خلال العهد الجديد.. كيف يمكن تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا؟

مصعب المجبل | منذ شهرين

12

طباعة

مشاركة

يتمسك الشارع السوري بتطبيق العدالة الانتقالية في البلاد عقب سقوط نظام بشار الأسد، والتي من شأن تطبيقها تعزيز السلم الأهلي ومنع المجرمين والمتورطين في قمع الشعب من العودة لممارسة الانتهاكات.

وقد أجمعت الجلسات التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني السوري منذ انطلاقها في 13 فبراير/شباط 2025، والتي جرت مع كل أبناء المحافظات السورية الـ 14 على أهمية تحقيق "العدالة الانتقالية" لضحايا نظام بشار الأسد البائد.

العدالة الانتقالية

وجرى التشديد من قبل السوريين على أهمية سن قوانين للعدالة الانتقالية من قبل هيئات دستورية منتخبة، لمحاسبة المتهمين في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

وذلك وفق إجراءات عادلة غير انتقامية تشمل كل من تورط في الجرائم أيا كان انتماؤه وسواء كانوا عسكريين أم سياسيين أو حتى إعلاميين أو اقتصاديين.

وشهدت المحافظات السورية ورش عملية عن العدالة الانتقالية، تؤكد جميعها على ضرورة التحقيق في حالات الإخفاء القسري، والتعذيب، واستخدام الأسلحة الكيميائية، والقتل على الحواجز الأمنية وفي أماكن سرية بكل المناطق السورية عقب اندلاع الثورة في مارس/آذار 2011.

وقد بات تحقيق العدالة الانتقالية في سوريا الهدف الأساس بعد انتصار الثورة، خاصة عقب مقتل قرابة نصف مليون سوري على يد نظام الأسد وأجهزته الأمنية والعسكرية سواء بالتعذيب أو التصفية الميدانية أو القتل قصفا وبالأسلحة الكيماوية.

والعدالة الانتقالية هي مجموعة إجراءات وتدابير، بعضها قانوني وقضائي، هدفها معالجة إرث ثقيل من انتهاكات حقوق الإنسان لتمكين مجتمع معين من أسباب الاستقرار والسلم الاجتماعي بعد حقبة من الحرب الأهلية أو الحكم الديكتاتوري.

وتقوم -تقليديا- على أربعة أسس، هي: كشف حقيقة الانتهاكات، ومحاكمة والوصول لمرتكبيها، وتعويض الضحايا والاعتذار أحيانا من قبل الدولة إذا كانت الجرائم ذات طبيعة عرقية، ثم الإصلاح الإداري والمؤسسي بما يُمكّن من ضمان عدم تكرار الجرائم.

والعدالة الانتقالية ليست مفهوما جديدا، فقد برزت بشكل لافت بعد الحرب العالمية الثانية، لا سيما في محاكمات نورمبرغ عام 1945 التي استهدفت كبار مجرمي الحرب النازيين.

وتهدف العدالة الانتقالية إلى محاسبة مرتكبي الجرائم الجسيمة والانتهاكات عبر محاكمات عادلة، وعلى رأسهم رأس النظام البائد بشار الأسد والمسؤولون عن الجرائم التي ارتُكبت خلال فترة حكمه.

وترمي العدالة الانتقالية في نهاية المطاف إلى القطيعة مع الإفلات من العقاب، وترسيخ ثقافة المسؤولية الجنائية لدى الدولة ومؤسساتها، وكذلك لدى الأفراد، وصولا إلى تحقيق المصالحة المجتمعية القائمة على العفو والصفح بعد المحاسبة لمنع عمليات الانتقام والثأر مستقبلا.

وفور سقوط نظام بشار الأسد، خرج الآلاف من السجون، لكن مصير عشرات آلاف آخرين مازال مجهولا وتبحث عائلاتهم عن أي أثر لهم.

وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، تسببت الأفرع الأمنية التابعة لنظام بشار الأسد في اعتقال أكثر من 136 ألف شخص وإخفائهم قسرا على خلفية الثورة، ولم يخرج منهم عند تحرير البلاد سوى 24 ألفا و200 شخص أما الباقي فيرجح السوريون مقتلهم.

وما يزال السكان في سوريا منذ سقوط الأسد، يبلغون عن مواقع لمقابر جماعية أو شقق سكنية بأحياء مدمرة توجد فيها بقايا عظام بشرية، حيث استخدمت أجهزة المخابرات بعض المناطق لتنفيذ إعدامات خارج إطار القانون.

وفور سقوط نظام الأسد البائد دعا مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا غير بيدرسون، السلطات الجديدة إلى تجنب "حلقة قصاص وانتقام"، وحض على "العمل على إطار شامل للعدالة الانتقالية".

وينشغل السوريون اليوم بتصميم نموذج للعدالة الانتقالية بحيث لا يسمح أن تتكرر أبدا تلك الفظائع في حقبة الأسد البائد مستقبلا.

"هيئة مستقلة"

ويؤكد حقوقيون لـ "الاستقلال" أن المختصين يدرسون كل نماذج العدالة الانتقالية في دول أخرى ونتائج تطبيقها بعد سنوات من تطبيقها على المجتمعات المحلية، للاستفادة منها في الحالة السورية.

وتهدف هذه الحالة للتعامل مع إرث طويل من القمع وانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، الأمر الذي سيسرع إرساء عقد اجتماعي جديد.

وضمن هذا السياق، قال المحامي السوري عبد الكريم الثلجي لـ “الاستقلال”، إن "العدالة الانتقالية بوابة للسلم الأهلي وهي تضم أربع آليات لمحاسبة المجرمين.

وذلك عبر كشف الحقائق حول الانتهاكات السابقة، وتقديمهم للعدالة إما عبر محاكم وطنية أو محاكم مشتركة بين محلية ودولية ثم تصدر الأحكام بحقهم.

وأضاف الثلجي الذي يشارك في جلسات بشأن العدالة الانتقالية في الداخل السوري: “بعد محاسبة المجرمين المتورطين بدم الشعب السوري وتعذيبهم وارتكاب انتهاكات بحقهم على خلفية الثورة يتم الانتقال إلى جبر الضرر للضحايا من التعويض المادي أو المعنوي”.

وبين أن التعويض المعنوي يكون "من خلال تخليد الذكرى كبناء صروح تذكارية لهم أو تسمية الشوارع بأسمائهم وغيرها الكثير".

وأردف:" بعد ذلك يجرى الانتقال إلى مرحلة إصلاح المؤسسات الأمنية والاقتصادية والإدارية التي كانت شريكة في ارتكاب الانتهاك من تسهيل الحصول على الأموال أو استغلال الثروات السورية أو العمل كواجهة لنظام الأسد البائد لتبييض الأموال".

وأشار إلى أنه "بعد إصلاح المؤسسات يتم الانتقال إلى المصالحة المجتمعية والسلم الأهلي بعد محاسبة المجرمين وتعويض المتضررين ليعيش البلد في أمان".

ولفت إلى أن "العدالة الانتقالية هي عبارة عن إجراءات قضائية وغير قضائية تمهد لحالة التعافي الدائم".

وجرى المطالبة في مؤتمر العدالة الانتقالية الذي عُقِد في دمشق بإنشاء هيئة مستقلة للعدالة الانتقالية تضم جهات حكومية وحقوقية وإعلامية ودولية ومختصين بهذا المجال، وفق الثلجي.

ونوه إلى أن "هناك عددا من المحامين والإعلاميين يعملون على إعداد قوائم عن المجرمين في النظام البائد لتقديمها إلى المحاكم".

ولا بد من التنويه هنا إلى أن أعداد المتورطين في الانتهاكات بحق السوريين التابعين لنظام الأسد هم بعشرات الآلاف بين عناصر وضباط وأفراد يعملون لصالح الأجهزة الأمنية.

وهذا ما يظهر مدى أهمية وثقل الملف المُلْقى على عاتق النظام القضائي السوري الحالي، المثقل أساسا بقضايا قانونية مجتمعية تعدّ من مخلفات النظام البائد.

"العزل الإداري"

ولهذا، ألمح الثلجي إلى “وجود جهود حقوقية لتطبيق العزل الإداري والسياسي بحيث يمنع انخراط هؤلاء المجرمين بعد محاسبتهم في الحياة السياسية والإدارية؛ لأنهم ”سيعملون على ارتكاب الانتهاكات بحق السوريين بذات الأساليب".

وراح يقول: "حاليا هناك أصوات حيادية سلبية بسوريا تنادي بمساواة قتلى عناصر نظام الأسد بقتلى الثوار، لكن هذه النقطة على سبيل المثال في البوسنة والهرسك (بعد الحرب التي شنها الصرب في التسعينيات) لم تثبت نجاحها وهناك شكاوى منها كونها تساوي بين الضحية والجلاد".

وفي الحالة السورية ومع فرار رأس النظام البائد إلى روسيا إضافة إلى كبار الضباط المتورطين في دم الشعب السوري، فإن أحد جوانب العدالة الانتقالية يتمثل في إقامة محاكم خاصة في الخارج تضطلع بالمتابعات القضائية ضد الضالعين في جرائم الحرب والتعذيب والإبادة.

ومن أشهر المحاكم الخاصة، المحكمة الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة والمحكمة الخاصة برواندا، وقد نجحت هاتان المحكمتان في جر عدد من المتهمين إلى العدالة.

على سبيل المثال، جرت في رواندا واحدة من أسوأ الجرائم الإنسانية في إفريقيا على مدار 100 يوم بين أبريل/نيسان ويوليو/تموز 1994؛ حيث شهدت عمليات "التطهير العرقي" ضد أقلية التوتسي، وراح ضحيتها ما يقرب من مليون شخص على مرأى ومسمع المجتمع الدولي.

ولما كان عدد المشتبه بارتكابهم وارتباطهم بجرائم الإبادة كبيرا والإجراءات بطيئة، جرى إنشاء محاكم الجاكاكا في رواندا، وهي كلمة تعني العشب.

واستطاعت محاكم الجاكاكا أن تنهي 1.5 مليون قضية بين عامي 2001 و2010 بسبب كثرة القضايا والمتهمين وتكرار التأجيل وتعرض المحاكم للإغلاق أحيانا.

كما شهدت جنوب إفريقيا هي الأخرى تجربة العدالة الانتقالية بعد إلغاء نظام التمييز العنصري عام 1991، وشكلت لجنة الحقيقة والمصالحة بقيادة القس ديزموند توتو، وعلى مدى ثلاث سنوات استمعت اللجنة لشهادات الآلاف من ضحايا “الأبارتايد”. 

وحُكم في جنوب إفريقيا على الآلاف من المسؤولين وعناصر الشرطة، واستفاد آخرون من العفو الذي كان مشروطا بالاعتراف بالجريمة والتأكد من أنها ارتكبت عن “حسن نية”، ومع ذلك فإن تجربة هذا البلد تعثرت لعدم نفاذ العدالة وطول الإجراءات.