عبدالمحسن السعدون.. عراقي رافق السلطان عبدالحميد وقاد بلاده ضد بريطانيا

يوسف العلي | منذ عام واحد

12

طباعة

مشاركة

في 13 نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام، يستذكر العراقيون الرحيل الغامض لرئيس الوزراء عبد المحسن السعدون، الذي يعد أبرز شخصية سياسية لعبت دورا في تشكيل الدولة إبان العهد الملكي.

وتولى السعدون رئاسة وزراء العراق كثاني شخصية تشغل المنصب خلفا لعبد الرحمن الكيلاني النقيب، وذلك إبان تأسيس الدولة عام 1921، إذ ترأس الحكومة في العهد الملكي منذ 1922 وحتى وفاته في 1929.

"مات منتحرا"

في مساء 13 نوفمبر 1929، تلقى المقربون من السعدون نبأ وفاته، ثم أجري له في اليوم التالي تشييع رسمي وشعبي في بغداد، ردد فيه المشيعون هتافات نددت بالإنجليز، قالوا فيها: "عبد المحسن ناخذ ثاره، وساعة ويا لندن مرهونة"، وهي تدل على التوعد بأخذ ثأر السعدون من لندن وأتباعها.

ونقلت صحيفة "المدى" العراقية في 12 نوفمبر 2014، جزءا من مذكرات صديق السعدون، عبد العزيز القصاب الذي يروي فيها قصة وفاته، بالقول إن "السعدون في تلك الليلة ذهب إلى النادي العراقي في منطقة محلة السنك وبقي هناك ساعة أو أكثر ثم رجع إلى البيت".

وأضاف القصاب: "في الساعة التاسعة من تلك الليلة جاءني الطباخ مبروك مرتعدا وهو يقول إن الحارس أخبره بمقتل السعدون".

واستطرد: "قمت مسرعا إلى داره في البتاويين (منطقة ببغداد) التي كانت قرب داري، رأيت الشرطي العريف في الباب يبكي وأشار إلي بأن الحادثة وقعت في الطابق الثاني".

"فصعدت مهرولا فوجدت زوجته وابنته عائدة تنوحان وأشارتا إليه فإذا به ملقى على فراشه جثة هامدة، فاقتربت منه وشاهدت صدره مثقوبا من جهة قلبه بطلقة مسدس"، يروي القصاب.

وتابع: "فسألت مدهوشا؟ فأجابتني عائدة بأنه هو الذي ضرب نفسه، وهذا هو مسدسه، ولما أيقنت بمفارقته الحياة تألمت ألما شديدا ونزلت إلى غرفته (المكتبة) وجلست على كرسي أمام طاولة الكتابة وأنا متأثر جدا، وأخبرت رئيس الصحة والأطباء والوزراء عن الحادث".

وزاد: "ثم نظرت إلى الطاولة فوجدت عليها كثيرا من الأوراق الرسمية، وقد لفت نظري كتاب مفتوح موضوع فوق الأوراق فأخذته وقرأته وإذا به كتاب وصيته الخالدة.. (الأمة تطلب الخدمة والإنجليز لا يوافقون)".

وقال "بعد أن أجهشت في البكاء طويت الكتاب ووضعته في جيبي، ثم أخذ الوزراء والنواب ورجال البلد يتواردون على الدار ويتساءلون فيما بينهم عن أسباب الانتحار".

ونشر القصاب الوصية التي كتبها السعدون إلى نجله علي باللغة التركية، كونه تعلم وعاش سنوات طويلة في إسطنبول: "ولدي وعيني ومستندي علي! أعف عني لما ارتكبته من جناية، لأني سئمت هذه الحياة التي لم أجد فيها لذة وذوقا وشرفا، الأمة تنتظر الخدمة.. الإنجليز لا يوافقون.. ليس لي ظهير".

وأضاف السعدون: "العراقيون طلاب الاستقلال ضعفاء وعاجزون وبعيدون كثيرا عن الاستقلال. وهم عاجزون عن تقدير نصائح أرباب الناموس أمثالي".

وأفاد "يظنون أني خائن للوطن وعبد للإنجليز، وما أعظم هذه المصيبة! أنا الفدائي الأشد إخلاصا لوطني، وقد كابدت أنواع الاحتقارات، وتحملت المذلات في سبيل هذه البقعة المباركة التي عاش فيها آبائي وأجدادي مرفهين".

وتابع: "ولدي.. نصيحتي الأخيرة لك هي أن ترحم إخوتك الصغار الذين سيبقون يتامى، و(تحترم والدتك)، وتخلص لوطنك. أن تخلص للملك فيصل وذريته إخلاصا مطلقا. اعف عني يا ولدي علي".

روايات أخرى

ووردت روايات كثيرة مختلفة عن حادثة وفاة رئيس وزراء العراق الراحل، والأسباب التي أدت إلى نهاية حياته، وذكرت دراسات أكاديمية أنه قتل ولم ينتحر، ووجدوا رصاصتين في رأسه عندما عثر عليه ميتا في 13 نوفمبر  1929، حسبما ذكر موقع قناة "الحرة" الأميركي في 8 أغسطس 2013.

وذكرت الروايات أن السعدون توفي في ظروف غامضة بعد إعلانه مناهضة السياسة البريطانية، ورفضه التوقيع على معاهدة عام 1925، التي تمدد الانتداب البريطاني على العراق.

وفي كتاب "ضابط الاستخبارات.. روايات وذكريات" للكاتب العراقي، غيث ضرغام خليل جاسم، الذي صدر عام 2022، نقل رواية عن العالم الاجتماعي علي الوردي، قوله: "السعدون كانت لديه مشاكل عائلية كثيرة، خصوصا مع زوجته التركية، وبسببها انتحر".

وفي 2 فبراير 2017، نشرت مجلة "الشبكة" التابعة لشبكة الإعلام العراقي الرسمية أن "الأقوال اختلفت في سبب الوفاة، غير أن الحقيقة لم تلبث أن ظهرت، فإذا بهذا الرجل قد ضحى بنفسه في سبيل بلاده".

وتابعت: "فقد قضى ليل الأربعاء 13 نوفمبر في النادي العراقي، وفي الساعة الثامنة عاد إلى داره وتناول طعام العشاء كعادته وهو في حالة طبيعية، ثم سمع صوت الرصاص يصدر من غرفته، ووجد مضرجا بدمه".

وأصدرت الحكومة العراقية حينها نعيا رسميا، قالت فيه: "تنعي الحكومة بمزيد الأسف والأسى رئيس الوزارة فخامة عبد المحسن بك السعدون، مودعا الحياة في داره حوالي الساعة التاسعة من مساء الأربعاء في 13 من تشرين الثاني 1929، وقد ترك وصية تاريخية إلى ابنه شارحا فيها ما دعاه إلى هذه التضحية".

وكان السعدون قد تعرض إلى محاولة اغتيال بعد تشكيل وزارته الثانية في 10 أغسطس/آب 1926 من شخص يدعى عبد الله أفندي حلمي.

إذ قام حلمي بطعن السعدون بـ"موس" (شفره حلاقة) في صدغه أثناء صعوده السلم إلى ديوان رئاسة الوزراء، ونقل على إثرها إلى المستشفى لمعالجته، وألقي القبض على الجاني.

واعترف عبد الله أفندي حلمي حين إجراء التحقيق أنه قام بالعملية كونه "قد مل المراجعة من أجل التعيين في الوظيفة، مما دفعه إلى الإقدام على ذلك العمل، وأن هناك سياسة تتحكم فيها المحسوبية والمنسوبية تتبع في التعيينات والترفيعات".

وحكم على حلمي بالسجن 30 شهرا رغم تنازل السعدون عن حقه الشخصي، وقد ذكر العديد من معاصري تلك الفترة أن السعدون حاول التخفيف من العقوبة التي حكم بها على الجاني، بل إنه أرسل إلى أسرته ما يعينها بفقده.

ويعد استهداف شخصية سياسية بمستوى رئيس الوزراء "جريمة سياسية"، وتصل إلى الاغتيال السياسي، رغم الادعاءات الشخصية للمتهم حلمي التي أفادت بأن عملية استهداف السعدون كانت نتيجة "أسباب شخصية" تخص المتهم.

وتزامنت تلك الحالة مع الظروف العامة للعراق، وخاصة بعد أن زادت حكومة السعدون الثانية من فرض ضرائب عدة في بداية مارس/ آذار 1926، محاولة منها لإنقاذ البلاد من حالة الركود الاقتصادي نتيجة الأزمة التي كان يتخبط بها في تلك المدة.

وكانت لتلك المحاولة تداعياتها على شخص السعدون، فقد أسهمت في ازدياد معاناته من مرض السكري نتيجة الجرح الذي أصابه جراء محاولة الاغتيال.

كما زادت من أسباب افتقاده للراحة النفسية، خاصة أن المصابين بمرض السكر يعانون من حالة عدم الاستقرار النفسي بفعل المضاعفات التي تترتب على إصابتهم بأية جروح في أجسادهم، والتي اقترنت بالأسباب الأخرى، ومنها خلافه الدائم مع زوجته.

مرافق السلطان

ولد عبد المحسن السعدون في مدينة الناصرية عام 1879 في عشيرة السعدون العربية، وكان قد أخذ قسطه من التعليم المعتاد، ليصبح مؤهلا لدخول المدارس الرشدية (المرحلة التعليمية المتوسطة)، وليغادر بعدها لتلقي تعليمه بالمدرسة الحربية في مدينة إسطنبول التركية.

وتخرج السعدون منها برتبة ملازم في الجيش العثماني، وكان ضابطا رفيع المستوى، وجعله السلطان عبد الحميد الثاني، مع أخ له اسمه عبد الكريم، مرافقين له، وظل في إسطنبول بعد خلع السلطان العثماني من الحكم، فانتخب نائبا عن لواء المنتفق (مدينة ذي قار العراقية حاليا) في مجلس النواب العثماني.

بعدها عاد إلى العراق خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918).

ويرجع نسب أسرة السعدون للأشراف من سلالة أمراء المدينة المنورة (أعرجية حسينية النسب)، وهم حكام إمارة المنتفق (ذي قار حاليا) تاريخيا، والتي كانت تضم معظم مناطق وقبائل وعشائر جنوب ووسط العراق.

وفي نفس الوقت فإن أسرته شيوخ قبائل اتحاد المنتفق (أكبر اتحاد للقبائل والعشائر مختلفة الأصول شهده العراق)، وكان أبوه حاكما على اللواء وأميرا لعشائره.

وعندما كان السعدون عضوا في مجلس النواب العثماني ممثلا مع شخصيات أخرى للولايات العراقية، انتمى لـ"الجمعيات السرية" التي تدعو لاستقلال العراق، وخلال الحرب العالمية الأولى ساهم في المعارك ضد الإنجليز.

ولما وضعت الحرب أوزارها وعاد العراقيون إلى بلادهم، برز السعدون كإحدى الشخصيات في القيادة السياسية والحكم في عهد الملك فيصل الأول (1883-1933)، إذ أصبح وزيرا للعدل لأول مرة عام 1922، ثم وزيرا للداخلية، ثم تقلد منصب رئاسة الوزراء في 17 نوفمبر من السنة ذاتها.

وفي تلك الظروف الصعبة، عمل جاهدا على قيام نظام برلماني يستند على قاعدة أن الأكثرية الحزبية هي التي تشكل الحكومة، ففي 16 يوليو/تموز 1925 حينما افتتح البرلمان لأول مرة، كان حزب "التقدم" الذي يرأسه السعدون يمثل الأغلبية، ونشأت المعارضة القوية التي كان يتزعمها ياسين الهاشمي (رئيس وزراء سابق).

وكانت مساعي السعدون تتركز خلال فترة الانتداب البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى "بالتوفيق ولو بالحدود الدنيا" بين الإرادة الوطنية وإرادة سلطات الاحتلال، فحاول أن يجعل من العراق دولة ذات قرار مستقل تسير نحو الاستقلال.

كما سعى إلى تهيئة العراق للأخذ بزمام أموره في المجال العسكري والاقتصادي والسياسي، وذلك حينما أصر وبقوة على استقلال العراق ودخوله "عصبة الأمم"، خاصة بعدما ضمن قضية بقاء الموصل عراقية بعقد المعاهدة الإنجليزية التركية العراقية، في 5 يونيو/حزيران 1926.

لكنه عندما علم أن الإنجليز أخذوا يتنصلون كعادتهم من التزاماتهم، وأدرك أنه لا سبيل للتوفيق، وأنه وصل إلى نهاية الطريق المسدود، وأنه لا يمكن أن يخون مبدأه وشعبه، وأدرك عمق التناقض في التوفيق بين الاحتلال وإرادة الاستقلال، كانت حياته ثمنا لإدراكه هذه الحقيقة.

وحضر ملك العراق فيصل إلى دار رئيس الوزراء الراحل ساعة وفاته، ووقف في حزن عميق أمام جثته قائلا: "لقد خسرناك وخسرتك البلاد يا عبد المحسن"، ثم دخل على أهل الفقيد يواسيهم ويعزيهم، بالقول: "إنني آسف جدا لهذا الخطب الجسيم الذي رزئنا به".

وتابع: "مما يدعو إلى الفخر أن عبد المحسن ضحى بحياته في سبيل الواجب والوطن، يجب علينا من جهة أخرى أن نجد سلوى وتعزية في هذا الحادث الذي دل على أن العراق لن يموت لأن تربته تنبت رجالا عظاما من أمثال السعدون".