"عصا يحيى".. لماذا تختلف أسطورة "السنوار" عن عمر المختار وعز الدين القسام؟
قصة "يحيى السنوار" ستتناقلها الأجيال بشكل مختلف عن من سبقوه
قبل عقدين من الزمن، كتب رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية حماس يحيى السنوار، وهو في سجون الاحتلال الإسرائيلي، روايته "الشوك والقرنفل"، التي سعى فيها لتجسيد نضال الشعب الفلسطيني، من خلال شخصية صاغها من وحي خياله.
لم يكن يعلم القائد الفلسطيني، أنه من خلال حبكته الدرامية عن "نهاية البطل" بأن السيناريو سيتطابق إلى حد كبير مع تفاصيل مشهده الأخير في الحياة.
ففي الرواية، كتب السنوار: "الآن جاء الموعد يا أماه، فلقد رأيت نفسي أقتحم عليهم مواقعهم، أقتلهم كالنعاج ثم أستشهد، ورأيتني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم، وهو يهتف بي مرحى بك، مرحى بك".
في الواقع كان السنوار هو مهندس عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حيث اقتحمت كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس مواقع العدو، وأسقطت منه عددا كبيرا من القتلى، وألحقت واحدة من أقسى الهزائم العسكرية والاستخباراتية في تاريخ المحتل.
وفي 17 أكتوبر 2024، كان السنوار يدون لحظاته الأخيرة، بعد جولات من الحرب والنزال، وهو جالس على كرسي ملثم بالكوفية، بعدما أنهكه القتال والإصابات، ومع ذلك حمل عصا وألقاها على طائرة مسيرة إسرائيلية من نوع "كواد كابتر" القاتلة، التي أرسلت لتصويره.
وهو ما أحدث فارقا هائلا في قصة "يحيى السنوار" التي ستخلد وتتناقلها الأجيال بشكل مختلف عمن سبقوه، مثل رمز المقاومة الليبية ضد الاستعمار الإيطالي عمر المختار، ومفجر الثورة الفلسطينية الكبرى (1936- 1939) عز الدين القسام وغيرهم.
مشهد ملحمي
فهذا المشهد الملحمي الذي صوره عدوه بنفسه، حول السنوار عند أنصار القضية الفلسطينية في جميع أنحاء العالم، من "بطل" في مصفوفة عريضة من الأبطال المقاومين الذين دافعوا عن بلادهم إلى "أسطورة" حقيقية.
والفارق أن قصة السنوار، ولحظته الأخيرة انتقلت من سردية الحكاية والقصة غير المرئية بتصوراتها، إلي الواقع الحقيقي صوتا وصورة.
وأصبحت على خلفيتها الاجتماعية والسياسية، تجسد قصة "الرجل" الذي بدأ في بيت من بيوت غزة، فأصبح قائدا للمقاومة، وأصاب الاحتلال بضربة قوية، ثم رحل وهو يحمل بندقيته ويقاتل.
وقد كشف المشهد أيضا أن السنوار كان قائدا يمارس عمله ميدانيا لا من خلال الغرف المغلقة، ويشتبك في الخطوط الأمامية كسائر جنوده، ويتفقد قطاع غزة والمخيمات.
ولم يكن مختبئا في عمق الأنفاق، ولم يتخذ الأسرى دروعا، ولم يمتلك ترسانة أسلحة كبيرة ومتعددة، وهو ما فضح الرواية الإسرائيلية.
أما قيمة اللحظة الأخيرة في حياة السنوار، فتتمثل في أنها ستكون عاملا ملهما للأطفال الذين قد يصبحون فيما بعد شخصيات فاعلة ورئيسة في مشهد المقاومة والتحرير، وفق ما يقول الناشط الفلسطيني “جمال حساسنة”.
وأضاف لـ"الاستقلال": تربينا ونشأنا على قصص مؤسس حماس الشيخ أحمد ياسين وقيادات الحركة والقسام عبد العزيز الرنتيسي ويحيى عياش ورائد العطار وغيرهم".
وأردف: "كنا نسمع عن أبطال مثل عمر المختار و(قائد الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي) وعبد القادر الجزائري و(قائد ثورة الريف المغربي ضدّ الاستعمارين الإسباني والفرنسي) محمد بن عبد الكريم الخطابي وغيرهم، لكننا كما قلت سمعنا ولم نر".
وأتبع: "لذلك فقصة السنوار ستكون مختلفة، ولو يعلم العدو حجم الأثر الذي ستتركه في نفوس العالم والفلسطينيين، لمحاها ولما أقدم على بثها، لكن الغباء جند من جنود الله، وسيدفعون ثمن ما فعلوه عاجلا أو آجلا".
عز الدين القسام
وبالحديث عن النهايات الملحمية التي جرت مقارنة نهاية "يحيى السنوار" بها، كدلالة على تخليد التاريخ لذكراه، كان أقربها في التفاصيل هي نهاية الشيخ عز الدين القسام، وهو الذي أطلقت حركة حماس اسمه على كتائبها العسكرية.
فالقسام كان من أوائل الذين دعوا إلى الثورة والجهاد ضد الانتداب البريطاني في فلسطين، وقاوم استيطان اليهود للأراضي الفلسطينية، وطالب بوقف هجرتهم إلى فلسطين في المراحل الأولى من الاحتلال.
وبعد أن كون نواة المقاومة، ألقى آخر خطاب له عام 1935، في جامع الاستقلال بحيفا وقال فيه: "أيها الناس، لقد علمتكم أمور دينكم حتى صار كل واحد منكم عالما بها، وعلمتكم أمور وطنكم حتى وجب عليكم الجهاد، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، فإلى الجهاد أيها المسلمون".
ويقول المؤرخ الفلسطيني محمد حسن شراب عن ذلك اليوم، في كتابه "عز الدين القسام.. شيخ المجاهدين في فلسطين": ودع أهله وإخوانه، وحمل بندقيته، وذهب وصحبه إلى الجبال، وقرروا بدء الجهاد حتى الاستشهاد.
وبالفعل في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 1935 داهمت قوات الاحتلال البريطاني مكان عز الدين القسام، فهاجمته بمئات الجنود.
بينما كان مع بضعة نفر من أنصاره لا يتجاوزون 10، وعندما طلب منهم الاستسلام، رفض الشيخ وقاتلهم.
وبعد معركة استمرت من الصباح حتى العصر استشهد الشيخ برصاصة في جبينه ومعه 3 من مجموعته.
بعدها بيومين، خرج الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني في جنازة كبيرة لتشييع عز الدين القسام ورفاقه.
وأطلقت الدعوات من العامة والخاصة إلى متابعة السير على طريقهم، واستمرت حتى اندلعت الثورة الفلسطينية الكبرى في أبريل/ نيسان 1936، واستمرت 4 سنوات، وتكبد الاحتلال فيها خسائر فادحة.
وقدر للقسام أن تستمر دعوته وحركته بعد وفاته بعشرات السنوات، وأن تكون الكتائب التي كبدت الاحتلال الإسرائيلي أقسى هزائمه مسماة على اسمه، وأن يكون "يحيى السنوار" أحد أكبر أعداء الكيان، هو نواة استلهمت كفاحها من سيرته.
عمر المختار
كذلك فإن أيقونة المشهد الأخير للسنوار، ربطها صحفيون وشخصيات من رواد مواقع التواصل الاجتماعي حول العالم، بشخصية المجاهد الليبي إبان الاحتلال الإيطالي عمر المختار.
فـ"المختار" الذي يلقبه الشعب الليبي بـ"شيخ المجاهدين" أو "أسد الصحراء"، خاض مقاومة ضارية ضد الاحتلال الإيطالي لبلاده، بداية من عام 1911.
فقد بدأ المختار نواة حراكه من قرية "زاوية القصور" حيث نظم حركة الجهاد الليبي ضد الغزاة الإيطاليين، فشارك في معركة السلاوي أواخر 1911.
ثم تولى قيادة "المجلس الأعلى" للعمليات الجهادية الذي أدار أعظم المعارك في التاريخ الليبي ضد المحتل الإيطالي.
خاصة بعد انسحاب الحامية التركية من ليبيا عام 1912 بموجب معاهدة لوزان، قبيل دخول الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
واستمر المختار بقيادة المقاومة ضد إيطاليا حتى عام 1931، عندما كان عائدا مع مجموعة قليلة من رفاقه من إحدى جولات تفقد مراكز المقاومة.
فقابلته وحدات عسكرية إيطالية في منطقة "وادي الجريب"، ورفضوا الاستسلام مقررين أن يخوضوا معركة غير متكافئة، أصيب فيها المختار وقتل فرسه، ووقع في الأسر.
ثم قدم الاحتلال المختار لمحاكمة عسكرية صورية في مدينة "بنغازي" حكمت عليه بالإعدام شنقا.
وفي 16 سبتمبر/ أيلول 1931، جرى تنفيذ حكم الإعدام في "عمر المختار" أمام آلاف الليبيين.
وسجل التاريخ كلماته الأخيرة قبل إعدامه عندما قال للضابط الإيطالي الذي كان يحقق معه: "نحن لا نستسلم.. ننتصر أو نموت، هذه ليست النهاية، بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه، أما أنا فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي".
وهو ما خلده التاريخ من خلال فيلم "عمر المختار"، عندما برزت عبقرية المخرج الراحل مصطفى العقاد، وهو يقدم المشهد الأخير لشيخ الجهاد الليبي.
فحينما أعدم الشيخ سقطت نظارته، ثم صعد طفل صغير إلى منصة الإعدام والتقطها، وهنا كانت رسالة المخرج السوري العقاد، بأن المقاومة فكرة لا تموت بموت قادتها وأن ثمة أجيالا ستأتي لتحمل الراية.
تماما مثلما يحدث حاليا مع قصة "يحيى السنوار" الذي يشاهد العالم الفصل الأول من قصته الباقية، وليس المشهد الأخير من حياته السابقة.