خلال حقبة أردوغان.. كيف رسخت تركيا قدمها في إفريقيا؟

أحمد يحيى | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، خلال منتدى في إسطنبول، تحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قائلا: "تركيا لا تتحمل مسؤوليتها في موقعها وجغرافيتها فقط، وإنما في كل أنحاء العالم، ونستخدم كل القدرات الموجودة، ولهذا السبب نحن في سوريا، ولهذا السبب نحن في إفريقيا وليبيا والبلقان وأفغانستان، في جميع أنحاء جغرافيتنا القديمة، لهذا السبب نستجيب لمن يمدوا لنا أياديهم".

منذ وصول أردوغان إلى الحكم في تركيا عام 2002، شهدت تركيا تغيرات على الصعيدين الداخلي والخارجي، ومن أبرز هذه التغيرات رؤية تركيا لدورها الإقليمي على ضوء ما تشهده المنطقة المحيطة مباشرة بها من اصطفافات جديدة وصراعات ومواجهات في أكثر من منطقة، ترى تركيا أنها تمثل مصدر خطر عليها وتمثل تهديدا لمصالحها في الوقت الراهن وعلى المدى البعيد.

اعتمدت تركيا سياسة التقدم الجيوبولتيكي في مناطق إستراتيجية بالغة الأهمية، وتحديدا في القارة السمراء، وعلى ساحل البحر الأحمر، حيث التحكم بالمضائق المائية، التي تمر منها طرق التجارة، بالإضافة إلى الضغط على المتنافسين الإقليميين الذين يحملون العداء لأنقرة، وعلى رأسهم دولة الإمارات. 

البعثة الأكبر

تُعد السفارة التركية في الصومال أكبر بعثة دبلوماسية لأنقرة بالخارج. في أغسطس/ آب 2011، قام أردوغان بزيارة تاريخية إلى الصومال، مصطحبا معه كبار المسؤولين في الدولة، وأفراد أسرهم، فضلا عن جيش كامل من الأطقم الطبية والهندسية.

رغم أن البلد الإفريقي كان يئن من الصراعات المتتالية، والاقتتال الأهلي، وأوضاع اقتصادية وأمنية سيئة، لكن رئيس الوزراء التركي آنذاك، لم يستسلم لهاجس الخوف، وقرر إتمام زيارته.

وصف أردوغان حينها، الحالة الصومالية، بـ"الصادمة"، وتعجب من حجم المعاناة التي خلفتها المجاعة التي ضربت جمهورية الصومال عقب موجة جفاف لم تشهدها البلاد منذ ثمانينيات القرن الماضي.

أردوغان أمر بتسخير طاقات تركيا لمساعدة الشعب الصومالي، فأرسلت الحكومة المزيد من الأطقم الطبية والتعليمية والهندسية والعسكرية، وتكفّل بتعليم الآلاف من الطلبة وبناء المدارس والمستشفيات والمطارات والموانئ، ولم يكتف بهذا بل درَّب الجيش والشرطة، وأمر بإصلاح الشوارع والمقرات الحكومية.

في يونيو/حزيران 2016، تكررت زيارة أردوغان إلى العاصمة الصومالية مقديشو، ولكن هذه المرة بصفته رئيسا للجمهورية، وهي الزيارة التي افتتح فيها السفارة التركية.

منذ ذلك التاريخ أصبحت تركيا تعني الكثير بالنسبة للصوماليين، فهي التي بسطت لهم يد العون والمساعدة كما أن العديد من المنشآت الخدمية والطرق تم بناؤها بتمويل وتنفيذ تركي، فضلا عن أن أنقرة تخطط حاليا لبناء ميناء على ساحل الصومال المطل على المحيط الهندي ومبنى للبرلمان على الساحل ذاته.

الأهم من ذلك أن الخطوط الجوية التركية كانت من أوائل شركات الطيران التي ربطت الصومال بالعالم، فقد دشنت الخطوط التركية رحلاتها من وإلى مقديشو منذ العام 2012.

دلل على ذلك الرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو، عندما اختار تركيا لتكون أول وجهة خارجية له فور توليه رئاسة البلاد، في أبريل/ نيسان 2017، واستقبله الرئيس أردوغان بمراسم رسمية مهيبة. 

أما الحدث الأضخم الذي لفت انتباه العالم، فهو افتتاح القاعدة العسكرية التركية في الصومال في سبتمبر/ أيلول 2017، لتكون أكبر قاعدة من نوعها كما ذكر رئيس هيئة الأركان العامة للجيش التركي (وزير الدفاع حاليا) خلوصي أكار، وأكدت تلك الخطوة أن الدور التركي المتنامي في الصومال منذ سنوات، اتخذ هذه المرة نقلة نوعية بافتتاح المعسكر التدريبي الكبير، مما يدلل أن أنقرة تنظر إلى علاقاتها مع مقديشو باعتبارها علاقات إستراتيجية.

وأدى افتتاح تركيا قاعدتها في الصومال إلى انزعاج الدول الخليجية التي توترت علاقاتها مع أنقرة مؤخرا عقب اندلاع الأزمة الخليجية، حيث اعتبر المحلل السعودي المقرب من السلطات إبراهيم آل مرعي: أن افتتاح المركز العسكري في الصومال "يمثل تهديدا صريحا للأمن الوطني السعودي والمصري".

وحسب مصادر: بلغت نفقات إقامة القاعدة حوالي 50 مليون دولار، ويُمكِنها أن تأوي حوالي 1500 جندي وتقديم التدريب لهم في وقت واحد لمساعدة الحكومة الصومالية في التصدي لـ"حركة الشباب" المتطرفة.

وتبلغ مساحة القاعدة 4 كلم مربع وهي قادرة على استقبال قطع بحرية وطائرات عسكرية إلى جانب قوات كوماندوز.

 

جزيرة سواكن

في 24 ديسمبر/ كانون الأول 2017، وفي أول زيارة لرئيس تركي منذ عام 1956 إلى السودان، زار أردوغان الخرطوم لمدة 3 أيام، برفقة وفد ضم حوالي 200 رجل أعمال، وتم خلال الزيارة توقيع 22 اتفاقا بين البلدين في مجالات مختلفة.

وكانت الاتفاقية الأكثر أهمية هي الإعلان المشترك عن برنامج التعاون الإستراتيجي، والذي تم بموجبه تأسيس "المجلس الأعلى للتعاون الإستراتيجي" بهدف تطوير التعاون الثنائي والإقليمي والدولي بين الدولتين.

وتشمل مجالات التعاون "السياسة، الدفاع، الجيش، الأمن، الشؤون الداخلية، الاقتصاد، التجارة، الجمارك، الطاقة والتعدين، النقل، الزراعة، السياحة، الصحة، التعليم، الثقافة، العلوم، المعونات الإنسانية والتنموية، والتعاون الإقليمي في الإطار الإفريقي".

ومن بين المجالات التي تم التركيز عليها في الوثيقة الإستراتيجية: التعاون في المجال الأمني من أجل "الحرب ضد الإرهاب، والجريمة المنظمة، والتهريب".

بدأ التعاون العسكري بين البلدين بمصادقة الرئيس التركي السابق عبد الله غول، في 15 مارس/آذار 2013، على قانون "اتفاق إطاري مع السودان بشأن التدريب العسكري والتعاون التقني والعلمي للقوات العسكرية".

وبعدها بنحو عام، استقبلت قوات البحرية السودانية منتصف 2014، بميناء بورتسودان 4 سفن حربية تنتمي لمجموعة البارجة "بارباروس" التابعة لقوات البحرية التركية، وشمل برنامجها إجراء تدريبات مشتركة.

كما وقّع وزيرا الدفاع عددا من اتفاقيات التعاون في مجالات التدريب العسكري والصناعات الدفاعية، في مايو/أيار 2017، على هامش المعرض الدولي للصناعات الدفاعية (آيدف) بإسطنبول. 

وكجزء من الاتفاقيات التي تم توقيعها خلال زيارة أردوغان، استأجرت تركيا جزيرة سواكن السودانية على البحر الأحمر لمدة 99 عاما بهدف تطوير مينائها الذي كان في الحقبة العثمانية مركزا سياحيا.

 

موقع متميز

سواكن جزيرة سودانية مطلة على البحر الأحمر، تبلغ مساحتها 20 كيلومترا مربعا، وحظيت على مر العصور باهتمام الحضارات الكبرى في المنطقة، وعادت إلى الواجهة بعد تعهد أردوغان للسودان، بإعادة بناء الجزيرة التاريخية. 

وتبعد الجزيرة عن الخرطوم حوالي 560 كيلومترا، وعن مدينة بورتسودان (ميناء السودان الرئيس) زهاء 70 كيلومترا، وهي جزيرة مرجانية، انهارت منازلها وعمرانها، وتحولت إلى أطلال، أما سواكن المدينة فمنطقة واسعة يدخلها لسان بحري، يجعل منها ميناء طبيعيا.

وترتبط المنطقة بالتاريخ العثماني القديم، حيث، اختارها السلطان العثماني سليم الأول عام 1517، مقرا لحاكم مديرية الحبشة العثمانية التي تشمل مدن "حرقيقو ومصوع" في إريتريا الحالية.

وزار الرئيس أردوغان وقرينته المنطقة بضيافة الرئيس المعزول عمر البشير، واعتبرت بالنسبة لمراقبين زيارة ملهمة ومثيرة، يتوقع أن تجعل جغرافيا جزيرة سواكن وتاريخها أكثر إثارة، بعد أن أصبحت آثارها موعودة بالترميم من جانب أنقرة.

لسواكن أهمية إستراتيجية تكمن في كونها أقرب الموانئ السودانية إلى ميناء جدة الإستراتيجي السعودي على البحر الأحمر، حيث تستغرق رحلة السفن بين الميناءين ساعات قليلة.

وخلال الأعوام القليلة الماضية، بات السباق كبيرا على البحر الأحمر الذي يعتبر ممرا لنحو 3.3 ملايين برميل من النفط يوميا، كما أنه يشكّل المعبر الرئيسي للتجارة بين دول شرق آسيا، ولا سيما الصين والهند واليابان مع أوروبا.

 

لماذا جيبوتي؟ 

في 9 يناير/ كانون الثاني 2018، أعلـن سفير جيبوتي لدى أنقرة آدم حسين عبدالله: أن بلاده تولي أهمية بالغة لتوطيد علاقاتها العسكرية مع تركيا، مؤكـدا: أن جيبوتي ترحب بإقامة قاعدة عسكرية تركية على أراضيها.

وتماشيا مع الجهود الرامية إلى تعزيز أمن منطقة القرن الإفريقي، أوضح عبد الله: أن "خطوة كهذه ستسهم بشكل كبير في تأمين حركة الملاحة بالبحر الأحمر، ولمواجهة التهديدات الأمنية في المنطقـة". مشيرا إلى: أن "الزيارة التي قام بها الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيله إلى تركيا، ستشكل نقلة نوعية في العلاقات بين البلدين".

ويتصاعد الوجود التركي في الدول المطلة على ساحل البحر الأحمر، الأمر الذي ترفضه الإمارات وتحاول منعه بأي طريقة، حيث تسعى أنقرة إلى أن تستثمر في الدول العربية والإفريقية التي تمتلك ميزة نسبية مثل جيبوتي والصومال والسودان والتي تقع على خليج عدن ومضيق باب المندب، الذي يعتبر من أهم شرايين التجارة العالمية بسبب مرور خمس التجارة العالمية في تلك البقعة الحيوية.

ترغب الحكومة التركية في الاستفادة من منطقة مضيق باب المندب في إنشاء قاعدة خدمات لوجستية ومنطقة اقتصادية لتكون قاعدة انطلاق للأسواق الإفريقية في حوض نهر النيل وشرق إفريقيا، اعتمادا على العلاقات التاريخية المتميزة مع شعوب تلك المنطقة منذ أيام الخلافة العثمانية.

أنشطة "تيكا"

مع واقع النهضة الاقتصادية في تركيا، فقد بدأت بمدخل التنمية التي تتعطش لها القارة السمراء نتيجة الكوارث والنزاعات العديدة التي تكبّل سواعدها، وذلك من خلال الوكالة التركية للتنسيق والتعاون (TIKA). فأصبح وجودها كمراقبة للاتحاد الإفريقي عام 2002 وجودا شبه شرعي.

وتم تأسيس وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا) عام 1992، ويمكن أن نوجز أهداف تيكا في تلك الفترة بأنها مساعدة الجمهوريات التركية في إنتاج بنيتها الاجتماعية بنفسها، وإنشاء هويتها الخاصة بشكل سليم.

وتماشيا مع مفهوم السياسة الخارجية التركية الجديدة، وسعت تيكا من نطاق منطقة مساعداتها، فوصل عدد مكاتب برامج التنسيق الخاصة بها من 12 في عام 2002 الى 25 مكتبا عام 2011، ثم ارتفع هذا العدد الى 33 بحلول عام 2012. واليوم تقوم وكالة التعاون والتنسيق التركية "تيكا" بمواصلة أنشطتها عبر 61 مكتبا تنسيقا في 59 دولة شريكة في التنمية. 

وحسب الموقع الرسمي للمنظمة، رفعت تركيا من حجم مساعداتها التنموية في عام 2002 من 85 مليون دولار إلى 3 مليارات و913 مليون دولار في عام 2015 ومن ثم إلى 8.7 مليار دولار في سنة 2017. كما تحتل تيكا اليوم مكانا بين المؤسسات الأكثر قياما بالتعاون التقني مع الدول الناطقة بالتركية.

وتواصل تيكا اليوم القيام بأنشطتها التعاونية التي تهدف إلى تحقيق التنمية في حوالي 150 دولة مختلفة في 5 قارات حول العالم بما فيها الدول التي تتواجد فيها المكاتب التنسيقية لتيكا.

وتقوم تركيا الآن بواسطة تيكا بتبادل المعلومات والخبرات مع العديد من الدول حول العالم من المحيط الهادي إلى آسيا الوسطى، ومن إفريقيا والشرق الأوسط إلى دول البلقان، ومن القوقاز إلى أمريكا اللاتينية.

وجنت تركيا ثمار ذلك مباشرة، فانتخبت عضوا في مجلس الأمن في الفترة 2009-2010، بعد مرور 48 عاما على عضويتها السابقة. وهو ما جعل سردار جام، رئيس "تيكا"، يقول: "تركيا تحظى بمحبة واهتمام كبير في القارة الإفريقية".

إستراتيجية جديدة

الأكاديمي الجزائري بوحنية قوي، المتخصص في تحولات الدول، أورد في تقرير نشره مركز الجزيرة للدراسات، تحت عنوان "إفريقيا في الإستراتيجية التركية الجديدة": أن "العمق الذي تحمله العلاقات التركية-الإفريقية وما أسفر عنه من تطورات ملحوظة خلال فترة قصيرة جدا يعد دليلا على نجاح الرؤية التركية".

مضيفا: "أعلنت تركيا أن عام 2005 هو عام الانفتاح على إفريقيا، وفي  مارس/آذار من العام نفسه قام أردوغان بزيارة إلى كل من إثيوبيا وجنوب إفريقيا، وسرعان ما آتت هذه الزيارات ثمارها الإيجابية على المستوى المؤسسي، فقد تولت تركيا، في 12 أبريل/نيسان 2005، موقع المراقب في الاتحاد الإفريقي الذي أعلن في يناير/كانون الثاني 2008، أن تركيا شريك إستراتيجي للاتحاد".

وأكد الباحث الجزائري: أن "تركيا اعتمدت في تحركاتها على عدد من الدول الإفريقية ذات الأهمية الإستراتيجية، أبرزها إثيوبيا والصومال وجيبوتي، إذ عمدت أنقرة إلى التوقيع على اتفاقيات أمنية مع أديس أبابا وجيبوتي ومقديشو في الفترة الأخيرة، ووقع البرلمان التركي على اتفاقية الدفاع المشترك مع أديس أبابا، الأمر الذي أثار الكثير من التكهنات، خاصة في مصر حول الهدف منها، لاسيما مع توسع هوة الخلاف بين القاهرة وأديس أبابا بشأن سد النهضة في الفترة الأخيرة.

فضلا عن ذلك سعت أنقرة إلى إنشاء قواعد عسكرية في منطقة القرن الإفريقي، حيث ساعد الحراك التركي في إفريقيا على إقامة قاعدة عسكرية تركية في الصومال، وكشف ذلك عن الأبعاد (الجيوسياسية) المهمة التي تنتهجها سياسة تركيا إزاء القارة الإفريقية".

واختتم بوحنية حديثه قائلا: "لا شك في أن تركيا تراهن في المنظور الإستراتيجي على التحول إلى طرف فاعل قادر على المناورة والإفادة من الاقتصادات الإفريقية التي تشير المعطيات إلى كون إفريقيا ستشكل نسبة معتبرة من الناتج الإجمالي الخام الدولي".

ويدعم الحركة التجارية التركية اتساع السوق الإفريقية وتنوعها، وهو ما يوسع نطاق ميزان التجارة الخارجية التركية، كما أن المراهنة على المقاربة الثقافية والإنسانية من شأنها أن تدعم الدور التركي وإسناده بشكل متعاظم من طرف الدول الإفريقية، وذلك في مختلف المنظمات الدولية والإقليمية وتحويلها إلى طرف فاعل قادر على الإسهام في توطيد الشراكات الدولية وفق نظرية الدبلوماسية المتناغمة وعدم الاكتفاء بنظرية تصفير المشاكل.

يبقى القول: "إن التقارب الإستراتيجي الإفريقي - التركي هو تقارب اقتصادي مغلف بنزعة دبلوماسية وإنسانية لا يمكن إنكارها".