حلم السفر إلى أوروبا.. مآسي شباب غزة في رحلة بحث عن المجهول

أحمد علي حسن | 5 years ago

12

طباعة

مشاركة

"يا ليتني مِتّ قبل هذا"، أمنية خلص إليها "سامر" بعد أن ذاق علقم رحلة سفر من غزة إلى أوروبا، امتدت 10 أيام بمعدل 240 ساعة متواصلة تسلق خلالها جبالًا وسلك طرقاً وعرة وسبح في ماء آسن، باحثًا عن مكان يُؤمّن له مستقبلًا أفضل.

مثل آلاف الشباب في غزة، قرّر "سامر" (اسم مستعار) النجاة بنفسه والبحث عن ظروف حياة أفضل من تلك التي يعيشها وأقرانه في قطاع غزة الذي يطبق عليه حصار إسرائيلي متواصل منذ 13 عامًا، برًا وبحرًا وجوًا.

وكنتيجة طبيعية لغياب مصدر الدخل، استدان مبلغ 1500 دولار من أصدقائه لأجل تغطية المصاريف وتكاليف السفر، لكن العملية تمت بشرط أن يردّها بعد وصوله إلى أوروبا والظفر بفرصة عمل.

وافق "سامر" على شرط أصدقائه، واتجه فورًا إلى أحد مكاتب التنسيق بين غزة والسفارة التركية في القدس، مصحوبًا بالأوراق المطلوبة للحصول على تأشيرة الدخول إلى تركيا.

اقتطع الشاب الغزّي من المبلغ 400 دولاراً جزء منها كان من نصيب مكتب التنسيق، وآخر تم دفعه كبدل معاملة تجري بطريقة التفافية لتأمين إقرار مالي من البنك بإيداع مبلغ من المال، كشرط لإتمام الأوراق المطلوبة.

بعد أسبوعين أصبحت "الفيزا" مرفقة في جوار سفر "سامر"، لكنه اصطدم ببوابة معبر رفح، المُتنفس الوحيد لسكان غزة، إذ أن المعمول به يفرض عليه التسجيل لدى وزارة الداخلية، لضمان مقعد بين مئات آلاف الراغبين والمضطرين للسفر.

"كان أمامي حل ثمنه 3 آلاف دولار أدفعها للمصريين (العاملين في المعبر) كتنسيق دخول، لكن بسبب عدم امتلاكي المبلغ اضطررت للانتظار نحو 3 أو 4 أسابيع حتى جاء دوري ضمن كشوف السفر"، قالها "سامر" بغصّة أثناء حديثه لـِ "الاستقلال".

ونظرًا للضغط المتواصل في أزمة المسافرين من غزة، نتيجة استمرار إغلاق المعبر من الجانب المصري خلال السنوات الماضية، ذهبت وزارة الداخلية نحو تنظيم العمل من خلال كشوف تُراعي فئات المرضى والطلاب الراغبين بالسفر. 

وكشفت تقارير محلية عن رشىً تُدفع للعاملين في معبر رفح من الطرف المصري، مقابل تسهيل دخولهم بدلًا من الانتظار لأسابيع طويلة، إذ تصل إلى نحو 3 آلاف دولار مقابل عبور الشخص الواحد.

في حِسبة سريعة أجراها برأسه، لم يتبقّ في جيب "سامر" سوى 1100 دولار، وهو مبلغ يجب أن يكفيه لتغطية تذاكر السفر إلى تركيا، ورحلة المرور بمصر وصولًا إلى مطار القاهرة، أضف إلى ذلك المصاريف اليومية قبل الوصول إلى أوروبا. 

ثلاث ليالٍ

بعد أن ختم جوازه في الصالة الفلسطينية من المعبر، توجّه الشاب إلى الشق الذي تديره السلطات المصرية، وهناك بدأت رحلة طويلة من الانتظار استمرت نحو 8 ساعات، من أجل تسليم الجوازات وختمها.

يقول سامر: "انتظرت من الساعة العاشرة صباحًا وحتى السادسة مساءً؛ سلّمت جوازي للمصريين ثم بدأت أعدّ الساعات للحصول على ختم مرور بمصر. الوقت هنا يمر ببطء. قاعة الانتظار سيئة للغاية وغير مهيّأة".

قبل مغرب اليوم المذكور، نادى ضابط من جهاز الأمن الوطني المصري على "سامر"، ضمن ما يُعرف بين الغزّيين بـِ"مقابلة المخابرات"، وسأله عن سبب ذهابه إلى تركيا، فهذا السؤال بات معهودًا منذ مجيء نظام عبد الفتاح السيسي.

وتضع السلطات المصرية عراقبل جمّة أمام الفلسطينيين المسافرين إلى تركيا وماليزيا تحديدًا، وتُخضعهم لمقابلات يتم خلالها طرح أسئلة حول غاية السفر والهدف منه.

أجاب "سامر" أنه سيسافر بغرض السياحة والبحث عن فرصة عمل جيّدة تُعينه على بناء مستقبله، واستنادًا على تلك الإجابة قرّر الضابط عبوره سريعًا إلى مطار القاهرة، وهو ما يُسميه الفلسطينيون بـِ"الترحيل".

الترحيل ليس بالأمر الهيّن، فالرحلة تحتاج نحو يومين أو 3 بعد الخروج من الصالة المصرية للمعبر، مرورًا بحواجز أمنية وتفتيش قبل الوصول إلى المطار، ومن ثم مغادرة مصر إلى المكان المقصود، وأحيانًا يضطر البعض للمبيت في المطار أيضًا.

اصطحب الشاب المسافر أمتعته واستقل عربة الترحيل، وقبل الوصول إلى منطقة العريش في محافظة شمال سيناء، فرض الجيش حظر التجول، وهو ما يعني المبيت في الشارع حتى صباح اليوم التالي، في ظروف عجز "سامر" عن وصفها.

"على مسؤوليتك"

بعد ليلة قاسية انقضت على الحاجز رفقة مئات العائلات الفلسطينية والشباب، فُتح الطريق عند الثانية ظهرًا، لكن الفرج لم يأتِ؛ فهؤلاء سينتظرون ساعات أخرى لأغراض تفتيش مفصّل ودقيق، تُجريه السلطات المصرية بشكل فردي.

السيناريو ذاته يتكرر عشرات المرات، فالطريق مفخخ بالحواجز قبل الوصول إلى "المعدّية" (باخرة تحمل السيارات) المخصصة لعبور قناة السويس من سيناء باتجاه القاهرة، وهناك فصل آخر من المعاناة.

الانتظار على المعدّية يستمر ساعات طويلة ربما تصل إلى العاشرة من صباح اليوم التالي، وذلك نظرًا للازدحام الشديد وتكدّس المسافرين في وقت واحد، إضافة إلى التعطيل والعمل بشكل غير منتظم. 

حديث للسائق قطع شرود "سامر": "الانتظار قد يطول. أقترح عليك قطع القناة للوصول إلى الضفة الثانية من خلال معدّية الأفراد، لكن الأمر محفوف بالمخاطر. المجازفة ستكون على مسؤوليتك".

لم يأبه لاقتراح السائق، وفضَل الانتظار حتى الصباح بدلًا من اللجوء إلى طريق مجهول لا تُحمد عقباه، وانتظر حتى جاء دور السيارة التي تُقلّه في العبور فوق القناة.

بعد عبور الطريق الذي يقطع قناة السويس بساعات طويلة، وصل "سامر" أخيًراً إلى مطار القاهرة، وفورًا ابتاع تذكرة طيران على متن أول رحلة إلى تركيا.

المعاناة في مصر لم تنتهِ بعد، فموعد تلك الرحلة فرض على الشاب الغزّي الانتظار حتى صباح اليوم التالي، داخل ما بات يسمى "غُرف الترحيل" في المطار، تحت رقابة أفراد جهاز الأمن الوطني، ومن ثم تحرك نحو محطته الثانية.

لم يقوَ "سامر" على وصف غرف الترحيل من شدة الكآبة التي تركتها عالقة في ذهنه، لكنه اكتفى بالقول إنها تفتقر لأدني مقومات الحياة اليومية، والحمامات قصة أخرى.

استراحة مهاجر

فصول الحكاية يُكملها شاب آخر سافر إلى تركيا بنفس الدافع الذي أجبر "سامر" على الخروج من غزة، فـ"عبد المجيد" (اسم مستعار) مرّ بذات المراحل التي عاشها الأول وصولًا إلى مدينة إسطنبول.

تركيا كانت لـِ"سامر" و"عبد المجيد" وغيرهم من الشباب الغزيين بمنزلة استراحة مهاجر، بعد رحلة العذاب الطويلة التي استمرت أكثر من 4 أيام من أجل العبور بمصر.

يقول "عبد المجيد" إن نزوله في إسطنبول مسألة وقت حتى تسنح له الفرصة بالتعاقد مع "مهرّب" يُؤَمِّن سفره إلى أوروبا، مؤكدًا أن ذلك يتم بطريقة غير قانونية، لكنه مضطر لذلك كما مئات الشباب من مثله.

مسألة الوقت التي تحدّث عنها الشاب المهاجر تتأرجح بين يومين و5 أيام، وتنقضي مباشرة بمجرد تأمين الرحلة ودفع مبلغ يقترب من 2000 دولار أمريكي لأحد مكاتب التهريب.

"الاستقلال" رافقت "عبد المجيد" في رحلته التي انطلقت من مدينة أدرنة التركية (قرب الحدود مع بلغاريا واليونان)، ومن هناك روى الحكاية بالتفصيل، عبر تطبيق "واتساب" للمحادثات الفورية.

رحلة الموت

اتفق المهرب مع "عبد المجيد" و43 شخصًا على أن المبلغ المدفوع يُغطي نفقات السفر والأكل والشرب، و"أن الرحلة تقتضي السير على الأقدام 4 ساعات فقط ثم استكمال الطريق بالسيارة، لكن الاتفاق كان كلام في الهواء".

ويُضيف: "تحركنا من إسطنبول إلى أدرنة بدولمش (باص صغير)، وقبل الوصول إلى الحدود اليونانية التركية أمرنا دليل الطريق (يعمل مع المهرّب) بالنزول والسير باتجاه الغابة، فلم يكن أمامنا سوى الانصياع لطلبه".

عند الوصول إلى الغابة كان الظلام قد حل على المجموعة المهاجرة، فاضطروا جميعًا إلى المبيت فيها أول ليلة، وسط ظروف قاسية وأجواء مشحونة بالخوف والتوتر.

أثناء رحلة المشي عاش هؤلاء فصلًا مختلفًا من المعاناة بسبب معرِّف الطريق (الدليل) الذي كان يحمل هروة ويضرب فيها كل من يخالف التعليمات، في ظل معاملة دونية وتهديدات بتسليمهم للشرطة التركية ومنها إلى السجن.

في الساعة السادسة من صباح اليوم التالي، أكمل "عبد المجيد" ورفاقه المسير باتجاه النهر الفاصل بين تركيا واليونان والبالغ طوله 50 مترًا، وفق تقديره، لكن المشي استمر حتى ساعات المغرب، فتكرر سيناريو المبيت على ضفة النهر من الجانب التركي.

في الطريق الذي استمر يومين قبل الوصول إلى النهر مشيًا، صادف المهاجرون قُطّاع طرق، سلبوا منهم كل ما يحملونه من أموال وأكل وشرب، حتى أن الأمر تطور إلى "ضرب بالسلاح" إذا تمنّع أحدهم.

تجار البشر

ويُشير إلى أن المهرّب كان يتعاطى حبوبًا منشطة، ويتصرف بطريقة غريبة عندما يرفض الشباب تلبية طلبه بإحضار الطعام له. "من لا يعطيه أكلًا يتم ضربه وتركه في الغابة، ولا أحد يتدبر أمره".

مجموعة مخاوف تحدّث عنها "عبد المجيد"، بدءًا من تعامل المهربين، مرورًا بقطاعين الطرق، والتهديد بالتسليم للأمن التركي، وليس انتهاءً بمصير غامض كالغرق في النهر، أو اعتراض أفراد حرس الحدود اليوناني.

في النهر حكاية أخرى محفوفة بالموت كما يصفها الشاب، قبل أن يفصّل حديثه: "قطعناه بشكل فردي وبصعوبة بالغة، ثم مشينا في الغابة من الطرف اليوناني. نمنا هناك في انتظار الخطوة المقبلة التي يُحددها المهرّبون"، واصفًا إياهم بـِ"تجار بشر".

"أثناء الانتظار لم نكن نملك طعامًا ولا شرابًا. من شدة العطش شربنا من ماء النهر. كانت ملوثة وغير صالحة للاستخدام الآدمي. لكن شعور الموت من العطش أجبرني على الشرب"، يُضيف "عبد المجيد".

ويزيد من وصف الطريق بعد قطع النهر: "مشينا غابات، وصعدنا جبال، وتخطينا سككًا حديدة، وعبرنا طرقًا وعرة للغاية"، مستطردًا: "من يتعب يُترك وحده ولا أحد ينتظره بناءً على تعليمات المهرّب".

لا رحمة

أكثر مشهد آلم الشاب المهاجر، كان لعائلة سورية مكونة من رجل (50 عامًا) وزوجته (45 عامًا) وولديه (19 و20 عامًا)، إذ أنهم كانوا يجاهدون من أجل الوصول إلى مدينة "سالونيك" اليونانية، في ظل انعدام المأكل والمشرب.

على الطرف اليوناني استُقبل هؤلاء برصاص عشوائي أطلقه رجال الأمن المتمركزين هناك، ومن يتم الإمساك به يُسلّم إلى السلطات التركية، وفق ما يقول "عبد المجيد".

وقبل الوصول إلى "سالونيك" تفاجأ الشباب بطلب المهرّب مبلغ 30 دولارًا لتأمين سيارة تُقلهم إلى داخل المدينة، حيث تم نقلهم في ظروف أقل ما تُوصف بالقاسية.

ويُضيف: "اضطررنا لدفع المبلغ المطلوب. نريد الوصول بأقل الخسائر. وضعونا في سيارة صغيرة. 4 أشخاص في مؤخرتها والباقي داخلها. سار السائق بسرعة جنونية ربما تصل 200 (كيلومتر في الساعة) دون مراعاة الطريق".

بعد 4 أيام انقضت مشيًا وسبحًا وصل المهاجرون إلى مدينة "سالونيك" في اليوم الخامس منقوصي العدد، فبعد أن كانوا 43 شخصًا أصبحوا 4 فقط، ولا يدري هؤلاء ماذا حل بالباقين؟

حسب وصف الشاب ومن معه، وصل هؤلاء "موتى من الجوع والعطش"، لكنهم يعيشون على أمل بدء حياة جديدة أفضل من تلك التي تركوها خلفهم في غزة.

ويلجأ فلسطينيون من القطاع إلى السفر لأوروبا عبر البحر انطلاقًا من تركيا أيضًا، في رحلة هي الأخطر بين وسائل التهريب المتاحة، خاصة أن  شباناً لقوا مصرعهم غرقًا خلال السنوات القليلة الماضية.

ولا توجد إحصائية رسمية بعدد هؤلاء، لكن مراكز حقوقية أفادت بأن العشرات من أهالي غزة لقوا مصرعهم، وأُصيب المئات في البحر المتوسط خلال عمليات هجرة إلى أوروبا خاصة بين عامي 2014 و2015.

وتُشير إحصاءات وبيانات غير رسمية، أن أكثر من 20 ألف غزّي هاجروا خلال السنوات الأربع الأخيرة، نتيجة الفقر وانعدام الأمل في إنهاء الحصار وتحقيق المصالحة الداخلية، وهي أسباب اضطرتهم للهجرة إلى أوروبا بطريقة غير قانونية.