية، وفقا لتقرير البنك الدولي.
كما يسيطر جهاز مشاريع الخدمة الوطنية التابع للجيش على 32 شركة، تم إنشاء ثلثها بعد عام 2015.
وتقول دراسة لمعهد كارنيغي للأبحاث عن "توسيع الاقتصاد العسكري في مصر" نشرت في 26 مارس/ آذار 2020: إنه في عهد السيسي، زادت إمبراطورية الجيش الاقتصادية، وأصبح يعمل الآن في تجارة الألبان والأدوية ووسائل النقل وكل شيء.
وأوضحت أن الجيش أصبح يشرف على نحو 2300 مشروع، يعمل بها 5 ملايين موظف مدني، في مجال الصناعات الثقيلة والمتخصصة، وقطاعات الزراعة، والمزارع السمكية، والمحاجر والمناجم، والمقاولات، والبنية التحتية وغيرها.
وأكد هذه الأرقام المتحدث العسكري العقيد تامر الرفاعي في لقاء مع عمرو أديب في 3 سبتمبر/أيلول 2019.
خبير اقتصادي قال لـ"الاستقلال": إن حديث المتحدث العسكري عن أن الجيش يشرف على 2300 مشروع يعمل فيهم 5 ملايين مدني معناه أن الجيش يتحكم في 20 بالمئة من الاقتصاد المصري.
وأوضح أن جهاز التعبئة والإحصاء أكد أن عدد المشتغلين في مصر 26 مليونا، وإذا كان الجيش يقوم بتشغيل 5 ملايين منهم فمعنى هذا: أن الجيش يتحكم في 20 بالمئة من اقتصاد مصر.
وهذا عكس ما يدعيه السيسي من أن مشاركة الجيش لا تتجاوز 2 بالمئة.
وتشير دراسة كارنيغي السابقة إلى أن إصرار السيسي على طرح مشروعات الجيش في الاكتتاب العام للبورصة، رغم صعوبة ذلك، "يرجع لرغبته في غسل سمعة المؤسسة العسكرية، وتبرئة ساحتها من اتهامات الفساد وإهدار المال العام، والسيطرة غير الخاضعة للمساءلة على اقتصاد الدولة".
قصة السرايا الصفراء
اشتهرت مستشفى العباسية للأمراض النفسية بعدة أسماء منها "السرايا الصفراء" لأنه تم طلاؤها باللون الأصفر سابقا، أو مستشفى "المورسيتان" وهي تحريف لكلمة "بيمارستان" التي كانت تعني بالفارسية "محل المريض".
وكان مبنى المستشفى قصرا لأحد الأمراء، واندلع فيه حريق كبير التهم القصر، ولم ينج من ذلك الحريق سوى مبنى مكون من طابقين فتم طلاؤه باللون الأصفر، وتحول بعد ذلك إلى أول مستشفى عقلي بالقاهرة عام 1883، أطلق عليه السرايا الصفراء.
في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، أخذت المستشفيات العقلية شكلا نظاميا عندما تولى إدارتها الطبيب الإنجليزي الدكتور وارنج الذي وضع أسسا لقبول ودخول وخروج المرضى من وإلى المستشفى.
وعلى مر التاريخ اقتطعت أجزاء كثيرة من مساحة المستشفى، منها حديقة العروبة التي أخذتها محافظة القاهرة، وأرض المعارض، ووزارة الاستثمار والمعهد القومي للتدريب بوزارة الصحة، وتبلغ مساحتها الحالية 68 فدانا.
وتخدم المستشفى أكثر من 100 ألف مريض سنويا و1300 مريض داخلي في مختلف خدمات الطب النفسي.
المصادر
- "مستشفى العباسية".. أرض يطمع فيها الجميع
- جهة سيادية تسعى لاستئجار جزء من أرض مستشفى العباسية لإقامة مشروع تجاري
- محال وتوكيلات تجارية: سور "مستشفى العباسية" في طريقه إلى وزارة الإنتاج الحربي
- A new capital in the Egyptian desert: Sisi’s military model for the economy
- توسيع الاقتصاد العسكري في مصر
- مصر: تحويل حديقتي الحيوان والأورمان إلى مطاعم ومقاه