مالك بن نبي.. جزائري أضاء العالم بفكره وصاغ "مشكلات الحضارة"

وهران - الاستقلال | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"أسبوع مالك بن نبي" بدأ في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2020 في الجزائر، ويستمر إلى حدود الـ31 من الشهر نفسه، بعد أن قررت وزارة الثقافة والفنون تنظيم الندوة الوطنية الأولى عن المفكر الإسلامي في مختلف محافظات الجمهورية.

تحيي الجزائر تراث المفكر الذي ترك "إرثا كبيرا ما زال وهجه يضيء العقول"، وفق بيان الوزارة، تحت عنوان "في الإصغاء لشاهد على القرن".

تقام الندوة بالمكتبة الوطنية والمكتبات الرئيسية العمومية ودور الثقافة عبر المحافظات "وفاء للذاكرة الثقافية للجزائر وإحياء لرموز التفكير والثقافة"، بمشاركة محاضرين ودارسين لفكر ابن نبي من مختلف المحافظات.

اعترفت الوزارة أن "جيل مالك بن نبي قدم الكثير باختياره الخصوصية الثقافية ودفاعه عن الشخصية الجزائرية الأصيلة ولحفظ الذاكرة الثقافية الوطنية"، مضيفة: أنه "من المهم أن نصغي لاسم من الأسماء التي صنعت الاختلاف وقدمت المساءلات للوقائع واستشرفت بأدواتها المستقبل وتركت إرثا كبيرا ما زال وهجه يضيء العقول".

وزارة الثقافة الجزائرية اعتبرت أن "مالك بن نبي رجل عابر للحظات"، فقررت أن "يكون التعبير عن مكانة الراحل بقراءة منتجه ومعادلته في المسائل الراهنة خاصة ما تعلق بالثقافة وقضاياها".

"القابلية للاستعمار"

المفكر الجزائري مالك بن نبي هو أحد رواد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين، ويذهب بعض المتخصصين إلى حد اعتباره امتدادا لابن خلدون، إذ يعتبر من أكثر المفكرين المعاصرين الذين نبهوا إلى ضرورة العناية بمشكلات الحضارة.

كانت جهود مالك بن نبي في بناء الفكر الإسلامي الحديث وفي دراسة المشكلات الحضارية عموما متميزة، سواء من حيث المواضيع التي تناولها أو من حيث المناهج التي اعتمدها في ذلك.

كان ابن نبي أول باحث يحاول أن يحدد أبعاد المشكلة، ويحدد العناصر الأساسية في الإصلاح، ويتعمق في البحث عن العوارض، وكان كذلك أول من أودع منهجا محددا في بحث مشكلة المسلمين على أساس من علم النفس والاجتماع وسنن التاريخ.

عرف المفكر خصوصا بفكرته الشهيرة "القابلية للاستعمار"، وتُدرس أفكاره في مختلف جامعات العالم إلى اليوم.

للراحل أكثر من 30 كتابا بالفرنسية والعربية من أشهرها "الظاهرة القرآنية" (1946) و"شروط النهضة" (1948) و"فكرة كومنولث إسلامي" (1958) و"مشكلة الثقافة" (1959) و"مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" (1970).

ولد ابن نبي في 5 ذي القعدة 1323 هـ، الموافق لمطلع يناير/ كانون الثاني 1905 م، بمدينة قسنطينة شرق الجزائر، لأسرة محافظة. كان والده موظفا بالقضاء الإسلامي حيث حوّل بحكم وظيفته إلى ولاية تبسة حين بدأ مالك بن نبي يتابع دراسته القرآنية، والابتدائية بالمدرسة الفرنسية، وتخرج سنة 1925.

سافر ابن نبي مع أحد أصدقائه إلى فرنسا حيث كانت له تجربة فاشلة فعاد مجددا إلى مسقط رأسه، ليبدأ العمل بمحكمة آفلو في مارس/آذار 1927، واحتك أثناء هذه الفترة بالفئات البسيطة من الشعب، لكنه استقال من منصبه القضائي سنة 1928 إثر نزاع مع كاتب فرنسي لدى المحكمة المدنية.

رحلة فرنسا

عاود ابن نبي السفر إلى فرنسا سنة 1930 في رحلة علمية، حاول أولا الالتحاق بمعهد الدراسات الشرقية، إلا أنه لم يكن يسمح في ذلك الوقت للجزائريين أمثاله بمزاولة مثل هذه الدراسات.

الرفض ترك تأثيرا كبيرا في نفس مالك، فالتحق بمدرسة تخرج منها مساعدا لمهندس كهربائي، ما يجعل موضوعه تقنيا خالصا، أي بطابعه العلمي الصرف، بعكس المجال القضائي أو السياسي.

انغمس مالك بن نبي في الدراسة وفي الحياة الفكرية، واختار الإقامة في فرنسا وتزوج من فرنسية ثم شرع يؤلف الكتب في قضايا العالم الإسلامي، فأصدر كتابه "الظاهرة القرآنية" سنة 1946 ثم "شروط النهضة" في 1948 باللغة الفرنسية، وترجم الكتاب إلى العربية عام 1960.

أضاف مالك بن نبي فصلين إلى النسخة العربية، الذي طرح فيه مفهوم القابلية للاستعمار، وكتابه "مشكلات الحضارة ووجهة العالم الإسلامي" 1954، أما كتابه "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" فيعتبر من أهم ما كتب بالعربية في القرن العشرين.

انتقل ابن نبي إلى القاهرة هاربا من فرنسا بعد إعلان الثورة الجزائرية سنة 1954، تاركا وراءه زوجته التي رفضت مرافقته من فرنسا إلى مصر، فكتب "فكرة الإفريقية الآسيوية" 1956.

عُيِّن مالك مستشارا لمنظمة التعاون الإسلامي وسمح له منصبه بمواصلة الكتابة الفكرية وإرسال المال ليعول زوجته في فرنسا. وطور مالك بن نبي معرفته باللغة العربية وراجع كل كتبه المترجمة للعربية وشرع بالكتابة بالعربية وإلقاء المحاضرات بالعربية وزار سوريا ولبنان لإلقاء محاضرات هناك.

عاد مالك بن نبي في 1963 للجزائر بعد استقلالها، فعُيِّن سنة 1964 كمدير عام للتعليم العالي، وتابع مع ذلك إلقاء المحاضرات والتأليف، فصدر له آفاق جزائرية (Perspectives algériennes) وكذلك الجزء الأول من مذكراته.

استقال من منصبه سنة 1967، ليتفرغ للعمل الفكري الإسلامي والتوجيهي، فساهم بمقالات متتابعة في الصحافة الجزائرية خصوصا في مجلة "Révolution Africaine" (الثورة الإفريقية) التي شارك فيها إلى سنة 1968 بمقالات في صميم تصوراته حول إشكالات الثقافة والحضارة ومشروع المجتمع، وجمعت هذه المقالات كلها في كتاب بعد وفاته.

أوصى مالك بعض المقربين إليه من الطلبة الذين كانوا يتابعون حلقاته، خصوصا الذين كانوا يشتغلون بوزارة الشؤون الدينية والأوقاف، بتنظيم ملتقيات لتوعية الأجيال الصاعدة، وفي خضم الصراعات الفكرية والمذهبية، حث مالك على فتح مسجد بالجامعة المركزية ولو كان ذلك بمقدار متر مربع واحد.

طُبعت العديد من الكتب عن حياته وفكره، خاصة من قبل المهتمين بالنهضة والإصلاح، من أهمها: (في صحبة مالك بن نبي) و(مقاربات حول فكر مالك بن نبي) اللذان كتبهما عمر كامل مسقاوي، تلميذه الذي ترجم بعض أعماله إلى العربية، والوصي على نشر كتبه.

 

فكر ابن نبي

يرى ابن نبي أن الحضارة هي شكل راق من الحياة الأخلاقية والمادية، وأنها  لا تقوم إلا على ثقافة المجتمع، التي هي "مجموعة من الصفات والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته، كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه".

ينطلق المفكر من هذه النقطة ليعتبر أن حتمية توجيه هذه الثقافة بشكل فعال لتأسيس البنية الفكرية قبل البناء، ويقسم الأمر إلى شقين: توجيه سلبي يتعلق بفصل رواسب الماضي المنبوذ، وتوجيه إيجابي يصلنا بمقتضيات المستقبل المرغوب، كنفي القرآن للجاهلية، ووضعه لأسس الإسلام.

ينطلق فكر ابن نبي من سؤال "ما هي أسباب تقهقر المسلمين؟ وما هي شروط النهضة ليستعيد المسلمون دورهم وفاعليتهم المفقودة وليكونوا شهداء على الناس؟".

كانت الإجابة عن هذا السؤال هي محور كتابات وأقوال الذين تصدوا لحركة الإصلاح والنهوض بالأمة على اختلافهم في القرب أو البعد عن الصواب"، بل إن كثيرا منهم لا يعالجون المرض بقدر ما يعالجون أعراضه. وهو ما كان مالك يعترض عليه ويعتبره تحليلا "ذريا" أو جزئيا، لا يتمكن من جمع الأحداث في سياق كامل يمكن المفكر من تحليل الواقع لاقتراح الأفكار.

ليعود ويعرف الحضارة بأنها "مجموع الشروط الأخلاقية والمادية، التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده – في كل طور من أطواره -وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية".

معرفة مالك الدقيقة بالفكر الغربي، وتأثره به في بعض الأحيان لم يثنه عن الأمل في التغيير "بقي معلقا في الأصالة الإسلامية، وبالرجوع إلى المنبع الأساسي للمسلمين".

مجهول في قومه

في النهاية، بقي العالم الإسلامي في نظره غير قادر على الاهتداء "خارج حدوده، بل لا يمكنه في كل حال أن يلتمسه في العالم الغربي الذي اقتربت قيامته، ولكن عليه في ذات الوقت ألا يقطع علاقته بحضارة تمثل إحدى التجارب الإنسانية الكبرى، بل أن ينظم العلاقة معها".

في وثائقي أنجزته قناة الجزيرة عن المفكر، عنونته بـ"المجهول في قومه"، خلصت إلى أن مالك بن نبي المعروف في الجامعات الأميركية غائب عن جموع العرب والمسلمين، بل وعن أبناء الجزائر الذين عاش ومات بينهم.

خلال دراسته في فرنسا نظم ابن نبي مجموعة من اللقاءات الثقافية بعنوان "لماذا نحن مسلمون" ما جذب إليه أنظار عدد من المفكرين، وجعل المفكر المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، يدعوه ليناقش معه بعضا من أفكاره.

توفي المفكر الإسلامي في منزله بالجزائر يوم 31 أكتوبر/ تشرين الأول 1973 الموافق 4 شوال 1393 هـ، بعد أن سقط من سلالم منزله وتأثر بضربة على الرأس.

مات المفكر الجزائري في صمت بعيدا عن الأضواء، وهو على فراش الموت قال لزوجته: "سأعود بعد 30 سنة"، تفيد ابنته، إيمان أن كل من يقرأ لوالدها فهو ابن روحي له.

خلف مالك بن نبي وراءه مجموعة من الأفكار القيمة والمؤلفات النادرة، ودُفن في مقبرة سيدي أمحمد بوقبرين بالجزائر العاصمة، لكن أفكاره "مدرسة لم تر النور بعد"، بحسب ناشرة أعماله.