سياقات جيو-إستراتيجية للتفاهمات الليبية التركية

نزار كريكش  | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

في قصر "دولما باهشه" في إسطنبول، الساعة 8:00 مساء، كان الصحفيون يسترقون السمع من محيط القصر، ما الذي سيسفر عنه اجتماع الوفد الليبي المكون من رئيس المجلس الرئاسي الليبي فايز السراج، ووزير خارجيته وداخليته ووفد عسكري ليبي، لمقابلة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وكبار المسؤولين الأتراك. لم تكن هواتف المسؤولين الليبين متاحة من معارفهم، وكانت الأنباء تتوالى عن توقيع مذكرة تفاهم طال انتظارها بين ليبيا وتركيا.

في ساعات متأخرة من الليل تأكد الخبر بدون تصريحات واضحة عن طبيعة الاتفاق؛ كان الليبيون ينتظرون مذكرة التفاهم من الجانب الأمني والعالم ينتظر الشطر المتعلق بشرق المتوسط، كانوا ينتظرون من يقف معهم أمام الهجمة الشرسة من الإمارات ومصر وروسيا، لكن العالم لم يبال بذلك بل كان الغاز شرق المتوسط هو شاغل الإعلام الأول.

لكن يبدو الاتفاق الأمني الذي لم ينشر إلى الآن والاتفاق البحري الذي نشرت نسخته مترابطان، ووصف الاتفاق بالتاريخي من قبل المسؤولين الأتراك لم يكن مناسبة لحشو الكلمات كما اعتدنا من خطب الزعماء العرب، بل لأن له سياق تاريخي ثوري قد فتحته بالفعل تلك الاتفاقيه، سياق تاريخي في جوانبه الدولية والإقليمية وديناميات الصراعات القائم بين الليبيين. دعنا نرسم ذلك السياق.

النظام الدولي الآن على عتبة تغيرات كبرى في طبيعة ذلك النظام، ولعل هذه التغيرات التي تسمى في بعض الأدبيات بالمسارات الكبرى، المصطلح الذي سكه أحد أهم علماء المستقبل ”جون نسبت“ في كتاب بهذا العنوان قبل 25 سنة، هذه المسارات هي الطاقة والبيئة والديمغرافيا.

في مجال الطاقة أحدث اكتشاف الغاز المسال تغيرات هائلة قد غيرت كثير من المسلمات التي عرفتها السياسة العالمية في القرن العشرين؛ الغاز المسال بإمكانه أن يقوم بما قام به النفط، وعندما يوضع الغاز في درجات منخفضة فإنه يسيل وبالتالي يصبح بالإمكان نقله تماما كالنفط؛ وهذا جعل بعض الدول التي استطاعت الدخول في هذا لمجال قوة إستراتيجية بينما تسعى الدول النفطية القديمة للحفاظ على مكانتها؛ لكن في المحصلة بدأت دول مثل قطر وتملك حوالي 25 مليار متر مكعب من الغاز، ببنية تحتية هي الأكبر صارت لها قوتها الإستراتيجية؛ وبالطبع هذا ماحدث في الولايات المتحدة الأمريكية في ما يعرف بثورة شيل.

شرق المتوسط في سياقه الدولي لا يخرج عن هذا السياق؛ وهذا ما بينه تصريح ويز الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في مارس الفائت حين قال عن اكتشاف الغاز في شرق المتوسط- وعزم دول مصر ودولة الاحتلال إسرائيل وقبرص واليونان عزمها على تشكيل منتدى خاص بغاز شرق المتوسط، ومشروع  إسرئيل بنقل الغاز لأوروبا عبر قبرص إلى اليونان ومنه لأوروبا-أنه جاءت في وقت مذهل.

المقصود طبعا هو أن مد الغاز لأوروبا عبر شرق المتوسط يمنع الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي؛ روسيا تحاول مع مصر من أجل استخدام حقل ُزهْر الموجود في حدود مصر البحرية؛ هذا المشروع هو الذي جاء الاتفاق الليبي التركي ليقول له إن المياه التي ستستخدمونها تمر بحدود ليبية وتركية ويجب أن تُحتَرم سيادة هذه الدول.

الغاز في شرق المتوسط لايشكل سوى 1٪ من احتياطي الغاز في العالم، لكن يبدو أن للأمر بعد إستراتيجي حيث تسعى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية من منع توسع روسيا في المنطقة؛ روسيا التي بدأت في سوريا، وبدأت حربها الهجين من خلال استخدام كافة الأدوات الإعلامية والسياسية والعسكرية للوجود في شمال إفريقيا عبر ليبيا.

يجب أن تقف عند هذا الحد وتلبية احتياجات أوروبا من الغاز قد يكون ضربة قوية لها تمنع عن حالة تاريخية عرفها تاريخ الطاقة منذ الحرب العالمية الثانية حين انحازت دول مثل أذربيجان ورومانيا للاتحاد السوفياتي. لذلك لم تمانع أمريكا من الاتفاق الليبي التركي لأنه سيخدم مصلحتها بمنع وجود روسي في ليبيا عبر قوة ثالثة يمكن أن تكون عمودا مساندا لحالة عدم التوازن في شمال إفريقيا. 

هذا السياق يؤثر كذلك في التوازنات الإقليمية؛ فالدول الإقليمية في سوريا استطاعت أن تحد من مزيد من التدهور في الحالة السورية؛ لذا فوجود تركيا بالتعاون مع الجزائر على سبيل المثال قد يحدث حالة مشابهة في ليبيا؛ ومن هنا تصبح تركيا مستفيدة من هذا الوضع الذي يجعلها قوة رئيسية في الشرق الأوسط خاصة مع وجود حالة من الاستقلالية في السياسة الخارجية التركية؛ فالأخيرة بدأت في تصدير الغاز لأوروبا عبر أذربيجان مؤخرا وهذا سيخدم مصلحة الدول الأوروبية.

كما أن صحوة الناتو التي شهدها اجتماع لندن الأخير للحلف سيعطي تركيا تلك القوة حين تبرز في المشهد الليبي عسكريا عبر الاتفاق الأمني، الذي سيؤدي حتما لمزيد من الدعم العسكري المباشر لقوات حكومة الوفاق، واتفاق جيو-إستراتيجي سيجعل من الشراكة بين الدولتين شراكة إستراتيجية، جعلت جورج فريدمان الإستراتيجي الأمريكي يتوقع أن تسعى تركيا لمساعدة حكومة الوفاق لبسط قواتها حتى في الشرق الليبي.

هذا الوجود التركي سيُقَابل بمحاولات من دول كالإمارات والسعودية ومصر لمزيد من الدعم لقوات الجنرال خليفه حفتر، لكنها ستواجه بالمصالح الأمريكية التي يبدو أنها واضحة في ليبيا بعد التدخل الروسي، لذا سيكون عليها أن تكون أكثر حذرا في التعامل مع حفتر الذي حذر بوضوح من خلال وفد أمريكي زاره في الأردن قبل أسابيع من الوجود الروسي في ليبيا، كما أن طائرة تابعة للولايات المتحدة الأمريكية أسقطتها دفاعات روسيه في ليبيا حسب تصريح للبنتاجون.

هنا يحتاج الجميع لقراءة المشهد بعمق قبل أن يتخذ خطوات تجاه المسألة اللليبية، وهذا ما تفتقده دول كالإمارات ومصر، التي صدق برنارد لويس عندما قال في كتابه "نهاية الشرق الأوسط الحديث": إن هذه الدول وجدت نفسها كقوه إقليمية وليس لها بنية مؤسساتية ولا خبرة للتدخل في أزمات مركبة مثل ماتعانيه المنطقة من أزمات وقد رأينا المآلات الكارثية للتدخل السعودي في اليمن، وكيف خرجت هذه الدول تماما من سوريا.

يبقى عندنا السياق المحلي في الداخل الليبي، فالأطراف المعادية للشرعية في الشرق الليبي سرعان ما انساقت وراء جوقة الرفض لمذكرة التفاهم التركية الليبية دون أن يكلفوا أنفسهم حتى عناء انتظار الكشف عن طبيعة الاتفاق، ورحبوا كذلك بطرد السفير الليبي من اليونان، وقالوا أن الحق لليونان حتى وإن لم يستوعبوا بعد ما الذي حدث في شرق المتوسط، ربما كان على سنّة سامح شكري وزير الخارجي المصري الذي رفض الاتفاقية ثم خرج ليقول بعد أن استوعب الأمر أن الاتفاق لا يضر بمصلحة مصر.

هذه المناكفات ليست مقصودة لطبيعة التفاهم البحري بل الأخطر هو الاتفاق الأمني، فإن وجود تركيا ضمن اتفاقية أمنية يؤكد دعمها لدفع العدوان عن طرابلس، وتركيا بقوتها التقنية قد تسد فجوة إستراتيجية عن حكومة الوفاق من خلال منظومات دفاعية تواجه بها الطائرات المسيرة ومنظومات التشويش الفرنسية التي تساعد بها خليفة حفتر في قصف طرابلس.

هذا التوازن جاء في سياق -كما ذكرنا- دولي يبحث عن وضع حد لروسيا، وعن دور إقليمي في تركيا يجعل الدول الغربية تتغاضى عن بعض سلوكياتها من أجل استمرارها في دورها الفاعل في سوريا، وهذا ما سيجعل للروس حساباتهم الخاصة، وحدها الدول العربية أعني مصر والإمارات سارت وتستمر في سلوكها التائه بلا دليل ولارؤية، والسبب بسيط أنها دول وظيفية، وأن مقاربة البقاء في الحكم هي السائدة.

فلا هي أرضت أمريكا، ولا هي تحصلت على مصالحها في ليبيا، بل إنها وبغباء تحسد عليه ستترك الأمر لروسيا ثم ترحل تدعي السلام وتنادي بالسعادة فلا هي أوصلت عملاءها للحكم، ولا حققت مصالحها ببسط قوتها الإقليمية؛ إنها باختصار دول بلا ذهنية إستراتجية، منزوعة القيم، تقودها شبكة مصالح ليس لها رؤية، وليس عليك سوى أن تستذكر بدايات الأزمة السورية وكيف خرجت هذه الدول منها تماما حتى تستوعب ما الذي يحدث في ليبيا؟ ولماذا كان الاتفاق التركي الليبي اتفاقا تاريخيا له مابعده؟ {ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون}.