بأربع طرق.. كيف التفّت سفن النظام السوري التجارية على العقوبات الدولية؟

لعبت سفن النظام السوري التجارية الخاضعة للعقوبات الدولية دورا بارزا في إبقاء شريان اقتصادي نشط مساند له، بعد فرض عقوبات صارمة عليه لقمعه ثورة السوريين التي اندلعت في مارس/آذار 2011.
وكشفت الأيام أن النظام السوري بمساندة من حليفتيه الأساسيتين إيران ورسيا، استطاع أن يلتف على العقوبات الدولية ويبقى حركة السفن التابعة له فعالة، وذلك من خلال استغلال الثغرات في قوانين التجارة البحرية.
سفن الأسد
وجاء في تقرير نشرته مجلة "ذا إيكونوميست" البريطانية، أن النظام السوري استخدم سجل سفن إسواتيني الدولة الواقعة في إفريقيا الجنوبية بهدف التهرب من قوانين البحار نتيجة العقوبات المفروضة عليها في الإبحار.
وذكر التقرير الذي نشر في 22 فبراير/شباط 2024 أن سجل إسواتيني للسفن يشتمل بصورة مؤقتة على 13 سفينة شحن وذلك حتى نهاية يناير/كانون الثاني 2024.
وقد فرضت أميركا عقوبات على ثلاث سفن منها وذلك لأنها تدعم النظام السوري برئاسة بشار الأسد وتورطت في عمليات تصدير الحبوب من المناطق التي تحتلها روسيا في أوكرانيا.
وإسواتيني دولة مغلقة لا تطل على أي بحر، وفيها موانئ جافة مربوطة بخط سكة الحديد التي تصل إلى مابوتو التي تقع على ساحل موزامبيق على المحيط الهندي.
وقال ناطق رسمي باسم سجل إسواتيني إن السفن الثلاث كلها قد سجلت في ديسمبر/كانون الأول 2023، ثم أخرجت من السجل في 18 يناير 2024، وذلك لعدم التزامها بتوجيهات الإدارة، على حد وصفه.
لكن مع بداية فبراير 2024 بقيت سفينتان منهما وهما San Damian وSan Severus ترفعان علم إسواتيني.
وفي الثامن من الشهر المذكور شوهدت سفينة San Damian وهي تعبر مضيق البوسفور في تركيا رافعة علم إسواتيني.
وعلق على ذلك الناطق الرسمي بالقول: "بمجرد إزالة السفينة أو رفضها، لا نسمح لها بأن ترفع علمنا، وإن بقيت تستخدم العلم فهذا الأمر مخالف للقانون وغير مشروع".
وهذا الرصد الأميركي لتحركات سفن النظام السوري ما هو إلا حلقة ضمن سلسلة طويلة من العمليات الالتفافية على مدار ثماني سنوات لكسر العقوبات الغربية.
إذ تخضع الهيئة العامة السورية للنقل البحري، والسفن التي تمتلكها لعقوبات من قبل الولايات المتحدة منذ عام 2015 لدورها في دعم الآلة العسكرية في قمع الشعب السوري.
وفرضت الولايات المتحدة والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي عقوبات أحادية الجانب على الحكومة السورية منذ بداية الثورة عام 2011.
وقد قاد ذلك النظام السوري إلى اللجوء إلى السفن التابعة لهيئات تصنيف أجنبية من أجل بقاء سفنه التجارية تعمل في قطاع النقل البحري العالمي وبعيدة عن مقص الرقيب.
وتصنيف السفن يعد من أهم الإجراءات التي تقي أي سفينة من الوقوع في المشاكل والصعوبات التي تعيق عملها.
إذ تعاني السفينة غير المسجلة مع شركات التأمين التي ترفض تصنيفها لأن التسجيل يعد دليلا على صلاحية السفينة.
كما أن السفن غير المسجلة تواجه صعوبة كبيرة في عمليات البيع والشراء والاستئجار.
ناهيك عن رفض التجار شحن بضائعهم فيها لأنها تكون مجهولة المصير لعدم وجود ما يثبت صلاحيتها.
كما أن مالك الباخرة لن يستطيع معرفة فيما إذا كانت قد أُجريت عليها الصيانة المفروضة بشكل صحيح وعلى أكمل وجه أم لا، في ظل عدم وجود ما يثبت ذلك.
ولضمان النظام السوري ورجال الأعمال المرتبطين به تنقل سفنهم بين الموانئ الدولية، جرى اللجوء إلى تسجيل السفن على علم دولة أخرى لتجاوز التعقيدات المتصلة بالمعاملة الجمركية والبيان الجمركي والرسوم والشهادات للسفن المراد تسجيلها.
خاصة أن حركتها البحرية تسهم في إنعاش الاقتصاد من خلال الإمكانيات المادية التي يوردها والقطع الأجنبية.
وسجلات السفن لدى دول أخرى تغطي نفسها بواجهة زائفة من الرقابة القانونية، وفق مجلة لويد ليست إنتيليجينس التجارية.
ولذلك جمعت أسماء تلك الدول ضمن قائمة سوداء وضعتها منظمة Paris MoU التي تسعى للقضاء على عمليات تشغيل السفن دون المستوى المطلوب كما تفعل دول مثل الكاميرون وفانواتو وجزر القمر التي تتذيل هذه القائمة.
وقد أُنشئ الموقع الإلكتروني لسجل السفن في إسواتيني في أكتوبر/تشرين الأول 2023، ويبدو شبيها إلى حد كبير بمواقع الدول التي تتمتع بتاريخ عريق في الملاحة البحرية.
إذ تظهر فيه صورة لسفن سياحية عملاقة اصطفت بجانب بعضها بعضا مع وعود بتقديم خدمات الإبحار بأعلى جودة مع تسجيل السفن.
وقد أثار ما يزعمه الموقع من قدرة هذه الدولة على التعامل مع الحاويات وناقلات البضائع والصهاريج الشكوك التي اتضح لاحقا أنها تؤمن سجلات لسفن تجارية تتبع لدول أخرى.
وبموجب القانون البحري، يتعين على السفن التي تجوب البحار أن ترفع علم دولة لديها سجل للسفن.
ولهذا فإن السفن عديمة الجنسية غير محمية بموجب القانون الدولي.
التحايل البحري
ومن هنا وجد النظام السوري ثغرة كبيرة للحصول على خدمات مثل هذه الدول الصغيرة التي تقدم علمها لمالكي السفن المعاقبة دوليا.
كما استفاد النظام من عدم إلزامية رفع السفينة التجارية لعلم الدولة المالكة لها، بعدما أصبحت ليبيريا وبنما وجزر مارشال الآن مسؤولة بالجملة عن نصف أساطيل العالم تقريبا.
ولهذا يطلق على البلدان التي تتميز بعلاقات واسعة مع الملاحة البحرية اسم "أعلام بحسب الطلب" وذلك لأنها تفرض رسوما قليلة أو لا رسوم إطلاقا وتوفر فرصة للتهرب من قوانين العمل المرهقة وغيرها من الإجراءات التنظيمية.
أما سجلاتها التي تديرها غالبا شركات خاصة أقيمت في دول أخرى، فتعد مصدرا إضافيا مربحا للدول الصغيرة والفقيرة.
ورغم طول الساحل السوري على البحر الأبيض المتوسط البالغ 180 كم، إلا أنه لا يوجد عليه سوى ثلاثة موانئ فعلية هي اللاذقية، طرطوس، بانياس.
لكن ميناء طرطوس منحه النظام السوري لروسيا عام 2017 بعقد لمدة 49 عاما تمدد تلقائيا لربع قرن.
أما ميناء اللاذقية فقد تواترت بيانات حول نقل النظام السوري إدارته إلى إيران بعد زيارة مفاجئة أجراها بشار الأسد إلى طهران نهاية مايو/أيار 2019.
وبحسب موقع "بزنس سورية" فإن عدد سفن الأسطول التجاري المسجلة تحت علم نظام الأسد ثمانية، منها ثلاثة مملوكة لـ"المؤسسة العامة للنقل البحري" والأخرى قطاع خاص وهي بأحجام وأنواع مختلفة.
وتمتلك المؤسسة العامة السورية للنقل البحري في وزارة النقل التابعة للنظام، ثلاث سفن هي (سوريا، لاوديسا، فينيقيا)، وخط سيرها ضمن البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود.
بينما السفن التي تتبع للقطاع الخاص ولرجال الأعمال غير معروفة العدد وليست مشمولة في قائمة العقوبات الدولية، ولهذا يعتمد عليها النظام بشكل كبير.
وتركز سفن النظام السوري على نقل البضائع التي تشمل مواد غذائية وقمحا والنفط الخام.
وعلى مدى السنوات الماضية استخدم نظام الأسد شركات وهمية لتعقيد هيكل الملكية، مما يجعل من الصعب على القوى الأجنبية فرض العقوبات بشكل فعال عليها.
لدرجة أن وزير الاقتصاد في النظام السوري محمد سامر الخليل، لم يتورع عن القول في أكتوبر/تشرين الأول 2021، إن "التهرب من العقوبات أصبح حرفة سورية".
ودعا الخليل المستثمرين الأجانب المترددين في الدخول إلى السوق السورية بسبب العقوبات "ألا يظهروا بأسمائهم الحقيقية في السوق المحلية".
وبلغت قيمة الأضرار في النقل البحري التابع لنظام الأسد، 485 مليون دولار مع انخفاض إيراداته خلال سنوات الحرب من 71.6 إلى 14 مليون دولار، وفق ما قال وزير النقل علي حمود في لقاء مع وكالة سبوتنيك الروسية في 24 يوليو/تموز 2017.
كما تراجع عدد السفن التي تستقبلها المرافئ السورية من 4614 سفينة سنويا قبل عام 2011 إلى 1554.
وسبق أن أفادت صحيفة "الثورة" التابعة لنظام الأسد في أغسطس/آب 2018، بخروج عدد كبير من السفن الأجنبية المسجلة تحت "العلم السوري".
وأضافت: "بعد وصول عدد السفن المسجّلة تحت العلم السوري إلى أكثر من 350، لم يبق منها اليوم سوى عدد قليل لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة".
وفي السنوات الأخيرة استفاد النظام من استخدام ما يسمى بـ "أعلام الملاءمة" لضمان وصول ناقلات النفط الإيرانية المملوكة للدولة، وناقلات القمح الروسي.
ويرفع عدد كبير من السفن التجارية في البحار والمحيطات الدولية أعلام دول ذات سيادة، خلافا لدولة مالكها فيما يعرف بأعلام الملاءمة.
ويتم رفع العلم من خلال تسجيل السفينة التجارية تحت أعلام الدول التي تتخصص في توفير القوى العاملة والخدمات بشروط مناسبة، ولتقليل تكاليف التشغيل أو تجنب القوانين السارية في بلد المالك.
وتخضع السفينة التي تشغل بهذه الصفة لقوانين دولة العلم، حيث تستخدم تلك القوانين إذا تورطت السفينة في قضية تقع تحت طائلة القانون البحري.
وكانت استبعدت جزر مارشال الواقعة في المحيط الهادي الغربي السفن الداعمة للنظام السوري من سجلاتها، بحسب ما قالت وزارة الخارجية الأميركية في فبراير/شباط 2019.
دعم الحلفاء
وحددت وزارة الخزانة الأميركية أربع طرق كان النظام يتحايل فيها على العقوبات، لاستيراد المحروقات، أولها تزوير مستندات الشحن والسفن.
إذ تلجأ الشركات التي تورد المحروقات للنظام إلى تزوير سندات الشحن وشهادات المنشأ والفواتير وقوائم التعبئة وإثبات التأمين، التي تصاحب عادة معاملة الشحن، بهدف حجب وجهة الشحنات البترولية.
وكذلك النقل من سفينة إلى أخرى (STS) وهي وسيلة لنقل البضائع بين السفن في أثناء وجودها في البحر بدلًا من الميناء، وهو ما يمكن أن يخفي منشأ البضائع أو وجهتها.
إضافة إلى تعمد السفن التي تنقل المحروقات للنظام إلى تعطيل نظام التعرف التلقائي (AIS) الذي يحدد هويتها وموقعها، وفق الخزانة الأميركية.
وأيضا، تغيير أسماء السفن ومالكيها في محاولة للتشويش على أنشطتها غير المشروعة.
لهذا السبب من الضروري البحث عن أي سفينة ليس فقط بالاسم، ولكن أيضًا عن طريق رقم المنظمة البحرية الدولية (IMO).
وتعد إيران التي تدخلت عسكريا بسوريا عام 2012 لدعم قوات الأسد في وجه فصائل المعارضة، أكثر الدول التي يعتمد عليها النظام في توريد البضائع عبر البحر.
فقد سبق أن أعلن رئيس الغرفة التجارية الإيرانية السورية المشتركة، كيوان كاشفي، في أبريل/نيسان 2021 عن إجراء التنسيق اللازم لإنشاء سفينة شحن شهرية جديدة ستسافر من إيران إلى سوريا.
وتسافر سفن الشحن الإيرانية بين ميناءي بندر عباس الجنوبي واللاذقية السوري.
وفي عام 2012 نشرت صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية تحقيقا قالت فيه إن إيران تساعد النظام السوري على تحدي الحظر المفروض على نفطه، وتسخر ناقلة مملوكة لحكومتها تستخدم شركات متعددة لنقل النفط الخام من سوريا إلى أراضيها.
وذكرت الصحيفة استنادا إلى وثائق حصلت عليها أن ناقلة النفط الإيرانية، التي تديرها خطوط الشحن الدولية للجمهورية الإسلامية، أبحرت من سوريا إلى خليج عمان ومن ثم إلى إيران، وذلك باستخدام أعلام مختلفة وتغيير مالكيها.
وفي منتصف مارس 2021 تحدثت وسائل إعلام أميركية عن استهداف إسرائيل ما لا يقل عن 12 سفينة إيرانية متجهة إلى سوريا، وتحمل في الغالب نفطا إيرانيا دعما لحكومة النظام.
أما روسيا التي تدخلت عسكريا في عام 2015 لإنقاذ نظام الأسد من السقوط، فقد لعبت سفنها دورا كبيرا في توريد القمح ومنتجات أخرى له.
حتى أن السفن المملوكة للنظام لعبت دورا خلال الغزو الروسي لأوكرانيا في تهريب الحبوب الأوكرانية المسروقة من قبل الجيش الروسي.
وكان قد طلب مسؤولون أوكرانيون في 24 أغسطس 2022 من لبنان منع سفينة شحن مملوكة للدولة السورية تحمل حبوبا أوكرانية مسروقة من الرسو في ميناء طرابلس اللبناني، وفقا للسفارة الأوكرانية ومذكرة دبلوماسية.
وقالت البعثة الأوكرانية في تصريحات لوكالة رويترز البريطانية إن السفينة فينيكيا كانت تنقل ستة آلاف طن متري من الذرة، عدتها مسروقة، من ميناء سيفاستوبول على البحر الأسود.
وفي عام 2022 دقت أوكرانيا ناقوس الخطر عندما رست سفينة "لاودكية" التي ترفع العلم السوري في بيروت حاملة ما قالت كييف إنه 10 آلاف طن متري من الدقيق والشعير المسروقين.
واستولى لبنان على السفينة لكنه سمح لها في النهاية بالمغادرة، وأبحرت إلى موانئ النظام السوري.
وفي أبريل 2021، أبحرت ثلاث سفن روسية ذهابا وإيابا بين سواحل البحر الأسود في روسيا ومدينتي طرطوس وبانياس السوريتين، وذكرت حينها وسائل إعلام أن بعضها محمل بالكربون والقمح.
وتعود ملكية كل من فينيكيا ولاودكية إلى الهيئة العامة السورية للنقل البحري.
وقدرت أوكرانيا أن 500 ألف طن متري مما تسميه الحبوب الأوكرانية المنهوبة وصلت إلى سوريا عام 2022 منذ الغزو الروسي، وجرى شحنها من عدة موانئ.