الأزمة الاقتصادية في لبنان.. الجذور والمدى والتأثير

قسم البحوث | 3 years ago

12

طباعة

مشاركة

المحتويات

المقدمة

جذور أزمات لبنان الحديث

اقتصاد ما بعد الحرب الأهلية ودوّامة الدّين

أولا - شكل نظام الحكم

ثانياً - السياسات المالية والنقدية المُشوّهة

الانهيار الاقتصادي الحالي، المدى والتأثير

خاتمة واستنتاج


مقدمة

كان انفجار المواد الكيميائية في ميناء بيروت أغسطس/ آب 2020، أحدث فصل في سلسلة الأحداث الكبرى التي يشهدها لبنان، والتي كان لها تأثير كبير على الانهيار الاقتصادي الذي يشهده اقتصاد البلد العربي الآسيوي على مدى السنوات الماضية.

منذ العام 2011، يشهد اقتصاد لبنان تراجعا ملحوظا في النمو الاقتصادي، فبعد أن حقق نموا بمعدل وسطي يبلغ 5.8 بالمئة خلال العقد الأول من الألفية الجديدة؛ تراجعت معدلات النمو خلال السنوات الـ10 الماضية.

ذلك التراجع خاصة بدأ من العام 2015، إذ حقق الاقتصاد اللبناني معدل نمو بنسبة 0.21 بالمئة في ذلك العام، وبنسبة 1.63 و0.85 بالمئة في العامين (2016 - 2017)، قبل أن ينزلق إلى الانكماش بنسبة 1.92 و5.63 بالمئة في عامي (2018- 2019) تواليا.

يعتمد الاقتصاد اللبناني بشكل كبير على قطاع الخدمات، كما يرتكز اقتصاده بشكل كبير على واقع جواره، فمن جهة أولى يتنفس لبنان من خلال سورية منفذه البري الوحيد تجاه جواره المباشر.

ومن جهة أخرى يمده جواره، وبخاصة في دول الخليج، بالدخل من خلال السياحة والاستثمار والتحويلات الخارجية كذلك.

نتيجة لذلك، تبدو واضحة معاناة الاقتصاد اللبناني من عواقب التراجع الاقتصادي في الخليج الذي أعقب الانخفاض في أسعار النفط، وكذلك من تأثيرات الأزمة السورية وغيرها من التوترات السياسية الإقليمية.

بعد عامين متتاليين من الركود، من المرجح أن يكون انكماش النشاط الاقتصادي عام 2020 شديدا للغاية، إذ تشير تقديرات ​صندوق النقد الدولي​ إلى انكماش ​الناتج المحلي​ الإجمالي الحقيقي بنسبة 25 بالمئة في 2020، وهو ثالث أسوأ أداء على مستوى العالم بعد ​فنزويلا​ و​ليبيا.

آثار هذا الانكماش جليةٌ للغاية، ولعل أبرزها ظهر في 7 مارس/ آذار 2020، حين أعلن مجلس الوزراء اللبناني قراره "تعليق" سداد سندات "يوروبوند" بقيمة 1.2 مليار دولار، وهو التخلف الأول في تاريخ البلاد عن دفع ديونه، في ظل الأزمة المالية التي يعيشها لبنان المثقل بالديون.

إذ يرزح البلد تحت ديون تصل قيمتها إلى 92 مليار دولار، نحو 170 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي بحسب وكالة التصنيف الائتماني "ستاندر أند بورز"، وتعد هذه النسبة من بين الأعلى في العالم.

منذ بداية العام 2020، كان لأزمة ميزان المدفوعات تأثيرات كبيرة على الاقتصاد المحلي، ولعل أبرز تأثيراتها كانت في السقوط الحر الذي تشهده الليرة اللبنانية.

وبعد أن حافظت الليرة على سعر صرف مستقر لما يقرب من 20 عاما عند حوالي 1500 ليرة للدولار الأمريكي الواحد، فإن الليرة اللبنانية تسجل يوميا تراجعات قياسية.

 ففي 9 يوليو/ تموز 2021، لامس سعر صرف الدولار مقابل الليرة حاجز 19.400، مرتفعا بنحو 1700 ليرة في أقل من 24 ساعة في السوق الموازي، في حين ما زال السعر الرسمي المحدد من المصرف المركزي عند 1510 ليرات.

في بلد يعتمد على الاستيراد بشكل كبير مثل لبنان، فإن فرض قيود على الاستيراد بسبب أزمة ميزان المدفوعات سوف تكون له انعكاسات كبيرة على الحياة اليومية لمواطنيه، وبخاصة من ناحية الارتفاع الكبير في معدلات التضخم الذي يشهده البلد اليوم وتراجع القدرة الشرائية، وبالنتيجة انتشار الفقر.

بالفعل أظهرت دراسة تم إنجازها في أغسطس/ آب 2020، صادرة عن لجنة الأمم المتحدة الاجتماعية والاقتصادية لغربي آسيا "إسكوا"، تضاعف نسبة الفقراء في لبنان، إذ وصلت نسبة الفقر إلى 55 بالمئة عام 2020، بعد أن كانت 28 بالمئة في 2019، فضلا عن ارتفاع نسبة الذين يعانون من الفقر المدقع بـ 3 أضعاف من 8 إلى 23 بالمئة خلال الفترة نفسها.

إذن هي أزمة طاحنة بكل المقاييس يعيشها هذا البلد الصغير المثقل بالديون، وهي أزمة لها أبعاد، وكذلك أسباب، سياسية اقتصادية اجتماعية متداخلة ومتشابكة.

وتهدف هذه الورقة إلى البحث في أسباب وتأثيرات الأزمة الحالية التي يعيشها لبنان اليوم، وكذلك الغوص في جذور هذه الأزمة.


جذور أزمات لبنان الحديث

لقد تم وضع الأسس الأولى لهذا النظام اللبناني الموجود حاليا منذ العام 1861، مع إنشاء نظام المتصرفية في إطار الدولة العثمانية وبإشراف قناصل خمس دول أوروبية.

كان على رأسهم القنصل الفرنسي، بالإضافة إلى قناصل روسيا، بروسيا، إنجلترا والنمسا، وهو النظام الذي مَكّن الأسس الطائفية التي تُميز لبنان حتى اليوم.

وكان للسياسات الدولية الدور الأكبر، وبغض النظر عن مصالح اللبنانيين، في توجيه لبنان في مراحل تطوره المختلفة التي مر بها منذ أواسط القرن الـ19 وحتى اليوم.

ودائماً ما كانت الدول المختلفة تعمل على الاستفادة من النظام الطائفي الذي وضعت أسسَه في هذا البلد من خلال دعم نفوذ الطوائف، أو النخب، في سبيل تحقيق مصالحها.

تُوجت السياسات الاستعمارية الأوربية، والفرنسية خاصة، بإعلان دولة لبنان الكبير عام 1921 بعد انهيار الدولة العثمانية.

وعملت هذه السياسات، لتحقيق مصالحها، على تمكين بيروت لتكون المرفأ والمتجر والمصرف والجسر، وبوابة المشرق لأوربا، ومركزا للتسوق والسياحة والتجارة والدراسة.

كما عملت على تنشئة طبقات حاكمة تتلاءم مع حاجاتها، من كبار التجار ووكلاء الشركات الأوربية، ومن الصيارفة والمرابين الذين تحول بعضهم إلى أصحاب مصارف مرتبطة بالسوق المالية الأوروبية.

في مرحلة الاستقلال، عمل الميثاق الوطني لعام 1943 على ترسيخ أسس النظام الحالي القائم على تقاسم السلطة بين الطوائف اللبنانية، والذي بموجبه توافق اللبنانيون، بشكل عرفي، على توزيع السلطة.

وبموجبه يحصل المسلمون الشيعة على رئاسة البرلمان، والمسلمون السنة على رئاسة الوزراء، وينتخب النواب رئيس الجمهورية، الذي يجب أن يكون مسيحيا مارونيا.

طبقة النخبة الحاكمة، التي وُضعت الأساسات لها في فترة الاستعمار، تمكنت من زيادة نفوذها في فترة الاستقلال، وهو ما يُشير إليه الباحث فواز طرابلسي في كتابه "تاريخ لبنان الحديث"، والذي تحدث عن "الكونسورتيوم" الذي استولى على السلطة الاقتصادية بعد الاستقلال.

ويقول طرابلسي: إن 35 أسرة لبنانية تمكنت من السيطرة بشكل مبهر على اقتصاد البلاد ونجحوا في احتلال مواقع مسيطرة في جميع قطاعاته.

في القطاع المصرفي سيطرت هذه الأسر على المصارف، وأبرزها بنك "سورية ولبنان" صاحب امتياز إصدار العملة وإدارة مالية الدولة والمُسيطر على حركة التسليف والمبادلات التجارية مع فرنسا.

كما سيطر هذا "الاتحاد" على أكبر شركة تأمين في البلاد بالشراكة مع رؤوس الأموال الفرنسية، وسيطروا كذلك على الحصة الأكبر من السوق المحلي في مجال الاستيراد، إضافةً إلى سيطرتهم على قطاع السياحة من خلال امتلاكهم لأكبر الفنادق والمنتجعات في لبنان.

في حين كانت لهم اليد العليا في قطاع الخدمات، إذ سيطروا بالشراكة مع رأس المال الفرنسي أيضا على الشركات ذوات الامتيازات وشركات الخدمات العامة.

وكانوا يُسيطرون على شركة مرفأ بيروت، شركات المياه والكهرباء، شركة التبغ والتنباك "الريجي"، إلى جانب امتلاكهم لشركتي الخطوط الجوية اللبنانية وشركة الشرق الأوسط للطيران.

وللتدليل على حجم هذا "الكونسورتيوم"، يُشير طرابلسي إلى أن ثروات 15 أسرة فقط من هذا "الاتحاد" كانت تُقدر بما يُقارب 245 مليون ليرة لبنانية عام 1949، وهو ما يُعادل تسعة أضعاف خزينة الدولة، وأكثر من 40 بالمئة من ناتج لبنان المحلي.

ومن خلال سيطرة هذه "النخب" على الاقتصاد، عملت هذه الطبقة على فرض سيطرتها على المناخ السياسي في البلاد، من خلال دخول البرلمان والوزارات، وسيطرتهم المباشرة أو عبر وكلائهم على أهم المفاصل في الدولة.

يُشير طرابلسي، إلى أنه في عهد الرئيس بشارة الخوري (أول رئيس جمهورية في لبنان، 1943 – 1952)، كان 36 نائبا في البرلمان يملكون أكبر 230 شركة في البلاد أو أصحاب حصص راجحة فيها.

الاقتصاد الحر، القائم على التجارة الحرة، والتدفق الحر لرؤوس الأموال، وسعر الصرف الحر، كان إحدى السمات الرئيسة للجمهورية اللبنانية الوليدة فيما بعد الاستقلال عن فرنسا.

وخدم هذا النموذج لبنان إلى حد كبير، إذ إن تطور لبنان النسبي مقارنة بمحيطه، وبخاصة من حيث البنية التحتية الخدمية التي كان يفتقدها الكثير من دول جواره، مكّنه من تحقيق ازدهار اقتصادي كبير.

كما أن تقدم نظامه المصرفي على جميع أنظمة منطقته جعله يلعب أدوارا وسيطة هامة حتى بات يُعرف بـ"سويسرا الشرق"، كما وضعت حرية أسواق العملات ورأس المال بيروت في مركز الخدمات المالية الإقليمية.

وبفعل أدواره الوسيطة التي لعبها، كثيرا ما استفاد لبنان من الأزمات والاضطرابات التي كانت تحدث في جواره.

استفاد لبنان بشكل كبير من الاضطرابات التي حدثت في فلسطين وقيام دولة الكيان الصهيوني، إذ أدى إغلاق ميناء حيفا إلى انتعاش ميناء بيروت بشكل كبير كمركز هام للتجارة الإقليمية.

 كما ازدهر القطاع المصرفي اللبناني مع وصول رأس المال الفلسطيني بعد النكبة واختيار بيروت قاعدة جديدة للبرجوازية الفلسطينية.

كما تمكّن لبنان في خمسينيات وستينيات القرن الـ20، بفضل بنيته الاقتصادية وطبيعة اقتصاده الحر، من جذب رؤوس الأموال من مصر وسوريا والعراق.

والتي تدفقت بسبب السياسات الاشتراكية التي اتبعت هناك، إذ أُممت المُلكيات وقيدت تدفقات رؤوس الأموال والتجارة بهدف "حماية الصناعات المحلية".

وتمكن بالنتيجة الاقتصاد اللبناني من تحقيق نمو اقتصادي كبير في ستينيات القرن الـ20 وبداية السبعينيات، ونما الاقتصاد بنسبة 5.8 بالمئة وسطيا خلال العقد الذي سبق فترة الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990).

وعلى الرغم من أن المؤشرات الاقتصادية الكلية التي حققها الاقتصاد اللبناني في تلك الفترة كانت تُوحي بأنه يعيش فترة ذهبية، إلا أنه كان يُخفي الكثير من الاختلالات الهيكلية.

فمن جهة، فقد انطوى النموذج الاقتصادي القائم آنذاك على أوجه قصور بنيوية في طبيعته، وهو ما أشار إليه بشكل مُثير للإعجاب الخبير الاقتصادي الأميركي بنيامين هيغينز في تقرير أعده عام 1960 لحكومة الرئيس فؤاد شهاب.

وأشار في تقريره مرارا إلى "الفرادة" و "الغرابة" التي يتسم بها الاقتصاد اللبناني، متطرقا إلى القضية المركزية التي تواجه لبنان آنذاك، وهي حول ما إذا كان سوف ينجح في خلق اقتصاد وطني، أم أنه سيبقى ملحقا ماليا وتجاريا وخدميا للاقتصادات الأخرى؟.

ولعل هذا التساؤل، في جوهره، كان القرار الذي يواجه النخبة اللبنانية عشية الاستقلال، والذي تم تسويته بشكل حاسم لصالح الخيار الأخير.

ومن جهة أخرى، فإن تقاسم السلطة القائم على أسس طائفية، والتي ضمنها الميثاق الوطني لعام 1943، والذي على الرغم من أنه مكّن الحرية الاقتصادية، والسياسية، التي عاشها لبنان ما بعد الاستقلال، إلا أنه ساهم في إضعاف الدولة.

وبخاصة لجهة اتباع سياسات اقتصادية فعالة على الصعيد الاجتماعي، إذ إن اقتصاد الحد الأدنى من التدخل الذي لطالما اتبعته الدولة اللبنانية الحديثة، دائما ما كان مصدرا رئيسا للأزمات بسبب ما ينتج عنه من انعدام العدالة وتوسع التفاوتات الطبقية.

قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975، كان يظهر للبعض أن لبنان يمضي نحو الازدهار، وأن اللبنانيون يعيشون في رخاء، في ظل نظام تجاري نابض بالحياة، ودخل فردي مرتفع مقارنة بدول الجوار، واقتصاد نام بمعدلات عالية.

إلا أن كل ذلك كان يخفي واقعا أكثر قتامة، نظام سياسي قائم على تقاسم طائفي للسلطة، غذّى النمو غير المتوازن (قطاعيا وإقليميا)، وساهم في ازدهار اللامساواة وعدم العدالة الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية التي ساهمت في تمكين المظالم وزيادة احتمال اندلاع الحرب.


اقتصاد ما بعد الحرب الأهلية ودوّامة الدّين

اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975، ودامت لأكثر من 15 عاما، من أبريل/ نيسان  ذلك العام إلى أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1990.

وبشأن المدة والخسائر المادية والبشرية التي تسببت بها، تُعتبر الحرب الأهلية اللبنانية أحد أكبر الحروب التي شهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى أواخر القرن الـ20.

قبل اندلاع الحرب، كان الاقتصاد اللبناني يسير بسلاسة بمعدلات نمو عالية، وإذا ما أخذنا ذلك في الاعتبار، يجدر هنا طرح سؤال محوري، مفاده أنه لماذا لم يتمكن الاقتصاد من إعادة الإقلاع بعد انتهاء الحرب؟.

الإجابة المبسطة لهذا التساؤل هو أن نتائج الحرب اللبنانية كانت مدمرة للغاية لعمل الاقتصاد، فمن جهة تُشير التقديرات إلى أن الخسارة التراكمية للإنتاج والدخل الحقيقي (فقدان الإنتاج المحتمل) الناجمة عن الحرب بلغت حوالي 24 مليار دولار أميركي.

ومن جهة أخرى عانى الاقتصاد من دمار هائل في مخزون رأس المال، وتشير التقديرات إلى أن مجموع الأصول المادية التي دمرت خلال الحرب بلغت حوالي 25 مليار دولار أميركي.

بالإضافة إلى ذلك، أدت الحرب إلى تدمير قدر كبير من رأس المال البشري، من خلال خسائر الحرب أو الهجرة، إذ تُقدر الوفيات المرتبطة بالحرب بـ 131 ألف وفاة، في حين تُشير التقديرات إلى أن ما يُقارب نصف مليون شخص هجروا لبنان بسبب الحرب.

إن التضخـم الشـديد الـذي بـدأ فـي الثمانينيـات واسـتمر حتى العام 1992، نتيجـة انهيار الليرة اللبنانية، ساهم، بشكل مقصود، في نقل كميـات هائلـة مـن الثـروات مـن العمـال إلـى النخـب الاقتصاديـة.

وباختصـار، بيـن عامي (1984 – 1992) انخفضت قيمـة الليرة اللبنانية بشكل دراماتيكي مـن 4.5 ليرة للدولار الواحد، إلى 1800 ليرة للدولار الواحد عام 1992، وهو انهيار مهول ومشبوه إلى حد كبير.

إذ كان ناتجـا بشكل كبير عـن مضاربـات قامـت بهـا المصـارف اللبنانيـة ضـد الليـرة اللبنانيـة وفـي الوقـت عينــه كانت تقوم بتكديس العملات بالدولار الأميركي، بالإضافة إلى تقديم القروض إلى عملائها المفضلين بالليرة اللبنانية من أجل أن يتمكنوا من شراء دولارات أميركية.

وأدت هذه المضاربات إلى تبخر مدخرات الطبقة الوسطى وأفسحت المجال أمام رأس المال للسيطرة على الاقتصاد اللبناني.

وتُشير التقديرات إلى أن الحرب تسببت بإحداث عملية إعادة توزيع ضخمة للدخل، وبخاصة لجهة تخفيض نصيب الأجور من إجمالي الدخل من نسبة (50 – 55) بالمئة ما قبل الحرب، إلى حوالي (15 – 25) بالمئة في نهايتها.

كان الاقتصاد اللبناني ما قبل الحرب اقتصادا تهيمن عليه الخدمات، البنوك والتجارة والسياحة، وهي قطاعات تحتاج رأس مال بشري مؤهل ومدرب لازدهارها، وكانت الطبقة المتوسطة في لبنان مصدرا رئيسا لهذه الموارد المؤهلة.

وكان السكان الشباب يستثمرون بشكل كبير في رأس المال البشري لتزويد سوق العمل بقوة عاملة ذات مهارات عالية ليتمكن الاقتصاد من تحقيق نمو اقتصادي سريع.

وهو ما افتقده الاقتصاد بعد الحرب بسبب رئيس يتمثل بتدهور الطبقة الوسطى، وانخفاض جودة التعليم، وهجرة الكفاءات.

انطلقت إعادة إعمار لبنان رسميا في العام 1992، مع تولي رفيق الحريري رئاسة الحكومة اللبنانية شرعت تلك الحكومة على الفور بوضع خطة لإعادة الإعمار في لبنان سُميت "هورايزون 2000" وتكونت هذه الخطة الطموحة من برنامج واسع للإنفاق الاستثماري لتحقيق أهداف الاقتصاد الكلي في الفترة من (1993 إلى 2007).

خلال الفترة الأولى من إعادة الإعمار، يمكن القول أن الاقتصاد اللبناني حقق ما بين العامين (1992 - 1998) بعض النشاط الناتج عن استثمارات إعادة الإعمار.

وتمكنت حكومة الحريري من تحقيق نمو اقتصادي بمعدل وسطي بلغ 6.3 بالمئةخلال الفترة مدعوما بتجدد الثقة في الاقتصاد وارتفاع النفقات العامة الجارية والرأسمالية.

ومع ذلك، من الواجب القول أنه، وعلى الرغم من تحقيق الاقتصاد اللبناني طفرة "محدودة" في النمو الاقتصادي خلال فترة إعادة الإعمار تلك، إلا أنها كانت الفترة التي بدأت فيها كرة الدين العام بالتدحرج والنمو.

كما أنه، من ناحية أخرى، لم تكن طفرة النمو التي شهدها الاقتصاد آنذاك مستقرة بطبيعة الحال، وهذا مرده إلى عدم الاستقرار المالي من جهة، ومن جهة أخرى لأن خطة إعادة الإعمار كانت عبارة عن سلسلة من المشاريع بدلاً من أن تكون خطة شاملة للتنمية أو إعادة الإعمار.

وفي الوقت الذي لم يتم اعتمادها بكليتها كان يتم اعتمادها مشروعا تلو الآخر خلال فترات حكومة الحريري الذي خرج من رئاسة الحكومة مع انتخاب قائد الجيش العماد إميل لحود لرئاسة الجمهورية في العام 1998.

بعد انتخاب إميل لحود لرئاسة الجمهورية في نوفمبر/ تشرين الثاني 1998 وخروج رفيق الحريري من رئاسة الحكومة، تم اختيار الاقتصادي المخضرم سليم الحص لخلافة الحريري.

صاغت حكومة الحص آنذاك خطة تقشف تهدف إلى وقف نمو العجز العام والديون، إلا أن الاقتصاد اللبناني دخل في حالة من الانكماش على صعيد حركتي الاستثمار والاستهلاك، ما أثّر على الحركة الاقتصادية وعلى الواردات المحققة في المالية العامة.

وأمام هذا التراجع في الأداء الاقتصادي، زاد العجز المالي وارتفع الدين العام إلى حدود 146 بالمئة من حجم الناتج المحلي نهاية العام 2000 ، في حين أن النسبة كانت 5.15 بالمئة في قبل اندلاع الحرب في العام 1973، وأقل من 44 بالمئة في العام 1981 قبل الاجتياح الإسرائيلي .

معدل النمو، ومعدل الدين والعجز الحكومي إلى الناتج المحلي في لبنان في الفترة 1992 - 2000

المصدر: قاعدة بيانات صندوق النقد الدولي

أعادت الانتخابات النيابية لعام 2000 رفيق الحريري إلى السلطة مجددا، وفي ذلك الوقت كانت أزمة الدين العام توسعت وبدأت تتحول إلى أزمة هيكلية أكثر منها أزمة طارئة، مهددة بتقويض معظم إنجازات فترة النمو التي شهدتها حكوماته الثلاث الأولى (1992 – 1998).

كما كانت الأزمة الاقتصادية التي شهدها لبنان آنذاك متوازية مع أزمة سياسية متعددة الأبعاد بدأت تطفو على السطح.

فمن جهة بدأت تظهر خلال تلك الفترة تصدعات العلاقة بين مختلف الطوائف نتيجة الأزمة المالية للدولة وعدم قدرتها على الاستمرار في إرسال موارد الدولة لقنوات التوزيع التي جرى إنشاؤها في فترة ما بعد الحرب.

 كما أنه بدأت تتشكل في تلك الفترة بداية الحركة الوطنية الناشئة لمناهضة الوجود السوري في لبنان، وكذلك، إلى حد ما، لمناهضة اتفاق الطائف.

كما شهدت تلك الفترة أيضا صراعا مستمرا على السلطة بين رئيس الجمهورية، المُقرب من سوريا، إميل لحود، ورئيس الوزراء القوي رفيق الحريري، وهو صراع أعاق الأداء السليم لمؤسسات الدولة، وبخاصة أعمال الحكومة.

 هددت هذه الأزمات الاقتصادية السياسية الاقتصاد بالانهيار التام، وبعد تأليف حكومته الرابعة، وضعت حكومة رفيق الحريري برنامجا إصلاحيا يرتكز على تحفيز القطاع الخاص ليكون المحرك الأساسي للنمو، وتعزيز المؤشرات المالية ووضع حد لتزايد الدين العام مع الحفاظ على الاستقرار النقدي وضبط نسب التضخم.

وعلى التوازي، ذهب الحريري إلى حل المساعدات الخارجية الذي كان من شأنه أن يؤجل انهيار الاقتصاد ويعزز موقفه في مواجهة الرئيس لحّود.

وبادرت الحكومة آنذاك إلى طرح فكرة عقد اجتماع دولي لدعم لبنان اقتصاديا وماليا، فاستجاب المجتمع الدولي والهيئات المانحة وعقد مؤتمر "باريس 1"، في فبراير/ شباط 2001 في قصر الإليزيه برعاية الرئيس الفرنسي جاك شيراك.

نتج عن هذا المؤتمر تعهد المجتمع الدولي بتقديم 500 مليون يورو على شكل مساعدات وقروض ميسرة للبنان، كما اتفقوا على أن يتم تنظيم مؤتمر آخر موسّع، وهو المؤتمر الذي عرف بمؤتمر "باريس 2 " وعقد في نوفمبر/ تشرين الثاني 2002 .

والذي أظهر دعما مثيرا للإعجاب من الحكومات والمنظمات الدولية الكبرى للبنان ونجح في تزويد البلد بـ10 مليارات دولار كانت كفيلة بتفادي أزمة مالية وشيكة وأدى إلى عودة الثقة في الاقتصاد اللبناني من جديد.

إلا أن الأزمة السياسية في البلد كانت اشتدت وانتهت باغتيال رفيق الحريري في 14 فبراير/ شباط من العام 2005 وانسحاب القوات السورية في أبريل/ نيسان من نفس العام، إضافة إلى إقفال ملف إعادة الإعمار فعليا.

على عكس التجارب التاريخية لما بعد الصراع لبلدان شهدت حالة مماثلة من الدمار الهائل لمخزون رأس المال والأصول المادية، كان أداء الاقتصاد اللبناني ما بعد الحرب ضعيفا وهزيلا مترافقا مع تباطؤ في الاستثمار والاستهلاك.

ولعل فشل الاقتصاد في تحقيق معدلات نمو عالية وتراجع تكوين رأس المال في فترة إعادة الإعمار حد من إمكانياته في تحقيق نمو طويل الأمد، وهو ما يمكن ملاحظته من أن طفرة إعادة الإعمار كانت "محدودة ومتذبذبة" واستمرت فقط حتى عام 1998.

إن حاجة الاقتصاد اللبناني إلى تحقيق طفرات نمو فيما بعد انتهاء الحرب الأهلية لم تكن مدفوعة فقط بالحاجة إلى سد الفجوة التي تسببت بها الحرب والعودة إلى مستويات إنتاج البلد قبل اندلاعها، بل كانت حاجة حيوية.

وكذلك مرتبطة بأن يكون هذا النمو مرتكزا أساسيا لسياسات إعادة توزيع الأصول والدخول التي اختلت بشدة خلال الحرب، وبما يهدف إلى تمويل إعادة الإعمار والتنمية.

وأيضا التخفيف من حدة الفقر وعدم المساواة واضعا الأسس لعقد اجتماعي جديد، وهو ما لم يتحقق في لبنان حتى اليوم. وكانت أسباب الفشل في تحقيق لبنان لذلك متعددة الأوجه:

أولاً - شكل نظام الحكم:

على الرغم من أن اتفاق الطائف الذي تم توقيعه في العام 1989 أنهى الحرب الأهلية في لبنان، إلا أنه ساهم في التأسيس لنظام حكم إشكالي للغاية في هذا البلد، وفي تشويه الحكم فيه إلى حد كبير.

بسبب طبيعة التركيبة التي وضعها اتفاق الطائف من جمع طوائف متعددة مختلفة إيديولوجيا باستمرار على مائدة واحدة لتقاسم السلطة، غالبا ما كان يتم إدارة لبنان، واقتصاده بطبيعة الحال، من خلال حكومات الوحدة الوطنية.

تلك الحكومات التي شهد البلد اعتمادا مفرطا عليها في فترة ما بعد الحرب الأهلية، وبخاصة بعد اغتيال الحريري.

ولعل المشكلة الرئيسة التي يُثيرها هذا الشكل من الحكومات، بحكم طبيعتها وتضارب المصالح في كثير من الأحيان بين الأحزاب السياسية التي يمثلونها، أنها تشل الدولة ولا تستطيع أن تتبنى أي سياسات متماسكة من أجل الصالح العام.

اتفاق الطائف رعى الطائفية وحماها، الطائفية التي أصبحت موجودة في جميع مفاصل البلد الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية، كما مكّن زعماء الحرب والطوائف من حماية أنفسهم وامتيازاتهم إلى أكبر قدر ممكن.

وزودهم بمختلف الوسائل اللازمة لإثراء أنفسهم على حساب الأغلبية، كما يكتب عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان، أن "النموذج الاقتصادي لما بعد الحرب يضع أصحاب الدخل في مواجهة البقية".

ثانياً - السياسات المالية والنقدية المُشوّهة:

في الفترة التي تلت انتهاء الحرب جرى اتباع سياسات مالية توسعية مدفوعة بأهداف واحتياجات إعادة الإعمار في البلاد، سياسيا واقتصاديا.

وأدى ذلك إلى نفقات حكومية ضخمة في تلك الفترة وهو ما تسبب بحدوث عجز مزمن في الميزانية، وبخاصة في ظل عدم مواكبة الإيرادات الحكومية للنمو في الإنفاق.

إن "الإصلاحات الضريبية" التي تم تطبيقها خلال بداية إعادة الإعمار قامت على خفض معدلات الضرائب المباشرة على الدخل والأرباح، إذ جرى تخفيض أعلى معدل ضريبة على الأرباح من 50 بالمئة إلى 10 بالمئة.

كما تم تخفيض أعلى معدل ضريبة على الأجور من 32 بالمئة إلى 10 بالمئة، وأصبح معدل ضريبة الشركات ثابتا عند نسبة 10 بالمئة.

وعلى الرغم من اشتداد الأزمة المالية للدولة، بقيت الضرائب غير المباشرة المصدر الرئيس لإيرادات الدولة، في محاباة واضحة للنخبة الاقتصادية على حساب البقية من اللبنانيين.

وفيما يتعلق بالسياسات النقدية، كان الدور الذي لعبه البنك المركزي في فترة ما بعد الحرب سلبيا للغاية في تحجيم طفرة النمو التي شهدها الاقتصاد في بداية إعادة الإعمار، وفي خلق اقتصاد ريعي على المدى الطويل.

إذ لعب مصرف لبنان دورا أساسيا كوسيط بين مصالح الدولة ومصالح البنوك التجارية، وهم الذين يلعبون كأساسيين في لعبة مستمرة حتى اليوم.

بدأت هذه اللعبة عام 1992، إذ سمح البنك المركزي للبنوك التجارية بتحويل النمو الهائل في ودائعها إلى أرباح آمنة ومستقرة من خلال الاستثمار في أذونات الخزانة اللبنانية، بدلا من أن يتم توظيفها في الاستثمار.

كانت هذه اللعبة مفيدة لكل الأطراف، فمن جهة سمحت سياسة المركزي التي اتخذت سعر فائدة مبالغا فيه بتحقيق البنوك لأرباح فائقة في فترة تسعينيات القرن الـ20، ومنعت هذه السياسة كذلك تعثر الدولة ماليا، وفي ذات الوقت نجح المركزي في تحقيق استقرار في سوق الصرف.

إلا أنه على الجانب الآخر، الأكثر أهمية، جرى استخدام معظم الأموال التي جمعتها الدولة من خلال السندات في النهاية في خدمة الدين بدلا من تمويل البنى التحتية العامة أو دعم برامج الرعاية الاجتماعية.

كما ساهمت هذه العملية في زيادة اختلال توزيع الدخل، المختل أصلا إلى حد كبير في لبنان، إذ نتج عن هذه اللعبة زيادة ثراء أصحاب المصارف، وغيرهم ممن اشترى سندات الخزينة، بما في ذلك النخب السياسية التي كانت وراء إصدارها في المقام الأول.

وبالنتيجة تعرض الاقتصاد لصدمة كبيرة نتيجة المستوى المرتفع لأسعار الفائدة الحقيقية المتولدة، وهو ما جعل القطاعات الاقتصادية تُعاني.

إذ إنه بحلول عام 1997، كان من الواضح أن ارتفاع أسعار الفائدة وارتفاع سعر الصرف الحقيقي تسبب في فقدان القدرة التنافسية وانخفاض في النشاط الاقتصادي، وبالتالي توقف طفرة النمو التي أعقبت الحرب.

الأرباح التي حققتها البنوك التجارية اللبنانية في فترة إعادة الإعمار (مليار ليرة لبنانية)

 

1995

1996

1997

1998

1999

2000

أرباح البنوك

286

487

655

758

658

556

الفوائد على أذونات الخزينة

561

695

735

825

842

871

المجموع

847

1182

1390

1583

1500

1472

النسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي (%)

4.7

5.8

6.1

6.5

6.1

5.7

المصدر: ديبة (2005)

الانهيار الاقتصادي الحالي.. المدى والتأثير

منذ ما يقرب من العامين، يتعرض الاقتصاد الكلي في لبنان لهجوم مكثف من عدة أزمات متفاقمة، بدءا من الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بالاقتصاد، تليها أزمة كوفيد 19، وأخيرا جاء انفجار مرفأ بيروت الهائل ليكمل هذه السلسلة من الأزمات.

فمنذ أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2019، يُعاني الاقتصاد اللبناني من أزمة مالية حادة ناجمة عن توقف مفاجئ في تدفقات رأس المال الواردة إليه، وهو ما تسبب بتعثرات في النظام البنكي، والديون الحكومية، وكذلك انهيار في سعر الصرف.

 في هذا السياق، أعلن في 7 مارس/ آذار 2020، رئيس الحكومة اللبنانية حسان دياب، عن عجز لبنان عن سداد قيمة السندات الدولية التي تستحق للدائنين بعد يومين، أي في 9 مارس/ آذار من نفس العام، وأنهم سيسعون للتفاوض مع الدائنين، لتأجيل السداد، وإعادة الجدول.

تخلّف لبنان عن سداد سندات دولية بقيمة 1.2 مليار دولار، وقد كان ذلك أول تخلف عن السداد للبنان في تاريخه.

فيما أعلنت الحكومة لاحقا أنها ستوقف جميع مدفوعات رأس المال والفوائد على سندات "اليوروبوند" المقومة بالعملات الأجنبية.

وبعدها ببضعة أيام فقط، في 15 مارس/ آذار 2020، أعلنت الحكومة حالة التعبئة العامة في البلاد وإغلاق جميع المرافئ البحرية والبرية والجوية والمؤسسات العامة والخاصة لمواجهة انتشار (كوفيد 19).

وأخيرا، في 14 أغسطس/ آب 2020، وقع انفجار هائل في العنبر رقم 12 من مرفأ بيروت، أسفر عن مقتل أكثر من 200 شخص وإصابة نحو 6 آلاف آخرين بجروح ، كما تسبب بدمار جزء كبير من الميناء، وألحق أضرارا جسيمة بالمناطق السكنية والتجارية الكثيفة في دائرة قطرها 8 كيلومترا.

في ضوء هذه الأزمات التي يشهدها هذا البلد الصغير، تأتي الأزمة الاقتصادية الخانقة لتترك آثارا شديدة على جميع الأصعدة في لبنان.

فمن جهة تعمل ضغوط سوق الصرف والسقوط الحر لليرة اللبنانية على خنق التجارة وتُوقف تمويل الشركات المحلية، مما يحد من قدرة الشركات على استيراد الكثير من المواد الأساسية.

وفي بلد يعتمد على الاستيراد بشكل كبير كلبنان، فهذا ربما يتسبب بمجاعة، إذ إنه وفقا لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، فإن لبنان يستورد 85 بالمئة من احتياجاته الغذائية.

انخفاض الوارد إلى لبنان من العملات الأجنبية تسبب بانهيار كبير في سعر صرف الليرة اللبنانية.

فبعد أن حافظ سعر صرف الليرة اللبنانية على استقرار كبير لعقدين من الزمان عند حاجز 1507.5 الذي حدده مصرف لبنان المركزي في العام 1999، يشهد سوق الصرف سقوطا حرا لليرة اللبنانية.

ذلك السقوط وصل إلى نحو 23 ألف ليرة للدولار الواحد عقب اعتذار الحريري عن مهمة تشكيل الحكومة منتصف تموز 2021.

كما يحول التخلف عن سداد سندات "اليوروبوند" دون إمكانية وصول الحكومة إلى الأسواق الدولية للحصول على التمويل، في الوقت الذي يعاني فيه النظام المصرفي المحلي من ضعف كبير.

وتُشير التقديرات إلى أن البنوك اللبنانية مدينة بأكثر من 90 مليار دولار، كما لجأت منذ أواخر عام 2019، إلى فرض قيود شديدة على عمليات السحب والتحويلات بالعملة الأجنبية، لا سيما بالدولار الأميركي ، وهو ما تسبب بردود فعل شعبية كبيرة ضد البنوك والبنك المركزي.

وعلى المستوى الكلي، سجل الاقتصاد اللبناني انكماشا بنسبة 20.7 بالمئة وفق تقديرات حديثة للبنك الدولي، مقارنة بانكماش بنسبة 6.7 بالمئة في 2019، بينما تشير تقديرات 2021 إلى انكماش بنسبة 9.5 بالمئة.

وعليه تراجعت قيمة الناتج المحلي الإجمالي في 2020 إلى 33.38 مليار دولار، من 52 مليارا في 2019، فيما يتوقع تراجعها إلى 22.2 مليارا في 2021 .

وأدى الانكماش الاقتصادي الحاد، وتراجع الليرة اللبنانية، إلى آثار ملموسة أيضا على الميزان التجاري، إذ تُشير أرقام 2020 (لأول 11 شهرا، من يناير/ كانون الثاني حتى نوفمبر/ تشرين الثاني) إلى أن الواردات شهدت تراجعا كبيرا بنسبة 43.7 بالمئة.

في حين ارتفعت الصادرات في نفس المدة بنسبة 4.6 بالمئة وهو ما ولد انخفاضا في العجز التجاري بنسبة 52.9 بالمئة.

وعلى الرغم من هذا الانخفاض الملموس في الميزان التجاري حقق ميزان المدفوعات عجزا بواقع 10.5 مليار دولار في 2020 .

ألقت ظروف الأزمات بثقلها على وضع لبنان المالي الهش أصلا، إذ إنه من المتوقع أن تنخفض الإيرادات بشكل حاد مع تراجع الإيرادات الضريبية وغير الضريبية بسبب الانكماش الحاد في النشاط الاقتصادي.

كما تسبب الانهيار الكبير في سعر الصرف إلى حدوث ارتفاعات كبيرة في نسب التضخم، إذ حقق معدل التضخم نسبة 84.9 بالمئة في 2020، كما حقق 100.64 بالمئة في يونيو/ حزيران 2021 مقارنة بنفس الشهر من عام 2020.

التضخم المفرط الذي بدأ يظهر مؤخرا، سوف تكون له آثار اقتصادية واجتماعية شديدة للغاية، وبخاصة على الفقراء والضعفاء اقتصاديا، وكذلك الأشخاص ذوي الدخل الثابت والموظفين.

إن التوقف المفاجئ في تدفقات رأس المال إلى لبنان سوف يعني استنفاذا مستمرا في احتياطيات العملات الأجنبية في مصرف لبنان.

وبالتالي مزيدا من القيود على الواردات، وبالتالي من المرجح أن يؤدي استمرار الأزمة إلى عجز متزايد من قبل اللبنانيين من ناحية تأمين مستلزماتهم الغذائية.

ومن جهة أخرى، سوف يؤدي انكماش الناتج المحلي الإجمالي اللبناني للفرد بالقيمة الحقيقية والتضخم المرتفع في عام 2020 بلا شك إلى زيادة كبيرة في معدلات الفقر.

العام 2020 شهد وصول معدلات الفقر في البلاد إلى 55 بالمئة، بعد أن كانت 28 بالمئة في 2019، في حين ارتفعت نسبة الذين يعانون من الفقر المدقع بـ 3 أضعاف من 8 إلى 23 بالمئة خلال الفترة نفسها.

في بلد ضعيف الأساسات من الناحية الاقتصادية مثل لبنان، ويُعاني من عدم اتساق هيكلي واختلال كبير في التوازن الاقتصادي، الاجتماعي، والسياسي، فمن المتوقع أن تكون عملية التعديل الهيكلي في سبيل التعامل مع الأزمة المالية والاقتصادية قاسية، مؤلمة، وطويلة، حتى مع وجود تدابير سياسية مدروسة.

في الحقيقة على أرض الواقع، بعد مرور أكثر من عام ونصف على اندلاع الأزمة لم يتم اتخاذ أي قرارات بشأن مثل هذه السياسات، بل وحتى في خضم هذه الأزمة الطاحنة لم يتم تشكيل حكومة مقبولة مجتمعيا لإدارتها حتى الآن.

وبالتالي فمن المرجح أن تكون الأزمة الحالية أعمق وأطول من جميع أزمات هذا البلد السابقة.


خاتمة واستنتاج

الاقتصاد في لبنان تحول إلى اقتصاد ريعي بدرجة كبيرة، فئة صغيرة في أعلى الهرم تحصل على كل شيء مقابل باقي اللبنانيين الذين بالكاد يحصلون على شيء.

عدم المساواة أصبحت متجذرة حتى القاع، والفقر يزداد انتشارا في هذا البلد بشكل مؤلم.

واحدةٌ من أكثر الدراسات الحديثة شمولية حول الفقر واللامساواة في لبنان، والتي نُشرت في العام 2017، أشارت إلى أن أعلى شريحة 10 بالمئة من أصحاب الدخل تمكنوا من الحصول على 57.1 بالمئة من إجمالي الدخل في عام 2016.

بل إن أعلى شريحة 1 بالمئة تمكنوا من الحصول على ما يقرب ربع إجمالي الدخل 23.4 بالمئة، في حين أن نصف السكان، أفقر 50 بالمئة، كانوا يحصلون على 10.6 بالمئة فقط من إجمالي الدخل في ذات العام.

النظام الاقتصادي – السياسي، المشوّه وغير المتزن، القائم في لبنان اليوم، أدخل لبنان في نفق مظلم عميق ربما يحمل لهذا البلد كوارث غير محسوبة المخاطر.

هو نظام ربما يكون غير قابل للإصلاح نتيجة ما يحمله في داخله من تشوهات، وهو ما يضع أمام الحكومة اللبنانية القادمة مسؤولية كبيرة لإجراء إصلاحات هيكلية ومؤسسية جذرية لإعادة النظام المالي والاقتصادي للبلاد إلى أسس سليمة.

لكي ينجح أي تغيير هيكلي في لبنان يجب أن يوضع حد لهذا النموذج السياسي القائم والذي تعمل فيه الطبقة الحاكمة والنخب الاقتصادية المتشاركة معها على توزيع موارد الدولة واقتسام دخل البلاد.

ومن نافلة القول إن أي إصلاحات جوهرية في لبنان سوف تصطدم حتما بمصالح الطبقة الحاكمة، الذين سوف يعملون بكل طريقة ممكنة على إعادة إنتاج النظام القائم وبالشكل الذي يحفظ مصالحهم.

من المستبعد للغاية أن يلجأ الفاعلون السياسيون الذين يديرون هذا النظام، والذين ظلوا على مدى عقود ماضية يستفيدون منه، إلى إجراء الإصلاحات المنشودة أو الإشراف عليها، كونها ببساطة سوف تسحب البساط من تحت أقدامهم.

وبذلك لم يجد اللبنانيون الذين خرجوا إلى الشوارع منذ أواخر العام 2019 طرقا لممارسة الضغوط اللازمة على المؤسسات السياسية في البلاد.

على رغم الأزمة الطاحنة التي تمر بلبنان اليوم، إلا أنها تضع أمام اللبنانيين الفرصة لتبني أنماطا جديدة من نماذج السياسة والتمثيل السياسي.

إذ تقلل من بروز الانقسامات الطائفية والسياسية التي شهدها البلد على مدى العقود الثلاثة الماضية، والتي حولت لبنان مرارا إلى مصدر للصراعات الإقليمية وساحة لها على حساب جموع اللبنانيين.