الجهود الأميركية لاحتواء الجزائر.. الأسباب والإجراءات

قسم البحوث | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

المحتويات

مقدمة

أ‌. سبب التوجه نحو احتواء الجزائر

1. واردات السلاح

2.  معضلة إس 400

3.  صناعة السلاح

4. قرار العودة للقاعدة الوطنية للتشغيل النووي

5. التوازن القوي في سياستها الخارجية

ب. جهود احتواء الجزائر

1. الأسد الإفريقي ومحاولات احتواء إس 400

2. مناورات بلونيزي وسابقاتها

3. حفتر على حدود الجزائر

خاتمة


المقدمة

تشير الدلائل إلى أن كلا من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يريان في الجزائر "مصدرا" لتهديد محتمل في الوقت الراهن، وهو نفس المربع الذي تقبع فيه تركيا من وجهة نظر المحور الفرنسي داخل أوروبا. 

فكما تركيا، ترى دول جنوب أوروبا في الجزائر مشروع "معضلة الشب عن الطوق" السابق حضوره في السلوك التركي، هذا فضلا عما أسفرت عنه المستجدات من موثوقية العلاقات الجزائرية - الروسية، وهو أمر يثير مخاوف أميركية أوروبية، انعكست في توترات بين روسيا وكل من الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا، وبلغ الأمر حد إجراء مناورات وتدريبات متعددة، ومناشدات دبلوماسية، بهدف احتواء النزوع الجزائري لـ"الشب عن الطوق".

الترتيبات التي حدثت تأتي رغم أن الجزائر تلتزم بميراثها من منظومة عدم الانحياز، وتأخذه كنهج إستراتيجي، حيث إنها تعمل على بناء علاقات متوازنة مع أوروبا بموازنة النفوذ الفرنسي بنفوذ أوروبي آخر ألماني وإيطالي؛ وبخاصة في مجال الصناعات العسكرية التي قررت أوروبا ألا تتركها نهبة للتفاعل بين طموحات المؤسسة العسكرية الجزائرية والأطماع الروسية في المتوسط.

من جهة أخرى، وفي نفس إطار مربع التوازن السياسي والإستراتيجي، ومع تزايد الضغوط الفرنسية بدرجة قوية بلغت حد التهديد الإستراتيجي، عمدت الجزائر لإحلال الصينيين محلها في مجال النفوذ الاقتصادي، وإحلال الروس محلها فيما يتعلق بالدعم الإستراتيجي والتكتيكي في المربع العسكري، إلى جانب مد حبال الوصل مع الولايات المتحدة بحسب ما كشفت عنه تقارير ودراسات مختلفة، من بينها دراسات لقسم البحوث بـ"الاستقلال". 

لم يؤثر هذا التوجه - رغم أهميته للجزائر - على التزام الجزائر بالسياسة المتوازنة، وكان أحد أبرز دلالات التزامها ما يتمثل في رفضها المتكرر لإقامة قواعد عسكرية روسية على ترابها، وهو نفس النهج الذي تتبعه في مواجهة الجار الشمالي عبر المتوسط، وحتى مع الولايات المتحدة.

غير أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، والتي قررت عدم التساهل مع النفوذين العسكري الروسي والاقتصادي الصيني حول العالم؛ لم يرق لها هذا الإحلال، وبدأت في السعي لاحتواء هذا الدور، واللافت أن هذه الضغوط تستند لالتزام الجزائر بـ"النهج الحيادي"، وربما هذا ما دفع حلف شمال الأطلسي "الناتو" للتمادي في التدريبات، وصولا لتدريبات نوعية نتحدث عنها لاحقا.

فما هي أسباب التوجه نحو احتواء الجزائر؟ وما هي الإجراءات التي اتخذت في إطار هذا التوجه الاحتوائي؟ هذان السؤالان تجيب عنهما هذه الدراسة.


أ. سبب التوجه نحو احتواء الجزائر

رغم أن الجزائر تقبع في المرتبة 27 من حيث القوة العسكرية، وفق تقييم موقع "غلوبال فايرباور"، إلا أن تفصيلات الموقع الجزائري تختلف من حيث قدراتها النوعية، حيث تحتل المرتبة الثامنة عالميا بسلاح الطرادات البحرية، والمرتبة 10 بسلاح الفرقاطات البحرية، والمرتبة 12 عالميا بسلاح الدبابات، والمرتبة 13 بسلاح الغواصات، ونفس المرتبة بسلاح النقل العسكري.

والمرتبة 14 في المروحيات المقاتلة، ونفس المرتبة بسلاح البحرية القتالية، والمرتبة 15 بسلاح المروحيات، ونفس المرتبة بسلاح العربات المدرعة، والمرتبة 16 عالميا بسلاح منظومات الصواريخ المتحركة. 

وتؤدي مشكلات أخرى، أغلبها غير عسكري، إلى كبح الترتيب الذي تستحقه الجزائر، وهو ما يمنحها تقييمات أقل بالنظر لتأثر متوسط تقييم القوة بهذه المتغيرات العامة غير العسكرية. 

غير أن ثمة أمورا تتسبب في القلق المتزايد غربيا بشكل عام، وأوروبيا بشكل خاص حيال التوجه العسكري الجزائري. فما ملامح هذه المثيرات الجزائرية؟ هذا ما نتعرف عليه في هذا المحور.

1. واردات السلاح:

وفق تقرير معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام "سيبري" لعام 2017، احتلت الجزائر صدارة الدول المستوردة للسلاح في إفريقيا خلال السنوات الـ4 الماضية، حيث تحتكر 52 بالمئة من واردات إفريقيا للأسلحة في الفترة ما بين 2013 و2017"، وأشار إلى أن شركاء هذه التجارة مع الجزائر هم روسيا والصين وألمانيا وإيطاليا على الترتيب. 

ورغم أن التقرير أشار إلى انخفاض واردات الدول الإفريقية الـ54 من الأسلحة خلال نفس الفترة بنسبة 22 بالمئة، إلا أنه أشار لاحتلال الجزائر المرتبة السابعة عالميا في قائمة أكثر الدول المستوردة للأسلحة. 

وتجاوز حجم الإنفاق العسكري الجزائري بين 2013 و2016 ما قيمته 30 مليار دولار. وأشار تقرير نفس المعهد عن الفترة بين 2016 و2020 إلى أن واردات الجزائر من الأسلحة ارتفعت بنسبة 64 بالمئة.

المشكلة بالنسبة للولايات المتحدة والناتو ليست في زيادة مشتريات الأسلحة، بل في قدرة هذه الأسلحة على تهديد تراب دول أعضاء في الناتو، من بينهم فرنسا. 

ويشير مراقبون لآخر صفقة لتطوير سلاح الطيران الجزائري مع الجانب الروسي، والتي تمثلت في الاتفاق على ما أسموه "معادلة 14 - 14 - 14" الروسية، والموقع من جانب الطرفين الروسي والجزائري، والذي يتضمن بيع 3 أسراب طائرات مقاتلة "سو 57" و"سو 35" و"سو 34"، وفوق كل سرب طائرتان عاجلتان من كل نوع لأغراض "التجريب" و"التدريب"، علاوة على سربين من مقاتلات "سو 30 إم كا"، وسرب واحد من مقاتلات "ميج 29 إم 2" الخفيفة.

وهو ما يمكن النظر إليه بحسب مراقبين، في إطار تقرير لوزارة الدفاع الروسية عن دخول المقاتلة الإستراتيجية "سو 57" على الخط الأول للمواجهة في سلاح الجو الروسي في مقابل الناتو، ما يجعلها رمزا للصدام مع هذا الحلف العسكري، ولكن في إطار ما تعتبره روسيا خط المواجهة الأول مع الناتو. وإن كان المراقبون يعتقدون أن المقاتلات الستة العاجلة، والمتوقع وصولها بنهاية هذا العام تأتي لحماية منظومات الدفاع الجوي "إس 400" أكثر منها لغرض التدريب.

وفي نفس إطار تهديد الناتو، اختبرت الجزائر مؤخرا صواريخ "كاليبر" البحرية الروسية من طراز "نوفاتور" المعدلة، من الجيل الأحدث، والتي يصل مداها لأكثر من 300 كم، وهي صواريخ منها طرز عدة؛ يمكن إطلاقها من الغواصات أو السفن، ما يجعلها قادرة على إصابة التراب الفرنسي حتى مع وجود منصات إطلاقها في المياه الدولية، وهي حاسمة في أية مواجهات محتملة مع إسبانيا التي تعارض الطموحات الجزائرية الاقتصادية غرب المتوسط.

ومن بين المشتريات الجزائرية كذلك، ما كشفت عنه الجزائر إبان التوتر الذي شهدته "قضية الصحراء" حيث كشفت القوات المسلحة عن امتلاكها الصاروخ الباليستي "كاليبر"، الذي يبلغ مداه الأقصى 280 كيلومترا، والذي تتسلح منه الجزائر حالياً بنحو أربع منظومات.

ووصفت مجلة "ميليتاري ووتش" الأميركية بأن "كاليبر" أقوى صاروخ باليستي في العالم، وإن كان المدى القصير للصاروخ، وتوقيت إبرازه في التدريبات الجزائرية، يكشف عن كونه موجها للردع الإقليمي لا أكثر، إلا أن سرية التعاقد والنقل ومفاجأة الاستعراض، علاوة على تاريخ التعاون الروسي - الجزائري تدفع المراقبين الغربيين للتوجس مما قد يكون المفاجأة التالية.

ومن نافلة القول بعد مقدمة هذا المحور أن نشير لوفرة مشتريات الجزائر من القطع البحرية الفرنسية والألمانية والصينية والروسية، علاوة على التركية مستقبلا، والتي وصفها مركز "Center for International Maritime Security" في 2015، بأنه "شراء محموم" أو "Frenzy Buying"، قد عززت مكانتها البحرية إقليميا ومتوسطيا، ومن المتوقع أن يثير هذا القلق حفيظة القوى الاستعمارية السابقة التي ترغب في امتصاص ما تبقى من ثروات المنطقة، ما دفع الجزائر لترسيم حدودها من طرف واحد مع إسبانيا على سبيل المثال.

2. معضلة إس 400:

في 6 مارس /آذار 2021، نشر موقع "غلوبال ديفنس كورب" تقريرا يفيد أن الجزائر أضحت ثالث دولة تقوم بنشر منظومة صواريخ "إس 400" المضادة للصواريخ والطائرات، بعد كل من الصين وتركيا.

وقامت بنشر صورة لـ3 منظومات على الأقل جرى نشرهم في مواقع عسكرية متفرقة بالبلاد. وهو الأمر الذي أثار حفيظة الولايات المتحدة، التي لم تكد تهدأ تعليقاتها على منظومة "إس 400" التركية، حتى تواترت أنباء الزيارة التي قام بها وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن لزيارة نيودلهي، للضغط على الهند، وتخويفها بالعقوبات بعد أن أعلنت أنها تتفاوض لشراء هذه المنظومة. 

وكانت الولايات المتحدة قد أصدرت أوامر لليونان بالتخلص من منظومات "إس 300" التي سبق لها أن اشترتها، وهو ما تسبب في تخزينها بجزيرة "كريت" قبل أن تخرجها اليونان من أجل تجريبها في 2013.

اللافت بخصوص هذه المنظومة أنها لا تجد طريقها فقط للبيع في تلك الدول التي تتبنى موقفا محافظا من الكتلة الغربية وعلى رأسها الصين التي تتسلح بمنظومة "إس 400"، وتمكنت من تطوير منظومة مناظرة لـ"إس 300"، بل تحضر منظومة "إس 400" كذلك في مربعات حلفاء إستراتيجيين للولايات المتحدة، وهو ما يهدد سمعة منظومات الدفاع الجوي الغربية، وبخاصة الأميركية. 

ويلفت مراقبون روس إلى أن الأمر يتعلق بصورة أساسية بتجارة السلاح، إلا أن هذه المساحة تشهد تطورا نوعيا، فلطالما كانت هناك منافسة شرسة في سوق السلاح العالمية.

ومن أجل بيع "سلعهم" بشكل أكثر ربحية، يحاول المنافسون تشويه سمعة معدات منافسيهم العسكرية، وزرع الشكوك بين المشترين حول مزاياها، والفوز بالمناقصات، حتى أنهم يقومون بخفض أسعار منتجاتهم قصدا.

غير أن التطور في هذه المساحة يتمثل في العمل على إخافة المشترين عبر تهديدهم بعقوبات سياسية واقتصادية وعسكرية - تقنية في حال شرائهم منظومات الدفاع الجوي الروسية.

من جهة أخرى، لفتت مجلة The National Interest إلى أن الولايات المتحدة قلقة من نجاح تصدير منظومات "إس 400" الروسية، لكنها أشارت إلى أن الهدف إستراتيجي هذه المرة، وليس تسويقيا. 

وأوضحت المجلة أن هذه المنظومة عبارة عن منصة متقدمة قادرة على العمل في شكل شبكة يمكنها مواجهة الطائرات الأميركية "F 22" و"F 35"، وأنه يمكن للأنظمة الروسية المترابطة، والقادرة على تبادل البيانات عن الأهداف بسرعة عالية، أن تتبع طائرات القوات الجوية الأميركية المناورة بدقة عالية. في هذه الحالة، ما يؤدي لتقييد فاعلية التطور الذي يميز الطائرتين  "F 22" و"F 35"، والتي تقيد الولايات المتحدة بيعهما.

غير أن مراقبين روسيين يرون أن الأمر يتعلق بالسيطرة إلى جانب الاعتبارات السابقة. فمنظومة "إس 400" غير متوافقة مع منظومات السلاح الغربية، وهو ما يعني استحالة سيطرة الولايات المتحدة عليها وعلى استخداماتها من خلال تقنيات التحكم عن بعد، وهو ما يجعل مشتري هذه المنظومات قادرين على اتباع سياسات دفاعية أو عسكرية تتسم بالاستقلال، أو على الأقل تتمتع بالبنية التحتية التي تؤهلهم في المستقبل لمثل هذا الاستقلال.

وأشار مراقبون آخرون إلى أن المنظومة تمثل مدخلا لاتساع نطاق استخدام السلاح الروسي، وهو ما تحقق بالفعل مع "إس 400" الجزائرية، حيث إن تطورات ردود الأفعال حيال هذه المنظومات أدت إلى استعجال كل من الجزائر وروسيا الاتفاق على تسليم الأولى طائرتين من طراز "سو 57" لحماية منصات المنظومة، مرجحين أن التسليم سيتم قبيل انتهاء العام 2021. 

كما أسفرت نفس التطورات العسكرية من جانب "الناتو" تجاه الجزائر إلى تعاقد الجزائر على محطة رادار "ينيسي. 

وتعمل منظومة "ينيسي" كداعم لمنظومتي "إس 400" و"إس 500"، ما يحمل توجها في المستقبل لشراء منظومات "إس 500".

3. صناعة السلاح:

من أهم مصادر القلق من الجزائر أنها تعمل من أجل أن يكون لها بنية تحتية صناعية عسكرية قوية، وهو أمر يقلق الحلفاء قبل الخصوم، وما زالت الولايات المتحدة قلقة من تمكن تركيا من تطوير منظومات عسكرية دفاعية وهجومية، برية وجوية وحتى بحرية، ما جعلها قادرة على أن تقول "لا" للولايات المتحدة و"الناتو" إذا كانت قراراتهما تناهض المصالح القومية التركية. 

وأعلن رئيس أركان الجيش الجزائري السعيد شنقريحة، في مطلع ديسمبر/كانون الأول 2020، خلال لقاء مع قيادات في القاعدة المركزية للإمداد، أن القيادة العليا للجيش تعتزم تطوير الصناعة العسكرية لتلبية احتياجات الجيش بمصادر إمداد وإسناد داخلية، تخلّصها ولو بصفة جزئية من التبعية التكنولوجية تجاه الخارج.

وبينما تشتعل المواجهة المكتومة داخل "الناتو" مع تركيا، فجرت المخابرات الفرنسية مفاجأة باتجاه الجزائر إلى تركيا لبناء حاملة مسيرات مشتركة.

ولم تلجأ الجزائر لإيطاليا التي سبق أن اشترت منها حاملات المروحيات "قلعة بني عباس" في 2014، والتي لجأت إليها روسيا لتطوير حاملة الطائرات الخاصة بها "أدميرال كوزنتسوف".

وفضلت الجزائر اللجوء لتركيا التي سبق لها أن نجحت في بناء حاملة طائرات "تي جي أناضول" محلية الصنع لاستخدامها مع مقاتلات "إف 35"، ثم نجحت بتطويرها إلى حاملة مسيّرات بعد فشل مشروع شراء المقاتلة الأميركية الجديدة. 

ويرجع تفضيل الجزائر للتعاون مع تركيا لأمرين، أولهما قضية الشراكة، وثانيهما قضية التفوق الإلكتروني التركي مقارنة بالتقنية الإيطالية.

تصريح "شنقريحة" لا يعني أن الصناعات الدفاعية الجزائرية تقليدية، وتقف عند حدود الأسلحة الفردية والذخيرة، حيث يمتلك الجيش الجزائري مصنعا لصناعة العربات العسكرية والمدرعات، أقيم بشراكة مع العلامة الألمانية "مرسيدس"، ويقوم هذا المصنع بتصدير إنتاجه في الوقت الحالي إلى دول الجوار، كتونس ومالي والنيجر وموريتانيا.

كما يمتلك مختبرات وورشا لتطوير طائرات من دون طيار تمكنت من تطوير وابتكار بعض أنواع المولدات المرتبطة بتقنيات الطيران، ومصانع لتركيب الزوارق الحربية، ومصنعا لتجديد عتاد الطيران، يعمل في مجال تصليح وصيانة طائرات النقل العسكري والحوامات، وورشة لصناعة الطائرات من النوع الخفيف المستخدمة في تدريب طياري القوات الجوية، وصناعة طائرات صغيرة للدفاع المدني والزراعة. 

وبخلاف هذا يمتلك الجيش الجزائري مصنعا لإنتاج المواد المتفجرة، ومصنعا للأسلحة الرشاشة، إضافة إلى مؤسسة لإنجاز أنظمة المراقبة بواسطة الفيديو.

ومن جهة أخرى، تستضيف الجزائر مشروعات مشتركة للتصنيع العسكري، وبخاصة في مجال الطائرات المسيرة، بالتعاون مع كل من إيطاليا والإمارات، والتي كانت نتيجتها تطوير المسيرة الجزائرية "الجزائر 54". وتتجه الجزائر لتوفير بنية تحتية تسهل عملية استضافة "الشركات الدفاعية التركية"، وهي خطوة تمهيدية لإقامة بنية صناعية مشتركة بين كل من تركيا والجزائر.

4. قرار العودة للقاعدة الوطنية للتشغيل النووي:

بالإضافة لما سبق من مصادر القلق الإقليمي الإفريقي الأوروبي، ما اتجهت إليه الجزائر من وضع خطة متكاملة لتحوّل الطاقة من خلال التوسع في مشروعات الطاقة النظيفة لتأمين الكهرباء إلى مواطنيها وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، في إطار المساعي الدولية لخفض الانبعاثات والوصول إلى الحياد الكربوني بحلول 2050، حيث دعا وزير الانتقال الطاقوي والطاقات المتجددة شمس الدين شيتور، ووزير الطاقة والمناجم محمد عرقاب، إلى ضرورة الإسراع في التفكير بتطبيق إستراتيجية أمثل حول إسهام الإمكانات النووية في النموذج الطاقوي في الجزائر، والذي يقوم على 3 محاور: الرصانة، الفعالية الطاقوية وبرنامج تطوير الطاقات المتجددة، والنموذج الطاقوي الجديد.

ولم يلبث الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أن وقع على قرار بإعادة تشغيل "القاعدة الوطنية للتشغيل النووي". ومصادر التوجس الغربي من النووي الجزائري تأتي في إطار توفر نموذجين مزعجين إقليميا للاهتمام بالملف النووي، كلاهما يملك إرادة إنتاج سلاح نووي وهما النموذجان الإيراني والتركي، وذلك بعد استبعاد النموذج السعودي الذي كان قد باشر العمل في هذا الملف عبر دعم المشروع النووي الباكستاني في 2015، وبتوافق بين السعودية وتركيا، قبل أن تتغلب وجهة نظر ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الراغب في توثيق علاقته بالغرب على حساب تركيا وباكستان. وتخشى الولايات المتحدة من أن يدخل عضو جديد لهذا النادي، الجزائر، والتي تستعد عبر مشتريات السلاح لما يمكن اعتباره استعدادا لتأمين هكذا برنامج في حال توفر الإرادة السياسية لتنفيذه.

أما مصدر القلق الثاني فيتمثل في أن المتوفر من التقارير الاستخباراتية لدى الولايات المتحدة، بالتنسيق مع المخابرات الفرنسية، أن الجزائر تملك بالفعل 50 طنا من معدن اليورانيوم الضروري لمعاودة المشروع النووي، أو حتى للخوض فيه، ما يعني أن الجزائر ليست في حاجة لتوريد هذا المعدن. كما تشير التقارير الاستخباراتية إلى أن 50 بالمئة من الكمية المتاحة لدى الجزائر كانت قد دخلت لمربع التجهيز في مراحل سابقة للمشروع النووي الجزائري. 

وما يثير القلق الفرنسي أن القوات الخاصة الفرنسية لم تنجح خلال 14 عملية عسكرية في القضاء على هذا المخزون، كما أن الجزائر لم تقم بالاستغناء عن هذا المخزون؛ سواء بالبيع أو التسليم لدولة نووية كبرى، ومن بينها فرنسا.

5. التوازن القوي في سياستها الخارجية:

بعد تزايد الضغوط والتهديدات ونهج التعنت الفرنسي مع الجزائر في ملفات الذاكرة والتجارب النووية والتسليح، وفي أعقاب الحراك الجزائري الذي رفع شعار "اتركوا مسافة بعيدا عن فرنسا"، اتجهت الجزائر لتوسيع نطاق الحضور الروسي الصيني على حساب الحضور الفرنسي بشكل خاص.

غير أنها قامت بتقسيم الحصة الفرنسية بين روسيا والصين بحيث تترك لروسيا المربع العسكري في حين تترك المربع الاستثماري للصين. 

غير أن هذا التحرك بدا مثيرا للريبة، بعدما اتضح أنه يعني توسيع النفوذ الجزائري شمالا وجنوبا. 

فالقوة العسكرية فائقة التطور القادمة من روسيا تعزز حضور الجزائر في مواجهة أوروبا التي ترغب في حرمان الجزائر من حصتها في ثروات غرب المتوسط، كما أن الحضور الاستثماري الصيني يربط الجزائر بعمق القارة الإفريقية، ويزيد من فرص النفوذ الجزائري المستقبلي في إفريقيا. وإذا ربطنا هذا بالاتفاق البحري الجزائري التركي الموقع أخيرا، فإن القارة الإفريقية تصبح بهذه الصورة منطقة تسويق صيني - تركي بامتياز. 

وفق تقرير معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام "سيبري" لعام 2017، والذي يعنى بتجارة السلاح عبر العالم، فإن المستفيد الأكبر من زيادة تسلح الجزائر هما: روسيا والصين، اللتان رفعتا صادراتهما نحو الجزائر بنسبة 3.7 بالمئة خلال نفس الفترة. 

وتوضح بيانات التقرير أن روسيا حافظت على صدارة مزودي الجزائر بالأسلحة، من خلال الصفقات التي وقّعت بينهما في الفترة من 2013 إلى 2017، حيث عقدت مع موسكو صفقات تمثل 59 بالمئة من مبيعات أسلحتها، وهو ما يجعلها تحافظ على مكانتها في السوق الجزائرية للعام الـ24 على التوالي. كما كشف التقرير عن أن الجزائر جاءت في المرتبة الثالثة ضمن أكبر المستوردين للأسلحة الصينية خلال السنوات الأربع الماضية بنسبة وصلت إلى 10 بالمئة. 

وفيما لم يكشف التقرير عن حجم تجارة السلاح الجزائري مع ألمانيا، فإن تجارة السلاح بين إيطاليا والجزائر كانت أقل قليلا من نظيرتها مع الصين، حيث احتلت الجزائر المرتبة ذاتها بالنسبة لإيطاليا، التي أصبحت في السنوات الماضية من أكبر زبائنها عالمياً بنسبة 9.9 بالمئة.

ويعد نفوذ موسكو في الجزائر أبرز ملامح الحضور الروسي بمنطقة الشرق الأوسط. وفي المجال العسكري، زودت موسكو الجيش الجزائري، بين عامي 2014 و2018، بما نسبته 66 بالمئة من الأسلحة المملوكة منه، وكانت الجزائر المستورِد الأكبر للسلاح الروسي في القارة الإفريقية. 

ورغم الطموحات التجارية الروسية مع الجزائر، تظل العلاقات العسكرية الأكثر تمتعا بقوة اندفاع ذاتية. 

فخلال 2020، اتجهت روسيا لبناء أكبر مركز عسكري في الجزائر ضمن مشروع شراكة وتعاون عسكريين بين روسيا وعدد من الدول بينها مصر والجزائر. 

كما تولت المؤسسة العسكرية الروسية عملية تحديث أسطول الجزائر من طائرات "سو 24 إم2" المنتجة خصيصا للجيشين الروسي والجزائري، كما وافقت على تزويد الهند للجزائر بصواريخ "براهموس" الاعتراضية، وصواريخ "آكاش" أرض جو، التي تصنعها نيودلهي بعقد مع الشركة الروسية المنتجة لهما. 

أما أحدث الصفقات المتعلقة بصواريخ "اسكندر الباليستية، وصواريخ "كاليبر" البحرية، وتحديث أسطول المقاتلات الجزائرية بطائرات "سو 57" و"سو 35" و"سو 34" وحتى "سو 30" و"ميج 29"، فقد أشرنا إليها من قبل. ويضاف لهذا تزويد روسيا للجزائر بمسيرات "إس 70"، بالإضافة إلى الاتفاق المبدئي على تجميع "ميج 35" بعد نجاحها في تجميع "ميج 29".

غير أن التطور المتسارع في العلاقات العسكرية بين الطرفين لم يمنع الجزائر من أن ترفض استضافة منظومة رادارات "ياكروما" الروسية، كما رفضت مقترحا بإقامة قاعدة عسكرية روسية.

أما عن الصين، فكان المربع الأساسي الذي حصلت عليه من الجزائر يتمثل في الكعكة الاقتصادية التي تتنامى على حساب الحضور الاستثماري الفرنسي. 

ولهذا، فإن الصين صاحبة أكبر جالية أجنبية في الجزائر، يقدر عددهم بعشرات الآلاف، معظمهم من العاملين في مشاريع البناء الكبرى.

ويمثل قطاع المقاولات أحد أهم أوجه الشراكة القوية بين البلدين. ويعد الطريق الصحراوي الإفريقي، الرابط بين العاصمتين الجزائر - لاجوس في نيجيريا، أحد أوجه التعاون الإستراتيجي بين البلدين، حيث ساعدت الصين الجزائر في تمويل الشطر غير الجزائري من هذا الطريق، والذي تعول الجزائر عليه لاقتحام السوق الإفريقية التي تضم أكثر من 700 مليون نسمة من الدول التي سترتبط بالطريق، وهي تونس والنيجر وبوركينا فاسو ومالي ونيجيريا والبلدان المجاورة لها. 

وتتوقع جاهزية هذا الطريق بحلول نهاية عام 2021.

نشاط قطاع المقاولات الصيني بالجزائر شهد طفرة عام 2014، حيث ارتقى مستوى العلاقة بين البلدين إلى شراكة إستراتيجية شاملة، وهي الشراكة التي دفعت الشركات الصينية تجاه الحضور القوي والمضطرد للتوسع في قطاع الإسكان بالجزائر.

ثم توسع الحضور الصيني لتستأثر الجزائر وحدها بنحو 6 بالمئة من إجمالي الاستثمار الأجنبي الصيني في إفريقيا، حيث طالت الاستثمارات الصينية مشاريع البنية التحتية الأكبر، كتوسيع السكك الحديدية والطرق السريعة، علاوة على دور الشركات الصينية في بناء ميناء "شرشال" الجزائري، والذي يعد أحد أهم الموانئ البحرية هناك. 

وامتد الأمر لإنشاء مطار العاصمة الجديد، علاوة على الملعب الأولمبي في مدينة "وهران" (جنوب)، بالإضافة لإنشائهم أكبر سجن فيها كذلك. 

ومع وجود بيئة عمل مرحبة بالوجود الصيني، مضت الشركات الصينية نحو توسعة أنشطتها في قطاعات التعدين وإنتاج الإسمنت وتصنيع المعدات.

إلا أن الحضور الصيني الذي يرتكز على الاقتصاد تجاوزه نسبيا باتجاه العسكرة، علاوة على عدة مجالات أخرى، بينها جائحة "كوفيد 19"، حيث قدمت الصين للجزائر عدة مساعدات ضخمة قدرت شحنتها الأولى وحدها بنحو 420 ألف يورو، علاوة على إقامتها مستشفى ميدانيا وطاقم مستشارين طبيا ومعدات دعم طبي تخص مواجهة الفيروس القاتل.

ومع تطور الصناعات الدفاعية الصينية في الأعوام الأخيرة، باعت الصين للمؤسسة العسكرية الجزائرية أسلحة متنوعة، حيث كانت أول دولة إفريقية تستورد أنظمة الصواريخ الصينية المضادة للسفن من نوعَي C-802/CSS-N-8″"، وكذا راجمات متعددة الصواريخ من نوع "إس أر 5" التي لديها القدرة على إطلاق صواريخ موجهة، ومدافع هاوتزر ذاتية الدفع "LZ45" عيار 155 ملم، وتستخدم في التدريبات التكتيكية.

كما زودت بكين الجزائر بأنظمة صواريخ متطورة من الجيل الثالث "HJ-12" المضادة للدبابات، وكانت أول دولة إفريقية تحصل عليها. 

كما تسلمت الجزائر في أكتوبر/تشرين الأول 2018 المسيرات الصينية "سي إتش 3" و"سي إتش 4" مزدوجة المهام (استطلاع - قصف). 

ومع التوترات الجزائرية الأوروبية، وبعد حصولها على طراد "جيانج داو" المسمى جزائريا، "الفاتح" من شركة CSSC، وهي إحدى كبريات الشركات الصينية الكبرى لصناعة السفن والمعدات البحرية، اتفقت القوات المسلحة الجزائرية على تسليم دفعة طرادات عسكرية من المرتقب تسليمها خلال هذا العام.


ب. جهود احتواء الجزائر

يأتي القلق من ملف "شب الجزائر عن الطوق" من عدة جهات. 

الجهة الأولى أن الجزائر تواجه مشكلات جادة مع بعض الدول الأوروبية، وبخاصة فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، أولاها بسبب رفض الجزائر أن تكون مستعمرة فرنسية أو تابعا لاقتصاد باريس ومطالبها العسكرية؛ في ضوء استعلاء فرنسي مريب متعلق بماضي العلاقات بين البلدين، وينطوي على استهتار بأكثر من ملف حيوي.

من بين هذه الملفات، ملف النفايات النووية، وملف الألغام، وملف الاعتذار عن المجازر الفرنسية خلال الحقبة الاستعمارية، بالإضافة لعدد من الملفات الجيوإستراتيجية كالملفين الليبي والمالي. 

أما العلاقة مع إسبانيا وإيطاليا فترتبط برغبة البلدين الأوروبيين بالإفادة من حصة الجزائر في ثروة غرب المتوسط، ورفضها ترسيم الحدود البحرية معها، وتجاوز نقاط الخلاف بين الجزائر وإسبانيا حول جزيرة "كابريرا" أو مع إيطاليا حول جزيرة "سردينيا". 

وبرغم المساعي التفاوضية، إلا أن نشاطا جزائريا في "كابريرا" وصفته الحكومة الإسبانية بأنه "عملية غزو"، وهو أمر يدعم القلق الأوروبي من حمى شراء السلاح الجزائرية.

في هذا الإطار، أتى رد الفعل الأميركي بالتعاون مع الناتو من جهة، وفرنسا (بصفتها قيادة عملية برخان في منطقة الساحل الإفريقي) من جهة أخرى، للعمل من أجل احتواء ملف الجزائر، وتوفير أرضية لاحتواء المغرب العربي بشكل كامل، وإعادة بعض الهيبة الإقليمية لفرنسا. ويمكن الحديث عن أبرز ملمحين في هذا الإطار فيما يلي:

1. الأسد الإفريقي ومحاولات احتواء إس 400:

بعد عام من الإرجاء لأجل غير مسمى، بدأت في 7 يونيو /حزيران، تدريبات القيادة والأركان الدولية "الأسد الإفريقي 2021"، بقيادة القوات المسلحة الأميركية بمشاركة من قوات كل من تونس والسنغال والدولة المضيفة المغرب، بالإضافة إلى فرقة عمل جنوب أوروبا التابعة للجيش الأميركي (SETAF)، متضمنة مشاركة من المملكة المتحدة وهولندا وإيطاليا وكندا والبرازيل، إضافة إلى مراقبين عسكريين من 30 بلدا.

واستمرت عمليات التدريبات حتى 18 من نفس الشهر، في قاعدة عسكرية مغربية بمدينة "أغادير".

وبرغم اكتفاء البيان الرسمي بالإشارة إلى أن التدريبات المتنوعة برا وجوا وبحرا تقوم على أساس تفاعل عملياتي في مجال مكافحة المنظمات الإرهابية العنيفة، وتداريب التطهير البيولوجي والإشعاعي والنووي والكيميائي، يشير مراقبون روسيون إلى أن الهدف الأساسي للتدريبات يتمثل في اختراق الدفاع الجوي لدى عدو افتراضي مزود بتقنيات روسية الصنع. وأكد المراقبون أن منظومة الدفاع الجوي المستهدفة بالهجوم هي منظومة "إس-400" الروسية، والتي اشترتها الجزائر مؤخرا، وكان أول من طرح هذا الطرح المدون والمراقب العسكري الأميركي تيلور روجوواي في حسابه على "تويتر". 

ويدعم مراقبون هذه الوجهة بالإشارة لزيارة الجنرال "ستيفن تاونسند، قائد القوة الأميركية لإفريقيا "أفريكوم" إلى الجزائر في سبتمبر/أيلول 2020، موجها الجزائر لإبعاد منظومتي "إس 400" عن السواحل الجزائرية، ونقلها للعمق الصحراوي.

ويفيد مراقبون من عدة توجهات بأن وزارة الدفاع الأميركية تتجه لبناء رؤية ميدانية لمواجهة وتدمير أحدث أنظمة الدفاع الجوي بنجاح، وهي مساع تدريبية روتينية لمواجهة مستجدات إستراتيجية، وتميل هذه المساعي للتأكيد على قدرات الآلة العسكرية الأميركية وهيبتها، ووقف حمى شراء "إس 400". 

ويرى المراقبون أن هذا المسعى قد يكون بمثابة إعلان عن أسلحة ومعدات أميركية جديدة الصنع، أظهرت التدريبات أنها قادرة على مواجهة منظومات الدفاع الجوي الروسية، وبالتالي ينبغي شراؤها. 

هذا علاوة على تصور آخر يشير إلى "رسالة" لمشتري منظومة "إس 400" في المنطقة بأن فاعلية هذه المنظومة قد باتت تحت السيطرة، وأنه لا معنى لشرائها، أو استغلالها كورقة تفاوضية. 

فيما يفيد مراقبون آخرون أن هذه التدريبات لا تستهدف حربا ضد الجزائر أو حتى تركيا الشريكان في مكافحة الإرهاب، بل ضد "إس 400" وحسب، والتي لا توجد في المنطقة إلا في تركيا والجزائر.

كما يلفت مراقبون آخرون إلى أن أحد أهم أهداف هذه التدريبات تمثل في سحب قنابل التحصينات "جي بي يو" من حيازة الكيان الإسرائيلي، وهي القنابل الجديدة التي كانت الولايات المتحدة قد أرسلتها للدولة العبرية من أجل المساهمة في العمليات العسكرية ضد قطاع غزة.

وأكد هذا الفريق من المراقبين إلى أن كيان الاحتلال قد شارك في هذه المناورات عبر عملية لوجيستية قام خلالها بتزويد القوات المشاركة في التدريبات بمنظومة القنابل المضادة للتحصينات، كما يؤكدون أن الحاجة لهذه التحصينات تعلقت كذلك بمواجهة جهود حماية المنظومات الروسية، والتحصينات المخزنة فيها.

وبصرف النظر عن الاستجابات الجزائرية، والتي أتت في صورة جهود دفاعية متعددة الأبعاد، إلا أن هذه الاستجابات أدت إلى إنتاج حالة إصرار جزائري، وتمسك بالمنظومة، استنادا لمبدأ "السيادة"، ما يشي باحتمال تصاعد حدة الموقف في المستقبل، سواء عبر تعميق التدريبات، أو توسيع نطاق تسليح كل من المغرب وتونس، وتطوير منظومة تسليح "برخان".

2. مناورات بلونيزي وسابقاتها:

لم يعد الوضع قاصرا على الأميركيين وقيادتهم للتحالف لإخلاء المنطقة من منظومة "إس 400"، حيث شهدت المنطقة كذلك في 10 يونيو/حزيران مناورات مشتركة فرنسية إيطالية، حملت اسم "فالكون 50".

وأعلن بيان وزارة الدفاع الفرنسية أن التدريبات موجهة ضد الأهداف الأرضية والدفاعات الجوية. وشارك الكيان الإسرائيلي في هذه المناورات بتدريبات طائرات "إف 35"، لكن البيان الصادر عن تل أبيب أعلن أن التدريبات موجهة لتعزيز "القوة الإسرائيلية" في المواجهة مع إيران. 

غير أن وزارة الدفاع الروسية أكدت فشل مناورة "فالكون 2021" في أهدافها بخصوص "إس 400".

وأشار مراقبون كذلك إلى أن فرنسا قامت بمحاولة تدريبية منفردة مع القوات الأميركية في خليج غينيا، تلت "مناورات الأسد الإفريقي"، وقبل مناورة "فالكون 50"، واستخدمت فيها الولايات المتحدة قاذفات "بي 52". 

وقد انطلقت هذه التدريبات من البنية التحتية لعملية "برخان"، وتحديدا من "القاعدة 113" و"القاعدة 115" في النيجر، وأن خللا عملياتيا كشفته وزارة الدفاع الروسية، متبوعا بنفي فرنسي عن وجود أي خلل عملياتي في طلعات الطيران التي باشرتها طائرات "ميراج 2000" خلال مايو/أيار 2021، هو ما ألقى الضوء على محاولات التدريب في هذا الإطار.

فيما أكدت وزارة الدفاع الروسية أن التدريبات الفرنسية-الأميركية قامت على توفير غطاء جوي فرنسي لعملية قصف من خلال الطائرة "بي 52"، ولعل هذا يمثل التفسير الأكثر دقة لمشاركة إسرائيل بترتيبات لوجيستية لنقل قنابل "جي بي يو" لمسرح العمليات الإفريقي.

غير أن تراجع أداء طائرات "إف 16" الأميركية في الأسد الإفريقي، وأداء "ميراج 2000" في "عملية غينيا" أديا إلى تجديد الولايات المتحدة وفرنسا التدريبات على مسرح جديد هذه المرة، وهو مسرح الجزر الفرنسية "بولينيزي" في جنوب المحيط الهادي، وذلك باستخدام طائرات "إف 22" الأميركية و"رافال" الفرنسية، مع اختلاف التكتيك هذه المرة ليتمثل التكتيك الجديد في السيطرة على الفضاء المغاربي بدلا من استعمال الأجواء القتالية الدنيا. التدريبات الجديدة حملت اسم العملية "هيفارا - واكيا 2021".

وترجع التسمية المزدوجة ما بين ثقافة "الجزر التاهيتية" وثقافة "جزر هاواي"، إلى رغبة الطرفين الأميركي والفرنسي في إبعاد موضوع الجزائر عن تصورات المراقبين، وبخاصة بعد إصرار نفي الولايات المتحدة وفرنسا لحدوث تدريبات مواجهة "إس 400" انطلاقا من النيجر - غينيا. 

كما أشار البيان إلى أن العمل في المسرح الفضائي فوق طبقات "المجالات الجوية" يعني أن التدريبات ربما تتجاوز المسرح المغاربي. 

غير أن مراقبين يؤكدون أن التدريبات على المناورة من الطبقات الفضائية يهدف للسيطرة على المسرح المغاربي بشكل كامل، وهو ما تؤكده حالات اختراق المجال ما فوق الجوي للجزائر لاحقا في 22 يونيو /حزيران 2021، من جانب طائرات "إف 22" الأميركية.

3. حفتر على حدود الجزائر:

في 24 يونيو/حزيران، انتقلت 300 سيارة وآلية مسلحة من معاقل العسكري الانقلابي الليبي خليفة حفتر من شرق باتجاه "قاعدة تمنهنت" العسكرية (شمال شرق مدينة سبها)، وقامت لاحقا بإغلاق الحدود مع الجزائر، وأعلنتها "منطقة عسكرية"، في خطوة فُهمت على أنها رسالة "تحدٍ" مباشر للجارة الغربية لبلاده. 

تكونت القوة التي نفذت العملية من اللواء 128 معزز، واللواء التاسع (الكانيات)، المتهم بارتكاب جرائم حرب في مدينة ترهونة قبل طرده منها في 2020، ثم توجه قسم من عناصر هذه القوة باتجاه الغرب نحو الحدود الجزائرية، لتسيطر على "معبر إيسين/تين الكوم"، الفاصل بين مدينتي "جانت" الجزائرية و"غات" الليبية، واللتين تقطنهما قبائل الطوارق، التي كانت تسيطر سابقا على المعبر. 

وقد بررت مليشيا حفتر التحرك العسكري بملاحقة من وصفتهم بـ"الإرهابيين التكفيريين" وطرد عصابات المرتزقة الأفارقة.

أتت تحركات مليشيا حفتر بعد أيام من لقاء شرم الشيخ، الذي جمع رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي بولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والذي تحدث مراقبون عن أن الموقف الجزائري من ليبيا كان أحد عناوينه. 

كما أتى التحرك بعد 10 أيام من تصريح الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بأن بلاده كانت ستتدخل لمنع سقوط العاصمة طرابلس في يد المرتزقة، حيث صرح في مقابلة مع قناة "الجزيرة" القطرية: "لم نكن لنقبل أن تكون طرابلس أول عاصمة مغاربية وإفريقية يحتلها المرتزقة.. كنا سنتدخل آنذاك". 

كما جاءت خطوة حفتر بعد أيام قليلة على تفاهمات كبيرة بين الجزائر وحكومة الوحدة الوطنية الليبية، بقيادة عبد الحميد الدبيبة، حيث تم الاتفاق على فتح معبر الدبداب الجنوبي، وإطلاق خط للنقل البحري، لتفعيل المبادلات التجارية، علاوة على توقيع اتفاقيات عدة تتعلق بمحاربة الإرهاب، وتأمين الحدود المشتركة، ومكافحة التهريب والجريمة المنظمة وتجارة السلاح والبشر.

ويقيم مراقبون تحركات مليشيا حفتر باعتبارها تطورا نوعيا في الموقف الأميركي - الفرنسي من المنطقة، وأن توظيف هذه القوات بهذه الصورة يأتي في إطار العمل على إشراك حفتر وقواته، في مسرح عمليات "برخان" وهو ما يعتبر نصرا تكتيكيا لـ"حفتر". 

ويرون أن حفتر استغل هذا الوضع الجديد، والذي أسبغ مشروعية على قواته، وحرص على تزويدها بعتاد نوعي يرتقي بوضع قواته من "وضع المليشيا" إلى "وضع جيش دولة"، في استعراض قوته داخليا، ولكن على حساب الجزائر.

ذهبت بعض التحليلات للاعتقاد أن تحريك حفتر لمليشياته من شرق البلاد إلى غاية أقصى الجنوب الغربي لم تكن إلا بضوء أخضر أميركي أو فرنسي، بهدف استفزاز الجزائر أو إشغالها، وابتزازها في عدة ملفات، بينها "امتلاكها" لمنظومة صواريخ "إس 400" المضادة للطيران، والتي تثير قلق واشنطن وحلفائها، سواء في غرب البحر الأبيض المتوسط، أو حتى في منطقة الساحل الإفريقي. 

ويدعم هذا التوجه أن حفتر قام بنشر طائرات "ميج 25" (جديدة على قواته) على الحدود الجزائرية، ما اعتبرتها روسيا طائرات بيلاروسية لأن نظيرتها الروسية خرجت من الخدمة في 2013. 

هذا علاوة على توفير الإمارات لسلاح "إسرائيلي" جديد لمليشيا "حفتر، وهو سلاح راداري "كراتسوخا 4"، الذي يلعب دورا في مقاومة التشويش الإلكتروني، وهو ما يرجح أن وجوده بمثابة استعداد لمواجهة الجزائر التي قد تعتمد على طرح روسيا بمواجهة الهجوم على "إس 400" بالتشويش على رادارات "إف 35" بصرف النظر عن تقييم الخبراء لنجاعة هذا النظام في مواجهة أنظمة التشويش التي تمتلكها الجزائر، سواء أكانت روسية المصدر أو تركية.


خاتمة

نخلص عبر هذه الدراسة إلى أن الحضور الروسي - الصيني في الجزائر "مقلق"، وهو ما دفع الولايات المتحدة للاتجاه نحو الضغط على الجزائر؛ لوقف استدعاء الروس والصينيين للمنطقة.

ومن جهة أخرى، فإن العدوانية البادية في السلوك الجزائري تجاه مخططات استغلال ثروات غرب المتوسط، وبخاصة تلك الخطوة التي أقدمت عليها في جزيرة "كابريكا" المتنازع عليها مع الإسبان، واحتمال تجدد مثل هذا الخلاف في مواجهة إيطاليا، يدفع "الناتو" للحذر، وللتعامل بحساسية مع السلاح النوعي الجزائري، خاصة وأن هذا السلاح أصبح بمقدوره تهديد التراب الأوروبي عبر القوة الجزائرية البحرية.

ومن جهة ثالثة، فإن التهديد، الذي يمكن أن يكون بمثابة إنذار لتركيا أيضا، لا ينطوي على التطرق لحرب شاملة في مواجهة الجزائر الشريكة في مكافحة الإرهاب، لكن تصاعد وتيرة التدريبات، واتساع نطاق المشاركة فيها بين الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا، ومشاركة قوات "برخان" فيها بين السنغال والنيجر، ودخول دول عربية للساحة مثل المغرب، يشي بأن واشنطن ترى في "إس 400" تهديدا قويا للوجود الغربي في غرب إفريقيا، وبالنسبة لأمن جنوب "الناتو".

ويبدو دخول حفتر على الخط، وإغلاقه "معبر إيسين/تين الكوم"، الفاصل بين مدينتي جانت الجزائرية وغات الليبية، هو اتجاه لإضافة تموضع جديد لاحتواء الجزائر، وذلك بالنظر لنوعية السلاح الموجود مع "حفتر" على الحدود، سواء البيلاروسي أو الإسرائيلي.