الاعتراف الدولي المتزايد بدولة فلسطين.. هل تسبب في "مأزق دولي" لألمانيا؟

"تصاعد الضغوط على برلين لاتخاذ موقف أوضح"
في خطوة تهدف إلى زيادة الضغط على إسرائيل لإنهاء إبادتها قطاع غزة، اعترفت العديد من الدول الغربية بالدولة الفلسطينية في أعمال الدورة الـ80 للجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك.
ورغم أن نحو 150 دولة من أصل 193 عضوا في الأمم المتحدة سبق أن اعترفت بدولة فلسطين، إلا أن انضمام قوى وازنة مثل فرنسا وبريطانيا وكندا -وكلها من دول مجموعة السبع الصناعية الكبرى- يمنح الخطوة وزنا دبلوماسيا خاصا.
في المقابل، أعلنت الحكومة الألمانية أنها لن تقدم على هذه الخطوة "في المدى القريب"، بحسب ما جاء في تصريحات رسمية.
وأكد المستشار الألماني فريدريش ميرتس، خلال زيارته لرئيس الوزراء الكندي مارك كارني في أغسطس/ آب 2025، أن برلين "لن تنضم إلى هذه المبادرة".
وبرر ميرتس الموقف الألماني بأنه “يستند إلى تقديرات شكلية”، قائلا: "لا نرى حاليا أي شروط متوفرة للاعتراف بدولة فلسطينية"، مشددا على أن الاعتراف يجب أن يكون "الخطوة الأخيرة في عملية سلام تقود إلى حل الدولتين".
من جانبه، أكد وزير الخارجية يوهان فاديبول (من حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي)، قبيل سفره إلى نيويورك للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن الاعتراف بدولة فلسطينية بالنسبة لبرلين يأتي "في نهاية عملية تؤدي إلى حل الدولتين".

معضلة خاصة
وفي هذا السياق، سلط موقع "دويتشه فيله" الألماني الضوء على ما وصفه بـ"المأزق والعزلة التي باتت تعانيها برلين بسبب رفضها الاعتراف بالدولة الفلسطينية".
وأشار إلى أن "التحدي الأكبر يكمن في أن حل الدولتين لا يبدو مطروحا في الأفق، فبعد عملية 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وما تلاها من عملية عسكرية إسرائيلية مستمرة في غزة، تضاءلت فرص هذا الحل إلى حد كبير".
ولذلك، انتقد الموقع الحكومة الألمانية حيث يرى أنها "تتذرع بشرط (غير واقعي) لتبرير رفضها الاعتراف بفلسطين، في محاولة للهروب من اتخاذ قرار سياسي واضح في هذا الملف".
وفسر عدم اعتراف برلين بفلسطين قائلا: "تجد الحكومة الألمانية نفسها في معضلة خاصة فيما يتعلق بملف القضية الفلسطينية".
وتابع: "فبسبب الجرائم النازية التي أودت بحياة ملايين اليهود، تعد برلين أمن إسرائيل مسؤولية تاريخية تقع على عاتقها، بل وترتقي بها إلى مستوى (مبدأ أساسي من مبادئ الدولة)".
وشدد الموقع على أن "هذا الالتزام ليس مجرد كلمات بالنسبة للمستشار الألماني ميرتس".
وتابع موضحا: "ففي كلمة ألقاها قبل أيام بمناسبة إعادة افتتاح كنيس يهودي في ميونيخ كان النازيون قد دمروه، بدا ميرتس -الذي كان يرتدي الكيباه اليهودي- متأثرا إلى حد البكاء وهو يقول: منذ السابع من أكتوبر 2023، نشهد جميعا موجة جديدة من معاداة السامية في صورها القديمة والجديدة، وبشكل صريح وضمني، وبالكلمات والأفعال، سواء على وسائل التواصل أو في الجامعات أو في الفضاء العام".
وأضاف أن ذلك يشعره بالخزي العميق، معلنا عزمه على مواجهة كل أشكال معاداة السامية في ألمانيا بلا استثناء.
مع ذلك، زعم الموقع أن "ميرتس يفصل بوضوح بين رفضه لمعاداة السامية وبين موقفه من سياسات الحكومة الإسرائيلية، وبالأخص ما يتعلق بالحرب في قطاع غزة".
حيث أشار إلى أنه "وجه انتقادات حادة للحملة العسكرية الإسرائيلية، وقرر أخيرا وقف جميع صادرات الأسلحة التي يمكن أن تُستخدم في حرب غزة".
وأردف: "وفي كلمة أخرى بمناسبة مرور 75 عاما على تأسيس المجلس المركزي لليهود في ألمانيا، شدد ميرتس على أن انتقاد سياسات الحكومة الإسرائيلية يجب أن يبقى أمرا مشروعا، بل قد يكون ضروريا أحيانا، قائلا: (الخلاف في المواقف لا يعني خيانة صداقتنا)".
تصاعد الضغوط
بالتوازي مع ذلك، أشار الموقع إلى "تصاعد الضغوط على الحكومة الألمانية لاتخاذ موقف أوضح من الصراع في غزة".
وأوضح أن "هذه الضغوط تأتي من الخارج كما من الداخل، فعلى المستوى الأوروبي، تجد ألمانيا نفسها بشكل متزايد في عزلة داخل الاتحاد إلى جانب إيطاليا، بعدما اعترفت دول أوروبية عديدة بالدولة الفلسطينية خلال الأعوام الماضية".
وأضاف: "فبعد أن بادرت السويد عام 2014 بهذه الخطوة، لحقت بها عام 2024 دول مثل إسبانيا، وأخيرا أعلنت البرتغال أيضا اعترافها الرسمي".
واستطرد: "كما اعترفت فرنسا قبل عدة أيام بفلسطين، في إطار مساعيها للضغط على إسرائيل لإنهاء سياسات الضم في قطاع غزة والضفة الغربية، وذلك رغم تأكيد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رفضه القاطع لأي حل يقوم على دولتين، قائلا: (لن تكون هناك دولة فلسطينية غرب نهر الأردن)".
علاوة على ذلك، ذكر "دويتشه فيله" أن "الممثلة العليا للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس دعت ألمانيا إلى الانضمام لفرض عقوبات على إسرائيل، بينما اقترحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين تعليق المزايا التجارية التي تتمتع بها تل أبيب مع الاتحاد".
ولفت إلى أن هذه الأطروحات تثير انقساما حادا داخل ألمانيا، حيث حذر رئيس الكتلة البرلمانية لأحزاب الاتحاد المسيحي في البوندستاغ، ينس شبان، من إعادة إنتاج ما وصفه بأنه "مشاهد الماضي المظلم في التاريخ الألماني".
وفي مقابلة مع القناة الثانية الألمانية (ZDF)، قال شبان: "ما ستكون النتيجة إذن؟ لا تشتروا من اليهود بعد اليوم؟ لقد مررنا بكل ذلك من قبل"، في إشارة إلى حملات المقاطعة النازية ضد المتاجر اليهودية في ثلاثينيات القرن العشرين.
كما زعم أن "النقاش حول إسرائيل وغزة يفقد التوازن بسرعة في ألمانيا وينزلق إلى معاداة السامية".

نبرة جديدة
وعلى النقيض من بعض الأصوات المتحفظة، أوضح الموقع أن "الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الشريك في الائتلاف الحاكم، يبدي استعدادا لتبني نبرة جديدة في التعامل مع القضية الفلسطينية، ويُظهر تفهما لقرار العديد من الديمقراطيات الغربية الاعتراف بدولة فلسطين".
ووصف المتحدث باسم الكتلة البرلمانية للشؤون الخارجية، أديس أحمدوفيتش، هذا التوجه بأنه "خطوة منطقية في إطار سياسة الشرق الأوسط الخاصة بالحزب".
وأوضح أن الحزب، خلال مؤتمره الأخير، أقر بأن "الاعتراف بدولة فلسطين لا يجب أن يكون بالضرورة في نهاية العملية السياسية".
كما أكد أحمدوفيتش أن "أوروبا بحاجة إلى موقف موحد، يقوم على إطلاق عملية جديدة نحو حل الدولتين، بصقته السبيل الوحيد لتحقيق سلام دائم في المنطقة".
"في حين ذهبت المعارضة ممثلة في حزب الخضر إلى أبعد من ذلك"، يقول الموقع.
وصرحت الرئيسة المشاركة للحزب، فرانزيسكا برانتنر، لوكالة الأنباء الألمانية، بأن على المستشار ميرتس ووزير الخارجية فاديبول أن يختارا: “هل يقفان إلى جانب القوى التي تعمل من أجل سلام شامل لجميع الناس في إسرائيل وفلسطين؟”
وتابعت: “أم يكتفيان بالمشاهدة بينما تواصل حكومة إسرائيل، ذات التوجهات اليمينية المتطرفة جزئيا، هجماتها في غزة وتبتعد فرص السلام وإطلاق سراح الرهائن أكثر فأكثر؟”
المستوى الشعبي
وامتد الانقسام السياسي بشأن الاعتراف بفلسطين إلى المستوى الشعبي كذلك.
فقال الموقع: "لم يشمل برنامج المنظمات التي دعت إلى مظاهرة في 20 سبتمبر/ أيلول 2025 في برلين، تحت شعار (كل العيون على غزة - أوقفوا الإبادة)، مطلب الاعتراف بفلسطين كدولة".
وبحسبه، "جمعت الفعالية طيفا واسعا من المؤيدين لفلسطين، بينهم منظمات فلسطينية وإسرائيلية؛ لكن مع مواقف متباينة بشأن مدى واقعية حل الدولتين".
وقال تسافرير كوهين من منظمة "ميديكو إنترناشونال" الحقوقية، المشاركة في الدعوة للتظاهرة: "الأولوية بالنسبة لنا أن يُعامل الفلسطينيون كبشر يتمتعون بحقوق متساوية، سواء في إطار دولة ثنائية القومية أو في إطار دولتين".
ومع ذلك، لفت الموقع إلى أن كوهين عبر عن أسفه لعدم لحاق ألمانيا بركب الدول التي اعترفت بفلسطين، واصفا الاعتراف بأنه "خطوة رمزية ضرورية لإجبار حكومة إسرائيل على إنهاء الإبادة، واحترام حقوق الإنسان، ووقف ضم الأراضي الفلسطينية".
وفي السياق ذاته، أشار الموقع إلى تحالف يضم عشرات المنظمات المدنية أطلق عريضة تطالب الحكومة الألمانية بـ"ترجمة انتقاداتها لإسرائيل إلى خطوات عملية".
ووفق تقييم الموقع الألماني، لا يبدو أن المستشار ميرتس يعبأ بهذه الضغوط، حيث يبدو متمسكا برفضه الاعتراف بفلسطين، رغم أن غالبية الألمان تؤيد هذه الخطوة.
واستشهد على ذلك باستطلاع أجراه معهد "فورسا"، مطلع أغسطس/ آب 2025، أظهر أن 54 بالمئة من المشاركين يدعمون الاعتراف بفلسطين، مقابل رفض 31 بالمئة.
ورغم كل الضغوط الداخلية والأوروبي على برلين، نفى متحدث باسم وزارة الخارجية أن تكون بلادة في حالة "عزلة دبلوماسية".
وأكد أن برلين ما زالت متفائلة بشأن فرصها في الحصول على مقعد في مجلس الأمن الدولي، مشيرا إلى أن "مسألة الاعتراف بدولة فلسطين لا تلعب دورا حاسما في ملف الترشيح".
وفي سياق التحركات الألمانية الداعمة لفلسطين، أبرز الموقع مشاركة وزيرة التنمية الألمانية، ريم ألبالي رضوان (عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي)، في مؤتمر حل الدولتين، الذي نظمته فرنسا والسعودية على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وأكدت الوزيرة في بيان صحفي أن “قطاع غزة يعد جزءا لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية المستقبلية”، مشددة على أن "التعاون التنموي الألماني سيُسهم في إعادة إعمار غزة، حالما تسمح الظروف الميدانية بذلك".