القتل وهدم المنازل يطارد أهالي سيناء ويدخلهم غياهب المجهول

منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

تتعثر خطوات العابرين من أرض الفيروز في حقل إجراءات ثقيلة تفرضها عليهم السلطات المصرية، ليجتمع عليهم كمد بكمد، أما الأول فترك ديارهم وملاعب صباهم، والثاني طريق وعر وغربة حارقة لم ترحم نكبتهم فأثابتهم غما بغم.

وتعود موجات النزوح الجماعي لأهل سيناء من مناطق رفح والشيخ زويد إلى العام 2014، تحديدا بعد قرار الحكومة المصرية في تشرين الأول/ أكتوبر، بإنشاء منطقة عازلة على الشريط الحدودي مع قطاع غزة، ليبدأ الجيش بالإشراف على عمليات الإخلاء والتهجير.

ومع بداية العام 2017 أقر النظام المصري حزمة إجراءات صعبة للدخول إلى سيناء، وتحديدا مناطق رفح والشيخ زويد والعريش، تمثلت في عدم السماح للمواطنين بدخولها إلا لمن يحمل بطاقة صادرة من السجلات المدنية بشمال وجنوب سيناء، أو لمن يحمل كارنيه يثبت عمله بجهة حكومية هناك، أو كارنيه البحث الجنائي الخاص بدخول المصريين لشرم الشيخ المفروض على العاملين بالمدينة، وعدم السماح بانتقال السائحين إلا من يحملون حجز غرف فندقية أو إيجار شاليه أو شقة هناك.

كان هذا لمن هم خارج الديار السيناوية، أما من في الداخل فلهم أوضاعهم الخاصة من شقاء تتابع عليهم من كل حدب حتى غدت حيواتهم بعيدة الخطى نحو الهدوء والاستقرار، واضطروا إلى الهجرة بحثا عن الأمان.

الفرار نحو المجهول

هذه السياج من القوانين المفروضة على الداخلين إلى سيناء وإن حملت مزيدا من العزلة لأهلها، وفصلت مصر وجدانيا وعمليا عن حدودها الشرقية، إلا أن المشهد حمل دلائل كارثية أخرى عندما تم تهجير مئات العائلات والقبائل من مناطق رفح والشيخ زويد، والذين يقدر عددهم بالآلاف، ويقول أحد أفراد هذه القبائل، والذي رفض ذكر اسمه لدواع أمنية، إنه رب أسرة مكونة من 7 أفراد، وقد شاهد بعينه "تعمد الجيش قصف مناطق مأهولة بالسكان في منطقة غرب رفح، وإطلاق صواريخ من الطيران الحربي على الحقول والمزارع".

ولفت إلى أن إصابة منزله بشكل مباشر في قصف، وأصاب أحد أطفاله بجروح، هو الذي دفعه للخروج، لينزح مع عائلته إلى الداخل نحو العاصمة.

بينما يقول "أبو محمد رضوان" من أهالي العريش، إنه أشرف بنفسه على مغادرة مئات العوائل من بيوتهم في رفح والشيخ زويد إلى الإسماعيلية ومدن القناة، حيث شبه الهجرة التي تحدث بما حدث لأهالي القناة إبان نكسة 67، عندما فروا هاربين من جحيم الجيش الإسرائيلي نحو القاهرة والدلتا.

وأكد أن الأمر ينطبق على سكان سيناء من المناطق المنكوبة، مشيرا إلى أنهم غادروا دون ترتيبات وفي أوضاع مزرية مخلفين ورائهم الكثير من أمتعتهم وأراضيهم.

ويعد ذلك مخالفة صريحة لنص الدستور المصري، الذي ينص في المادة 63 على "يحظر التهجير القسري على المواطنين بجميع صوره وأشكاله، ومخالفة ذلك جريمة لا تسقط بالتقادم".

"سيناء .. الحصاد المر"

لم تمر على أرض مصرية في التاريخ الحديث رياح العذاب التي مرت بسيناء، أعوام من الحروب والإهمال والتردي قادوا المنطقة إلى أوضاع كارثية، فشمال سيناء التي يقطنها قرابة المليون وأربعمئة ألف نسمة حسب تقرير الجهازي المركزي للتعبئة والإحصاء لعام 2013، عاشت أوضاعا متأزمة وتقلبات حادة في سياق مناخ سياسي ساخن أرسل نفثاته هناك، فكان الحصاد المر لتلك المنطقة عقب انقلاب الجيش في الثالث من تموز/يوليو 2013 بقيادة عبد الفتاح السيسي.

ولم تكن أوضاع السيناويين قبل ذلك بالمطمئنة، ولكنهم تلقوا الصدمة الأكبر من هذا التحرك العسكري، فعلى مدار الأعوام التالية كانت النتائج الرقمية كارثية لما آلت إليه أوضاع الشعب هناك، فحسب تقرير المرصد المصري للحقوق والحريات فإن قوات الجيش والشرطة ارتكبت الجرائم الآتية بحق المدنيين:

"القتل خارج إطار القانون  1374 حالة، الاعتقال التعسفي 11906 حالة، حرق عشش البدو 1853 عشة، تدمير وحرق منقولات مادية خاصة بالمدنيين 1967 (600 سيارة _ 1367 دراجة بخارية)، المنازل المهدمة  2577 منزل، عدد الأسر المهجرة 3856 أسرة، عدد الأفراد المهجرين  26 ألف و992 فرد ما بين طفل وشاب وامرأة وشيخ، مساحة المنطقة المهجرة  1500 م عرض ×  13.5 كم طول"، وفقا للمرصد.

وتلك الحصيلة في طور الزيادة المستمرة غير المتوقفة، فلا تكاد تخلو ساعة من نهار إلا وهناك انتهاك واقع على أهل سيناء.

وتأتي هذه الحصيلة لتعضد أن أرض سيناء أرض حرب، وأن النظام الذي أدخل الإقليم في عام طوارئ شديد الوطأة قد تسبب للمواطنين بخراب لم ينالوه من قبل، ثم أطلق عملية "حق الشهيد"، وعملية سيناء 2018، والمعروفة باسم "المجابهة الشاملة" التي حصدت بجوار عدد قليل من المسلحين الكثير من المدنيين الأبرياء، وهو ما جعل من خيارات الحياة والاستقرار في المنطقة معدومة، وباتت فرص النجاة في العبور إلى الضفة الأخرى من القناة هي الأمل لعدد كبير من الناس لمن استطاع إليها سبيلا.

وهذا جانب من وقائع المؤتمر الصحفي للمتحدث العسكري باسم القوات المسلحة المصرية عن "العملية العسكرية الشاملة سيناء 2018"، الذي مثل بداية مرحلة صعبة لأهالي سيناء.

الأرزاق القلعة الأخيرة

قد يصبر الرجل على المرض والألم والظلم ولا يصبر على الجوع، ما بعد التهجير القسري وهدم المنازل تأتي مسألة التحكم في الأرزاق وتضييقها لتقضي على بقية أمل في نفوس الكثير من المواطنين، فالجيش سيطر تماما على ميناء العريش وتحكم في حركة الصيد من خلاله، ثم قام بتسليم إدارة بحيرة البردويل إلى شركة تابعة للقوات المسلحة والتي مارست قهرا ضد الصيادين وفرضت عليهم "الإتاوات"، ثم قام الجيش بتبوير عدد كبير من الأراضي الزراعية، كما نقل أعمال النقل والتوريدات والمحاجر إلى نفسه، مما جعل من عملية الحركة والعمل الحر شبه مستحيلة، وما على العامل إلا أن ينتظر الحصول على مد يد مما يخرج من بقايا "البيزنس" العسكري، أو أن ينساب في الأرض بعيدا يبحث له عن موطن آخر يأخذ فيه بأسباب الرزق.

المسيحيون لم يسلموا

في شباط/ فبراير 2017، فرت العشرات من الأسر المسيحية من مدينة العريش المصرية إلى الإسماعيلية، بعدما قتل مسلحون عدد من المسيحيين في أماكن وحوادث متفرقة، وتعد الحادثة الأبرز في مأساويتها، عندما اقتحمت العناصر التابعة لتنظيم الدولة منزل المواطن كامل رؤوف يوسف "40 سنة" في مدينة العريش، وقامت بتصفيته أمام زوجته وأولاده، في ظل عجز كامل من الأمن في تأمين السكان، الذين قرروا الهجرة ليكونوا في مأمن.

"إذا كنت سيناويا"

إذا كنت مواطنا سيناويا ومدون ذلك في بطاقة هويتك الشخصية وأوقفك كمين أو أوقفت في أحد نقاط التفتيش فأنت عرضة للخطر وللمعاملة المختلفة من حيث القسوة والتربص، ولا يحصل أهل سيناء على أي مناصب بارزة داخل مؤسسات الدولة فضلا عن الجيش والشرطة، مع نقص حاد في خدمات التعليم والصحة وما يؤسس لمجتمع يملك الحد الأدنى من إحداث طفرة معيشية بداخله، فعلى المواطن هناك أن يجتاز مجموعة من الصعوبات والعقبات ليستطيع البقاء في الحدود الدنيا من المعيشة، وفقا لشهود عيان.

بحثا عن حياة أفضل، يقدم البعض من أهالي سيناء على تغيير هويتهم ونسب أنفسهم إلى محافظات أخرى ليتجاوزوا كل عقبات الحياة التي تسببها لهم هويتهم السيناوية، ورغم صعوبة هذه العملية لانهم في غالبيتهم أبناء عوائل وعشائر ينتمون إلى قبائلهم أولا وأخيرا، إلا أن هناك من يضطر إلى فعل ذلك لظروف مختلفة، والبعض الآخر يحمل حقائبه مهاجرا إلى مدن أخرى بعيدة بحثا عن الأمن والأمان والحياة الكريمة.

وقد أكد الناشط المتخصص في الشأن السيناوي حسام الشوربجي، أنه منذ مارس/ آذار 2017 أعطى جهاز الأمن الوطني أوامره إلى الجهات المعنية، بعدم الإقدام على تغيير الهويات الشخصية لمواطني سيناء إلا بعد مراجعة الجهاز، ومنذ ذلك الحين لم يتم تغيير بطاقة واحدة!

فضلا عن التعسف الذي يجده هؤلاء من قبل الأجهزة الأمنية، يقول "الشوربجي" إنه إذا كنت مواطنا من العريش أو الشيخ زويد فهذا من سوء حظك، فأنت عرضة للاعتقال المباشر، والتنكيل الشديد، وأكم من أفراد من هذه الأماكن تم توقيفهم في كمائن داخل القاهرة والإسكندرية، أو في منطقة الدلتا، وبمجرد اكتشاف أنهم من أهل سيناء يذهبون إلى المعتقل مباشرة حتى ينظر في أمرهم.

لتصبح تركيبة الوضع في سيناء غاية في التعقيد، إذا ما أضفنا تزايد الجماعات المسلحة واتساع رقعتها، وتكون الأرض في مجملها محرمة على أبنائها خاصة والمصريين بشكل عام، وأن الهجرة خارج زمامها الحرام غدا الحل الأمثل للباحثين عن الحياة، وهو ما يمثل محور تهديد بالغ، وخلل ديموغرافي في منطقة استراتيجية هي الحصن الأول لأمن مصر من الناحية الشرقية.