استقالة بوتفليقة.. بداية أم نهاية الأزمة في الجزائر؟

مهدي محمد | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

تنفس الجزائريون الصعداء بعد إعلان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة استقالته في 2 أبريل/نيسان 2019، وإقرار المجلس الدستوري شغور منصب رئيس الجمهورية وفقا للمادة 102 من الدستور.

آلاف المواطنين خرجوا احتفالا بتحقيق أول مطالب ثورتهم المندلعة منذ في 22 فبراير/شباط 2019، إثر ضغوط متزايدة من قبل المؤسسة العسكرية وتضييق للخناق على الرئيس وحاشيته، وحرب بيانات حقيقية ومفبركة، استبقت مرحلة الفراغ الدستوري التي كانت تهدد البلاد بعد 28 أبريل/نيسان الجاري موعد انتهاء العهدة الرابعة لبوتفليقة رسميا.

الاحتفال في حقيقته لم يكن خالصا، بل جاء مشوبا بالحذر والترقب لما ستسفر عنه المرحلة الانتقالية، وسط مخاوف متزايدة من طبيعة دور الجيش في تلك المرحلة.

النموذج المصري في أعقاب تنحي مبارك عام 2011، وما حدث بعدها من استيلاء الجيش على السلطة وتحكمه في مفاصل البلاد على نحو متزايد حتى الآن، مثل مخاوف لدى الجزائريين لم ينفها الجيش صراحة، لكنه يستمر في تأكيد انحيازه للشارع، وتبنيه لمطالب الحراك الشعبي.

معركة اللحظات الأخيرة

اللحظات الأخيرة التي سبقت استقالة بوتفليقة كانت حاسمة للغاية، تأكد خلالها تمسك قائد أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح بتنحية بوتفليقة فورا قبل انتهاء مدة ولايته، وشدد في بيانه الأخير الذي أعقب اجتماع قادة القوات المسلحة على أنه "لا مجال للمزيد من تضييع الوقت، ويجب التطبيق الفوري للحل الدستوري المقترح المتمثل في تفعيل المواد 7 و8 و102"، ليعلن بوتفليقة بعدها بساعة واحدة استقالته رسميا.

ورغم إعلان بوتفليقة في بيان اعتزامه الاستقالة قبل 28 أبريل/نيسان، وأنه سيتخذ "قرارات هامة" قبل هذا التاريخ، إلا أن استقالته المفاجئة والسريعة تؤكد عدم تحمله لضغوط الجيش وإصرار صالح على الرحيل الفوري للرئيس، بعد تجاهل المجلس الدستوري برئاسة الطيب بلعيز، دعوة قائد الأركان لتفعيل المادة 102 وإعلان عجز الرئيس.

"القرارات الهامة" التي قال بوتفليقة إنه سيتخذها قبل إعلان استقالته، ألمح كثيرون أنها تتمحور حول إقالة قايد صالح من رئاسة الأركان، بفضل التحالف الذي دشنه "سعيد" شقيق بوتفليقة مع قائد المخابرات السابق محمد مدين (الشهير بالجنرال توفيق) والملقب بصانع الرؤساء، والاستعانة بالرئيس السابق اليامين زروال، للالتفاف على مقترح صالح، وتشكيل هيئة رئاسية تقود البلاد خلال المرحلة الانتقالية.

توقعات صالح عزم الفريق الرئاسي المتحالف مع المخابرات الإطاحة به، دفعته لإصدار البيان شديد اللهجة الذي ألمح فيه لاجتماع أطراف لم يسمها، في إشارة إلى سعيد بوتفليقة والجنرال توفيق، والذي عرض على زروال "رئاسة هيئة تسيير المرحلة الانتقالية"، بطلب من سعيد، حسب رواية زروال، الذي رفض الاقتراح.

المعركة لم تكن أسلحتها الاجتماعات والتسريبات فقط بل البيانات المزورة أيضا، حيث صدر بيانان مزوران من الرئاسة يفيدن بإقالة قايد صالح من رئاسة الأركان، وهو ما نفته وزارة الدفاع كما نفى البيان الثاني مستشار الرئيس علي بوغازي الذي استُعمل توقيعه في بيان الإقالة المزعوم، ومع ذلك تم تداول البيانين على نطاق واسع في شبكات التواصل الاجتماعي، بل نشرته حتى وسائل إعلام أجنبية، حتى وصل إلى أنباء عن إقالة شقيق بوتفليقة لصالح باستعمال ختم الرئيس.

المرحلة الانتقالية

رغم أن كثيرين يعتبرون أن الجيش الجزائري أعلن بوضوح أنه في صف الشارع الثائر، إلا أن معادلة المستقبل القريب في ظل المرحلة الانتقالية تقسمهما إلى طرفين، فقائد الأركان لا يرى حلا إلا في إطار "الشرعية الدستورية" من خلال تفعيل المادة 102 ومعها المادتين 7 و8، وفي هذه الحالة سيتولى رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح، رئاسة البلاد لفترة انتقالية، يتم خلالها تنظيم انتخابات رئاسية تحت إشراف حكومة نور الدين بدوي.

لكن المعارضة والشارع يرفضون رئاسة بن صالح، للبلاد خلال الفترة الانتقالية، باعتباره أحد المقربين من بوتفليقة وأحد رموز النظام، الأمر ينسحب كذلك إلى حكومة بدوي، التي يحصنها الدستور من الإقالة خلال الفترة الانتقالية، وهو ما يعني أن المظاهرات قد تسمر حتى بعد استقالة بوتفليقة.

وتقترح المعارضة الاستناد إلى المادتين 7 و8 التي تمنح السيادة للشعب، من خلال تشكيل هيئة رئاسية، وحكومة لا تضم وجوه النظام السابق، لإدارة المرحلة الانتقالية قبل تنظيم انتخابات لاختيار رئيس جديد، لتفادي إعادة إنتاج النظام القديم نفسه عبر الانتخابات، لكن يبقى التساؤل حول مدى استجابة الطرف الثاني في المعادلة وهو الجيش لمطالب المعارضة حول كيفية إدارة مرحلة ما بعد بوتفليقة.

تأكيدات قيادة الجيش بأنه مع الشرعية الدستورية والشعبية، لم تزح عن الأذهان ولم تتوقف بعدها الألسن عن ترديد مسألة الانقلاب، واحتمالية استيلاء الجيش على السلطة بشكل تدريجي من خلال إطالة أمد المرحلة الانتقالية المحددة وفقا للدستور، تحت دعاوى كثيرة، وهذا ما يعززه إصرار قياد صالح على تفعيل المادتين 7 و8 من الدستور وليس 102 فقط التي ترسم خطة واضحة المعالم لتلك المرحلة.

حسب مراقبين، فإن استناد الجيش لهاتين المادتين يعد واجهة يمكنه من خلالها الولوج إلى مفاصل السلطة عبر شخصيات تدين له بالولاء، فيكون قد حقق الهدفين معا، أرضى الشارع بالاحتكام له، وتمكن من إحكام قبضته على مقاليد الأمور في البلاد.

لا لحكم العسكر

اللافت في هذا السياق أن وجود صالح نفسه في معادلة المرحلة الانتقالية مرفوض من قبل المتظاهرين، الذين رفعوا خلال المظاهرات المليونية الأخيرة لافتات تضمنت دعوة لإقالة رئيس الأركان، على غرار "يا بوتفليقة أنت رايح رايح إدي معاك قايد صالح"، وهو ما اعتبره الأخير مناورة من الرئاسة وذراعها الأمني لتشويه قيادة الجيش، ودفعه في بيانه الأخير للقول بلهجة حادة: "لا يمكنني السكوت عن ما يحاك ضد هذا الشعب من مؤامرات ودسائس دنيئة من طرف عصابة امتهنت الغش والتدليس والخداع".

ورغم سعادة بعض الجزائريين بوقوف قيادة أركان الجيش إلى جانبهم، إلا أن ذلك لم يبدد مخاوف البعض الآخر من احتمال تصدر الجيش الواجهة السياسية والأحداث التي تعيشها البلاد، لتكون المحصلة في النهاية الالتفاف على مطالب الشعب وإعادة إنتاج نظام بوتفليقة من جديد، لكن هذه المرة يصبح الجيش هو الوحيد المسيطر بديلا عن "العصابة الحاكمة" التي سيطرت في ظل عهد بوتفليقة وكان الجيش فقط أحد أركانها بجانب مؤسسة الرئاسة ورجال الأعمال النافذين.

أبعد من ذلك، كان النقاش الدائر بين الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي حول طبيعة دور الجيش في المرحلة الانتقالية، فمنهم من رأى أنه سيكتفي بمرافقة المرحلة الانتقالية وضمان تحقيق مطالب الشعب، وآخرون بدوا متيقنين من أنه ينوي فرض مرشح المؤسسة العسكرية في الانتخابات المقبلة، لتظل المؤسسة العسكرية محتفظة بلقب صانعة الرؤساء في الجزائر إلى الأبد.

التخوف الأكبر لدى الجزائريين يعيد إلى الأذهان مشاهد لا تزال حاضرة لديهم، حينما سيطر الجيش على المشهد السياسي، ففي عام 1965، قاد وزير الدفاع آنذاك هواري بومدين انقلابا عسكريا ضد الرئيس أحمد بن بلة، الرئيس الأول في تاريخ الجزائر المستقلة، وفي عام 1978، تدخل الجيش لاختيار العقيد الشاذلي بن جديد بعد وفاة بومدين، بينما جرى توقيف المسار الانتخابي من قبل الجيش عام 1992، عقب فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالانتخابات التشريعية.

وقُتل نحو ربع مليون جزائري في المعارك التي جرت بين الجبهة والجيش بعد ذلك على مدار سنوات عُرفت بـ"العشرية السوداء"، وفي عام 1994 عُيّن وزير الدفاع اليمين زروال رئيسا مؤقتا لمدة سنة، قبل انتخابه رئيسا للجمهورية عام 1995، ثم جاء في عام 1999، الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بدعم من المؤسسة العسكرية، التي أجبرته اليوم على الاستقالة من منصبه.

حلفاء الأمس

بجانب معركته التي أصبح فيها الرقم الأصعب حول إدارة المرحلة الانتقالية، فإن الجيش الجزائري على موعد آخر مع معركة ليست أقل شأنا، والتي عبر عنها قايد صالح في دفعه بوتفليقة نحو الاستقالة بجانب الشرعية الدستورية والشعبية، وهي مكافحة الفساد الذي استشرى في البلاد خلال السنوات الأخيرة، وكان أحد مطالب المتظاهرين الذين صرخوا "كليتو (أكلتوا) البلاد يا السراقين (أيها اللصوص)".

وتساءل صالح، في هذا الصدد: "كيف تمكنت هذه العصابة من تكوين ثروات طائلة بطرق غير شرعية وفي وقت قصير، دون رقيب ولا حسيب، مستغلة قربها من بعض مراكز القرار المشبوهة، وها هي تحاول تهريب هذه الأيام الأموال المنهوبة والفرار إلى الخارج"، في إشارة إلى رجال أعمال مقربين من الرئاسة على رأسهم علي حداد، الرئيس السابق لمنتدى رؤساء المؤسسات، الذي اعتقل عند محاولته الفرار برا إلى تونس.

ظاهر المعركة هو مكافحة الفساد، لكن باطنها قد يكون أكبر من ذلك بكثير، فرجال الأعمال هؤلاء متهمون بمحاولة الإطاحة بقائد أركان الجيش بمعاونة سعيد شقيق بوتفليقة، وتعد معركة الجيش ضدهم بمثابة انقلاب على توليفة السلطة الحاكمة بالبلاد، والتي احتل فيها الطرفان (الجيش ورجال الأعمال) منزلتين متجاورتين، يتمتع كلا منهما بأعلى قدر من السلطة والنفوذ مقابل الحفاظ على استمرار بوتفليقة في السلطة.

لكن الصراع الذي احتدم بين الطرفين، ومال فيه الطرف الثالث (الرئاسة) نحو رجال الأعمال، دفع الجيش إلى تطليق هذا التحالف بالثلاثة، وانتهاز اللحظة التاريخية بانتفاضة الشعب في التخلص منه.

حرب بلا هوادة

لم تكد تمضي ساعات قليلة على إقرار التفعيل الرسمي لاستقالة بوتفليقة، حتى بدأت الأخبار تتوالى في شأن ملاحقة العديد من رموز نظامه المتهمين بالفساد، ما يعني فتح ملفات الفساد التي قد تطال شخصيات نافذة في النظام البوتفليقي، باعتباره الورقة الأبرز بيد قيادة الجيش لاستمالة الحراك الشعبي وتفادي حديثه عن استيلاء الجيش على السلطة من جهة، وربما لإطالة أمد الفترة الانتقالية من جهة أخرى.

وكان لافتا تعجيل السلطات، بتقديم علي حداد، الرئيس السابق لمنتدى رجال الأعمال الجزائريين والمقرب بشدة من شقيق الرئيس المستقيل أمام قاضي التحقيق، تمهيدا لإيداعه السجن بتهم الفساد وتبييض الأموال، وسط تواجد إعلامي تكذيبا للأخبار، التي رُوّجت في شأن إطلاق سراحه بقرار من سعيد بوتفليقة، قبل ساعات قليلة من استقالة الرئيس.

ظهور صور حداد محاطا برجال الشرطة، وهو يقتاد إلى المحكمة، شكل خطوة رمزية قوية للتدليل بأن "العصابة"، كما جاء في البيان الأخير لهيئة أركان الجيش، لن تفلت من الملاحقة.

الملاحقات لم تلبث أن مسّت شقيق بوتفليقة ذاته، بعد انتشار أخبار عن اعتقاله قبيل تفعيل استقالة الرئيس، غير أن تقارير إعلامية أفادت بأنه لم يُسجن، بل وُضع تحت الإقامة الجبرية في أحد المراكز التابعة للدولة بضاحية الأبيار، بالعاصمة الجزائرية.

وسواء كانت الحقيقة هي وضع شقيق الرئيس المستقيل رهن الاعتقال أو الإقامة الجبرية، فإن الأمر يعني سقوط كافة مبادرات التسوية التي تم التوصل إليها بشأن تأمين خروج آمن ومشرف للرئيس بوتفليقة وأفراد عائلته، بعد أن ماطل سعيد في تفعيل استقالة بوتفليقة وتحالف مع الجنرال توفيق قائد جهاز المخابرات السابق.

اتهامات الفساد واستغلال النفوذ التي وجهتها قيادة الأركان في بيانها الأخير بحق عائلة بوتفليقة، تبدو مقدمة لملاحقات قضائية حتمية لكن يتم تأجيلها حتى لا تُفهم بمنطق الانتقام، وما يجعلها حتمية تفعيل القضاء الجزائري إجراءات الملاحقة بحق العديد من المقربين منهم من رجال الأعمال والمسؤولين الحكوميين السابقين.

مصادر إعلامية كشفت عن أن الملاحقات لم تقتصر فقط على الإجراءات التي أُعلن عنها الأسبوع الماضي لمنع "رموز الفساد" من مغادرة البلاد أو تحويل أموال إلى الخارج، بل أُصدرت مذكرات دولية للقبض على رجال أعمال ومسؤولين كبار سابقين موجودين خارج البلاد، بينهم شخصيات بارزة من رموز نظام بوتفليقة، مثل رئيسي حزب جبهة التحرير الوطني السابقين عمار سعيداني وجمال ولد عباس، ووزير الصناعة السابق عبد السلام بوشوراب.

التجربة المصرية

وإذا كان الجيش الجزائري أصبح الآن هو المتحكم الأول في مجريات الأمور القابض على زمام السلطة فعليا إلى أمد غير معلوم، فإن الكرة تبدو الآن ملقاة بملعب رقم آخر لا يقل أهمية في معادلة المرحلة الانتقالية، وهو الشعب الثائر.

فكما لعبت الملايين على مدار أسابيع الدور الأبرز في تحريك المياة الراكدة وإجبار أطراف اللعبة على النزول لإرادتها، فإنها تبدو الآن في موقف أكثر قوة، مع الأخذ في الاعتبار استمرار الزخم الثوري على نحو متزايد.

وبينما تتجه الأنظار نحو الجيش ويترقب الجميع موقفه من رغبة الجماهير الرافضة لأي شخص ينتمي لعهد بوتفليقة ونظامه في إدارة المرحلة الانتقالية، فإن الكل يترقب أيضا كلمة الشارع في تظاهرات مرتقبة الجمعة المقبلة، وما يتلوها من أحداث، يراهن فيها الشعب أنه سيبقى متيقظا لمحاولات سرقة ثورته، وأنه سيستمر في الحراك حتى تحقيق مطالبه كاملة، والتي لم تكن استقالة بوتفليقة سوى أحدها.

ولعل مبعث مخاوف الجزائريين، يبعد عنهم مسافات طويلة من خلال تجربة المصريين مع ثورة 25 يناير 2011، والتي تشكل أحداثها المتتالية إلى الآن ناقوس خطر ينبه بلد المليون شهيد حتى لا تؤكل ثورتها كما حدث في أرض الكنانة قبل 8 أعوام.

تشابه مراحل الثورة الجزائرية مع نظيرتها المصرية تصل حد التطابق، باختلاف وحيد وهو أن سيطرة القوات المسلحة على مقاليد الأمور في مصر عقب تنحي مبارك كانت أمرا واقعا، لم يفطن المصريون إلى خطورته إلا بعد حين.

هتاف "جيش شعب خاوة خاوة" هو الترجمة الحرفية باللهجة الجزائرية للهتاف المصري "الجيش والشعب إيد واحدة"، وكما هتفت الحناجر بالقاهرة، بدا أن شقيقاتها في الجزائر تهتف الهتاف ذاته، ما عزز مخاوف الجزائريين من أن تكون تلك بداية انجراف ثورتهم نحو الهاوية على النمط المصري.

وضجت مواقع التواصل الاجتماعي بنصائح وجهها المصريون للجزائريين بعدم تكرار الخطأ الرئيسي بترك الميدان فور تنحي مبارك، ثم الثقة اللامحدودة في الجيش وأخيرا انقسام القوى السياسية المحركة للشارع.