بين احتكار العسكر وجشع الشركات الأجنبية.. الألبان خطر يحدق بأطفال مصر

داود علي | منذ ٢١ يومًا

12

طباعة

مشاركة

يعد فيلم "حياة أو موت" الذي أنتج عام 1954 من أيقونات السينما المصرية، لا سيما أنه يحمل مشهدا خالدا في ذاكرة المصريين، عندما أطلق الفنان الراحل يوسف وهبي عبارته الشهيرة عبر الراديو: "من حكمدار العاصمة إلى المواطن أحمد إبراهيم القاطن بدير النحاس، لا تشرب الدواء الذي أرسلت ابنتك في طلبه، الدواء فيه سم قاتل". 

تمر السنوات ويأتي عام 2024، ومن دراما السينما إلى دراماتيكية الواقع المصري، فاليوم لا يوجد حكمدار للعاصمة (الحكمدار رتبة شرطية مصرية قديمة تعادل منصب مدير الأمن)، وانتقل السم من الدواء إلى ألبان الأطفال. 

ففي 18 أبريل/ نيسان 2024، كشف تحقيق استقصائي أوروبي، عن إضافة شركة “نستله” للصناعات الغذائية السكر والعسل إلى حليب الأطفال "نيدو" ومنتجات الحبوب "سيريلاك" التي تبيعها في دول في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.

في حين تأكد أن هذه المنتجات خالية من السكر في بلدها الأصلي سويسرا وفي الأسواق الأوروبية الرئيسة.

وأكد التحقيق، الذي أجرته منظمة التحقيق "Public Eye" السويسرية بالتعاون مع شبكة العمل الدولية لأغذية الأطفال “IBFAN”، أن هذه المعايير المزدوجة والضارة التي تورد إلى تلك الدول الفقيرة تسهم في إصابة الأطفال بأضرار بالغة.

منها الارتفاع الهائل في السمنة وتطوير تفضيل الأطفال للمنتجات السكرية مدى الحياة، ما يسبب أمراضا مزمنة تتعلق بالقلب والعقل والنمو.

في مصر 

رغم أن شعار شركة "نستله" في مصر "غذاء جيد لحياة جيدة" لكن الأخيرة إحدى أهم وأكبر الدول التي يتضرر أطفالها من منتجات نستله المحلاة بالسكر والعسل.

فبحسب موقع الشركة في الشرق الأوسط فإن منتج سيريلاك الذي يباع في مصر يحتوي على السكر، فيما يحتوي لبن نيدو على عسل وسكروز.

فيما وجد تحقيق المؤسسة السويسرية أن جميع عينات سيريلاك المخصصة للأطفال من عمر 6 أشهر إلى سنتين، تحتوي على متوسط 4 غرامات سكر مضاف لكل حصة، أي ما يعادل مكعب سكر تقريبا.

كذلك وجد الفحص أن منتجات حليب نيدو المجفف المخصص للأطفال الصغار من عمر سنة إلى ثلاث سنوات، التي تباع في مصر، تحتوي على غرامين سكر للعبوة في المتوسط، وتم اكتشاف القيمة القصوى (5.3 غرامات) في بعض العبوات. 

ودعمت مكاشفات التحقيق السويسري، تقارير طبية تؤطر لخطورة تلك المنتجات على صحة وحياة الأطفال المصريين. 

فبحسب مركز السيطرة على الأمراض والوقاية الأميركية CDC، يسبب العسل للأطفال أقل من 12 شهرا نوعا خطيرا من التسمم الغذائي يسمى التسمم السجقي botulism.

وقد يسبب الشلل أو الموت، كما لا ينصح بتناول الأطفال أقل من 24 شهرا الأطعمة التي تحتوي على سكريات مضافة أو محليات صناعية لتفادي السمنة أو خطر تسوس الأسنان.

وكذلك أوضحت المنظمة أن السنتين الأوليين من حياة الطفل لهما أهمية خاصة، حيث إن التغذية المثالية خلال هذه الفترة تقلل من معدلات الإصابة بالأمراض والوفيات. 

كما تقلل من خطر الإصابة بالأمراض المزمنة مثل السكري والقلب والضغط، وتعزز نموا أفضل بشكل عام.

وتعد الألبان غير المطابقة للمواصفات من الأسباب الرئيسة لتدهور صحة الأطفال المصريين، لا سيما أن تقارير محلية وعالمية تحوي أرقاما متدنية عن حالة الطفل المصري الصحية.

ويبلغ عدد الأطفال في مصر 39.6 مليون طفل وفقا لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء الصادر "حكومي" عام 2023. 

وكانت إحصاءات نفس الجهاز قد أوردت أنه بدءا من 2020 قفزت مستويات الوفيات بين الأطفال الرضع، أقل من عام، أكثر من 20 بالمئة.

وحسب بيانات المسح الصحي للأسرة المصرية لعام 2022 ارتفعت الإصابة بالأنيميا بين السيدات في سن الإنجاب، ما بين 15-45 عاما، من 25 بالمئة إلى 38 بالمئة.

كما أفاد بأن معدلات الإصابة بالأنيميا بين الأطفال دون سن الخامسة، قفزت، خلال نفس الفترة، من 27 بالمئة إلى 43 بالمئة مصابون بالأنيميا أو سوء التغذية الحاد.

وتتصدر مصر الدول العربية من حيث وفيات الأطفال دون سن الخامسة، بمعدل 22.7 لكل ألف مولود، بحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" لعام 2023.

أزمة قديمة

وفي 4 أبريل/ نيسان 2024، نشر موقع "مدى مصر" المحلي تقريرا بعنوان "حليب الأطفال.. البحث عن لبن العصفور"، تحدث فيه عن أزمة شح ألبان الأطفال وكيف سيطر جنرالات الجيش على هذا السوق.

وذكر أن 60 بالمئة من مدخلات إنتاج لبن الأطفال بالمصانع المصرية مستوردة، وبالتالي تأثرت بانخفاض قيمة الجنيه وارتفاع تكاليف الشحن وغيرها.

وأوضح أن دورة ألبان الأطفال المحلية في مصر تبدأ من المصنع الذي يقوم بتسليم إنتاجه إلى جهاز خدمة المشروعات الوطنية التابع للقوات المسلحة.

والذي يقوم بدوره بتسليمها إلى هيئة الشراء الموحد، والتي تتولى مسؤولية إيصاله إلى منافذ إتاحة اللبن المدعم.

وكانت القوات المسلحة قد بدأت تسيطر على صناعة واستيراد ألبان الأطفال في مصر منذ عام 2016، عندما ضربت أزمة عنيفة السوق، بسبب نقص الدولار.

لكن تواردت التقارير حينها بأنها أزمة صنعها النظام لإحكام قبضته على قطاع الألبان الإستراتيجي.

وعقب ذلك أشار “مدى مصر” إلى أنه لأول مرة في مصر بدأت بعض أمراض سوء تغذية بين الرضع، في الظهور مجددا بعدما كانت اختفت أو انحسرت.

ولفت إلى ممارسات تنتهجها الأسر الأفقر للتعامل مع غلاء اللبن ونقصه مثل إعادة غليه أو تخفيفه بماء الأرز، إضافة إلى عدم مطابقة الألبان الموجودة للمواصفات. 

وشدد على أن سوء التغذية الحاد يزيد من مخاطر الوفاة، ويعزز من الإصابة بالالتهاب الرئوي في مصر بين الأطفال دون الخامسة.

وأوضح أن 25 بالمئة من المصابين بالالتهاب الرئوي، الذين كانوا يعانون سوء التغذية قد توفوا، في المقابل كانت نسبة الوفاة شبه منعدمة بين المصابين بالالتهاب الرئوي غير المصابين بسوء التغذية.

وهو ما جعل الأطفال المصريين عرضة لذلك الخطر في طفولتهم أو حتى بعد بلوغهم. 

سم في اللبن 

وتعليقا على هذه الفضيحة الموثقة دوليا، قال خبير التغذية الدكتور أحمد سالم إن "إطلاق تسمية السم الأبيض على السكر المصنع ليس مبالغة، خاصة على الأطفال لما يحتويه من تأثير مدمر على جهازهم العصبي والمناعي". 

وأضاف لـ"الاستقلال": "ما يدل على ذلك أن السكر أو مادة السكروز لديها أعراض انسحاب تشمل تغيرات في المزاج، وتهيجا، وأعراضا جسدية مثل الهزات أو التغيرات في مستوى النشاط، مثل أن يصبح الطفل أكثر نشاطا أو خمولا من المعتاد". 

ومضى سالم قائلا: “أما المشاكل الصحية من وراء السكر فهي لا تعد ولا تحصى على رأسها أن الطفل يكون عرضة للإصابة بمرض السكر من النوع الثاني”.

فضلا عن "ارتفاع ضغط الدم، نتيجة لأن السكريات من العوامل المسؤولة عن تراكم اللويحات على جدار الأوعية الدموية، الأمر الذي يتسبب في ضيق الأوعية الدموية وبالتالي الإصابة بارتفاع ضغط الدم، وينتج عن ارتفاع ضغط الدم خطر الأمراض القلبية".

ومن مشكلات تلك الألبان التي تحتوي على نسبة من السكروز والعسل، وفق الخبير المصري، أنها "تسبب هشاشة العظام، حيث تقلل كثافة المعادن في العظام، ما يزيد من فرص إصابة الطفل بهشاشة العظام تماما مثل البالغين، إضافة إلى تسوس الأسنان وسوء الهضم والكبد الدهني". 

وأردف بالقول: “أما على المستوى النفسي فالطفل نتاج تناول هذه المواد داخل اللبن، يكون أكثر عرضة للتأخر الدراسي، ويكون أكثر عنفا وحدة مع أقرانه”.

ودلل على ذلك بالقول: حيث أثبتت الدراسات أن الأطفال الذين يتناولون مزيدا من السكريات يصبحون أقل كفاءة وأكثر عنفا وحركة من أقرانهم". 

وأشار الطبيب المصري إلى أن “العالم الآن صار أكثر تقدما في مراقبة الأغذية وتمريرها للأطفال ومعظم المنتجات في الخارج تتم الإشارة إلى الأعمار التي تناسبها، وبعض الأطعمة يحذر من تناولها للأطفال”.

 “بينما في بلادنا مازال الأمر بعيدا تماما من جميع الاتجاهات بداية من الأب والأم والعائلة وصولا إلى الحكومات والهيئات المسؤولة عن رعاية الطفل”، يختم سالم.