أطاح برجاله.. هكذا هيكل النظام المصري الآلة الإعلامية لصالحه

منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"تمرير القرارات والسياسات، من خلال إبراز جوانب محددة من القصة، والتركيز عليها من قبل السارد أو القناة الإعلامية، وإغفال جوانب أخرى، وطمس أجزاء بعينها حسب هوى المتحدث"، هذا هو الهدف الأساسي لنظرية "التأطير" الإعلامية، التي وضعها وزير الدعاية الألماني النازي، جوزيف جوبلز، لوضع الشعوب أمام خيارات محددة، تحكم من خلالها وفق ما صنعته النظرية.

تماما هذا ما كشفه تسريب صحيفة "نيويورك تايمز"، الخاص بتعاطي الأذرع الإعلامية للنظام المصري، مع إعلان الولايات المتحدة، اعترافها بمدينة القدس المحتلة، عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وأظهرت التسجيلات الصوتية أوامر ضابط بالمخابرات الحربية، لمجموعة من الإعلاميين المصريين يحضهم على إظهار القضية بطريقة معينة، وإغفال جوانب أخرى، مثلما فعل الوزير النازي في نظرية التأطير المذكورة.

 

الهدف الرئيسي

لا يمكن إغفال أن الترويج للنظام هو الهدف الرئيسي للأذرع الإعلامية المصنوعة على عينه، ووظيفتها الأساسية خدمته، وفي مصر بعد انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013 العسكري، كانت الخريطة الإعلامية للقنوات ووسائل الإعلام تعمل بشكل مختلف في تعبئة الجماهير والرأي العام لقبول طرح العهد الجديد، ولكن الدولة المثقلة من الداخل بصراعات لا تحصى بين الأجهزة الأمنية ورجال الدولة العميقة، كانت لها حسابات مختلفة، برزت في طريقة إدارة الآلة الإعلامية والإعلاميين الموالين لتلك الأجهزة.

وفي 22 مارس/ آذار 2018، قال السيسي أثناء برنامجه الدعائي لانتخابات الرئاسة التي عقدت في ذلك العام "كيف للإعلامي أن يظهر ليخاطب الناس يوميا لمدة 5 ساعات! ماذا سيقول لهم؟!" معبرا عن تململه من الحالة الإعلامية القائمة، رغم أنها خاضعة لإرادته ولا تخرج في كثير من الأحيان عن الخطوط المرسومة لها، ليظهر التساؤل عن سببية قلق الرئيس من جهازه الإعلامي، وعن مراحل إعادة هيكلة الجهاز، والإطاحة بمؤسسات إعلامية كاملة، وإعلاميين بارزين طالما أقاموا الحروب التعبوية الشرسة خدمة للمنظومة الحاكمة.

متوالية التسريبات

في السادس من يناير/كانون الثاني 2018 نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية تقريرا صحفيا أنجزه الصحفي "ديفيد كيركباتريك"، تضمن توجيهات من ضابط مخابرات مصري يدعى النقيب "أشرف الخولي" إلى مجموعة من الإعلاميين والفنانين المصريين للترويج الضمني عن قبول الدولة المصرية لقرار ترامب بشأن القدس، والقبول برام الله بدل القدس عاصمة للدولة الفلسطينية، ومن أبرز المتورطين في ذلك التسريب الإعلامي عزمي مجاهد، وسعيد حساسين، إضافة إلى مفيد فوزي، والفنانة يسرا.

المحتوى الذي أحدث جدلية واسعة، جاء معبرا عن تجربة الإعلام المصري النظامي، والأذرع الإعلامية للسلطة العاملة تحت مظلتها.

ولم يتوقف الأمر عند تسريبات "نيويورك تايمز"، بل جاءت مجموعة التسريبات الأخرى التي أذاعتها قناة "مكملين"، وتناولتها العديد من القنوات والصحف العالمية يوم 10 يناير/كانون الثاني 2018 لتؤكد وتكشف كيف يدار الإعلام المصري الداخلي المحسوب على النظام الحكام..

في خضم التسريب يطلب النقيب أشرف (ضابط ذكرته مصادر التسريبات أنه ينتمي لجهاز المخابرات الحربية المصرية) بشكل مباشر من الإعلامي عزمي مجاهد (مقدم برامج على قناة العاصمة) أن يقوم بتوجيه إهانات حادة للنظام القطري ولشخصيات من الأسرة الحاكمة، وكذلك أن يكيل السباب للشيخ يوسف القرضاوي، الرئيس السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ذلك قبل أن يوجهه إلى التعريض بأمير دولة الكويت لتضامنها مع قطر في الأزمة الخليجية، ومع انعقاد القمة الخليجية في الكويت يوم 5 ديسمبر/كانون الأول 2017، وأن يذكر الشعب الكويتي بالدعم المصري لهم في حرب الخليج عام 1990، وهو التوجيه الذي تلقاه مجاهد معقبا بتوجيه إساءة لفظية بالغة للشعب الكويتي.

وفي حلقة 11 ديسمبر/كانون الأول 2017 على قناة العاصمة في برنامج "الملف" الذي يقدمه عزمي مجاهد، نفذ الإعلامي التعليمات بدقة وبوضوح وبالألفاظ التي وردت في التسريب، حيث قام بمهاجمة دولة قطر بضراوة، ووجه إهانات بالغة للشيخ القرضاوي، وتعرض مع ضيوفه لدولة الكويت، مذكرا بتحرير مصر للكويت في حرب الخليج.

وفي تسريب آخر طلب النقيب أشرف، من عزمي مجاهد، أن يتحدث عن القبض على وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي، وطلب النقيب من مجاهد أن يؤكد على أن مصر دولة قانون ولا أحد فيها فوق القانون، وللمفارقة، فهذا هو ما طبقه الإعلامي المصري نصا في حلقة يوم 5 ديسمبر/كانون الأول 2017 في برنامجه.

وتضمنت التسريبات معاملات بين جهاز المخابرات الحربية وعدد آخر من الإعلاميين والفنانين على غرار جابر القرموطي وخالد صلاح، والفنانة عفاف شعيب، وكذلك محادثة بين النقيب أشرف ووليد حسني رئيس قناة العاصمة الذي كان برفقة ضابط يدعى إمام من جهاز الأمن الوطني المصري.

وكشفت تلك التسريبات كيفية إدارة أجهزة المخابرات للأذرع الإعلامية للنظام، وأنها تمثل المتلقي للإرادة السياسية للنظام فتبثها إلى الشعب، وحقيقة أن القنوات الخاصة في مصر أصبحت لسان السلطة، وماسبيرو "مبنى التلفزيون الحكومي الرسمي في مصر" ما هو إلا هيكل قديم عجز النظام عن إصلاحه وتطويره.

شراء الأذرع الإعلامية

وفي منتصف العام 2017، وفي إطار خطتها الرامية إلى السيطرة على المنافذ الإعلامية، اشترت شركة "فالكون غروب" التابعة لجهاز الاستخبارات المصري، مجموعة تلفزيون قنوات "الحياة"،ـ بقيمة إجمالية بلغت مليارا و400 مليون جنيه مصري، وترأس المجموعة التلفزيونية العقيد محمد سمير، المتحدث السابق للجيش المصري.

وقبل أن ينتهي العام 2017، أعلنت شركة "إيغل كابيتال للاستثمارات ش.م.م" التي تمتلكها داليا خورشيد، وزيرة الاستثمار السابقة، عن شراء حصة رجل الأعمال المصري أحمد أبو هشيمة في شركة "إعلام المصريين للتدريب والاستثمارات الإعلامية ش.م.م"، وهي الكيان المالك لشبكة قنوات "أون تي في"، وغيرها من الشركات والمؤسسات الإعلامية الفعالة بشكل كبير في مجالات الإعلام المصري.

وتلك الصفقة الأخيرة أنذرت بتغير كبير وتام في خارطة الإعلام المصري، فالشركة التي تمتلكها الوزيرة السابقة استحوذت على منصات إعلامية بالغة الأهمية، فبالإضافة إلى مجموعة قنوات "أون.تي.في" ، تملكت الشركة تلك المواقع الإلكترونية بداية من موقع "اليوم السابع" إلى مواقع "انفراد، دوت مصر، دوت مصر TV، صوت الأمة، وعين المشاهير".

وفي مجال الصحافة المطبوعة ضمت صحف اليوم السابع، وصوت الأمة، وعين، بالإضافة إلى مجلتي ( إيجيبت تو داي، وبيزنيس توداي).

لم يقف الأمر عند هذا الحد،  بل توغلت الشركة المحسوبة على النظام إلى الاستحواذ على عدة شركات أخرى لها ثقلها بالسوق مثل "بريزنتيشن سبورت"، كبرى شركات التسويق الرياضى والدعاية والإعلان بمصر والمنطقة، و مصر للسينما، و"سينرجي" للإنتاج، و"سينرجي" للإعلان، و"أي فلاي" التي أبهرت الجميع خلال الفترة الماضية من خلال التصوير الجوي سواء الأحداث العامة أو الرياضية.

إلى هنا وتبقى وسائل إعلام الحرس القديم في يد كبار رجال الأعمال المحسوبين على النظام في مصر، فـ محمد الأمين يمتلك قنوات "سي بي سي" بالإضافة إلى مجموعة بانوراما التي تضم 4 قنوات، ويمتلك جريدة الوطن الخاصة.

بينما يمتلك رجل الأعمال المقرب من السلطة محمد أبو العنين قناة صدى البلد، وتبقى قناة "المحور" مملوكة لحسن راتب وهو من القليلين الذين يمتلكون استثمارات داخل سيناء، تقع قنوات "النهار" تحت طائلة رجل الأعمال علاء الكحكي.

ويمتلك رجل الأعمال نجيب ساويرس حصص في وسائل إعلامية هامة، فيمتلك 20 يالمئة من أسهم صحيفة "المصري اليوم"، و60 بالمئة من أسهم قناة “TEN” الفضائية، بالإضافة إلى حصة في قناة "يورنيوز" الناطقة بالإنجليزية.

وشهد الإعلام المصري في يناير/كانون الثاني 2017 انطلاق مجموعة قنوات (دي.إم.سي) الفضائية الخاصة المملوكة لرجل الأعمال المصري طارق إسماعيل، الذي يعد مجرد واجهة فقط، والقناة مدعومة بشكل مباشر من جهاز المخابرات الحربية المصري، ويشارك في التمويل ياسر سليم ضابط المخابرات السابق، ويتولى رئاستها رئيس تحرير صحيفة الوطن محمود مسلم.

مدينة الإنتاج الإعلامي

مع افتتاح مدينة الإنتاج الإعلامي في مصر عام 1996 دخلت البلاد عصرا جديدا، عصر القنوات المفتوحة، واعتبرتها القاهرة واحدة من أهم سمات قوتها الناعمة على الساحة الإقليمية والدولية لتوجيه الرأي العام، ولتحديد العلاقات مع الدول.

وبتاريخ 24 فبراير/شباط عام 2000 صدر قرار رئيس مجلس الوزراء في مصر، بالموافقة على إنشاء منطقة حرة عامة ذات طبيعة خاصة بمدينة السادس من أكتوبر تخصص لنشاط الإنتاج الفني والإعلامي والأنشطة الإنتاجية والخدمية المرتبطة به، والتي تمثل مدينة الإنتاج الإعلامي كبرى شركاتها.. على مساحة 3 مليون متر مربع.

وتمتلك تلك المنطقة إمكانات هائلة، فتحتوي على 77 استديو بمساحات مختلفة، و15 منطقة تصوير مفتوح، وتنطلق من داخلها نحو 50 قناة تلفزيونية تبث من داخل المدينة.

بالإضافة إلى وجود ستة مجمعات للاستديوهات (أ، ب، ج، ف، هـ، ك) تشمل استديوهات متنوعة من 1200 إلى 55 متر مربع يتم من خلالها تنفيذ أضخم إنتاج تليفزيوني ودرامي، والتي غطت معظم أوقات البث التليفزيوني في القنوات المصرية والعربية المختلفة على مدار السنوات الماضية.

ويسيطر الجهاز الأمني في مصر على تلك المدينة بمقدراتها الهائلة، ويتولى رئاستها حاليا أسامة هيكل وزير الإعلام الأسبق في عهد حسني مبارك.

وتعمل استراتيجية المنظومة الحاكمة المصرية على الهيمنة الكاملة على مخرجات ما يبث من داخل المنظومة العملاقة، لا من خلال التوجيه فقط، بل من خلال التملك والتحكم التام، وهي عملية تتجاوز السيطرة أحيانا إلى التوحد الكامل بين المنظومتين الأمنية والإعلامية.

النظام يغدر برجاله

السيطرة الإعلامية على وسائل الإعلام، لم تشمل فقط شراء القنوات وإطلاق إعلاميين محسوبين على النظام، بل تطرقت إلى منع كبار مقدمي البرامج وصحفيين مخضرمين من الظهور على الشاشات مرة أخرى، بل وصل الأمر إلى منع أبناء النظام والمحسوبين عليه أيضا في حالة تخطيهم الخطوط الحمراء أو تورطهم في أخطاء على غير هوى النظام فدفعوا الثمن بالمنع وكما يقال في الشارع المصري "جلسوا في البيت".

باسم يوسف كان أول المغادرين، حيث أعلن في 2 يونيو/حزيران 2014 وقف برنامجه "البرنامج" والذي كان يعرض على مجموعة "إم. بي. سي" التلفزيونية، بسبب ضغوط أمنية كبيرة تعرض لها عشية فوز عبد الفتاح السيسي بالرئاسة.

ولحق يسري فودة في 22 سبتمبر/أيلول 2014 بباسم يوسف، وأعلن وقف برنامجه "آخر كلام" الذي كان يذاع على فضائية أون تي في، وحينها لم يتطرق فودة إلى أسباب المنع تفصيليا، ولكنه قال إن العام الأخير من برنامجه كان يسير على "حد السكين".

كذلك ابتعدت الإعلامية ريم ماجد عن الظهور رغم أنها كانت من الداعين لمظاهرات 30 يونيو ضد حكم الرئيس محمد مرسي، إلا أنها رأت أن المناخ السياسي وتوجهات الآلة الإعلامية تغيرت بعد ذلك إلى الأسوأ.

وكذلك محمود سعد الإعلامي القديم والمحسوب دائما على النظام، أعلن في 24 ديسمبر/كانون الأول أنه سيترك العمل في قناة "النهار"، مشيرا إلى أنه تعرض لضغوط كبيرة هو وعضو القناة المنتدب عمرو الكحكي لإيقاف برنامجه، ليعود بعد ذلك ببرنامج اجتماعي تحت عنوان "باب الخلق" لا يتطرق تماما إلى الأحداث السياسية.

أما ليليان داود المذيعة اللبنانية التي كانت تقدم برنامج "الصورة الكاملة" على قناة أون تي في، وأول من استضافت أعضاء حملة "تمرد" في برنامجها، وانتقدت جماعة الإخوان المسلمين والرئيس محمد مرسي طوال فترة حكمهم، وعبرت عن فرحة عارمة بعزله وانقلاب الجيش، لم يشفع لها كل ذلك، ففي العام 2016 تعرضت لحملة هجوم كبيرة من إعلاميين محسوبين على نظام السيسي، وفي 26 يونيو/حزيران 2016 تم إنهاء تعاقدها مع القناة، واقتحمت قوات الأمن من مباحث الجوازات، منزلها وتم ترحيلها من مصر بطريقة مهينة.

ودفع مجدي الجلاد ثمن خطأ فادح، حيث كتب مقالا نشر في 2 يوليو/تموز 2015 في جريدة الوطن بعنوان "أنا صرصار" تضمن هجوما على سياسة السلطة، وبعد ذلك المقال أطاح محمد الأمين بالجلاد من رئاسة تحرير صحيفة "الوطن"، ليتزامن ذلك مع إيقاف برنامجه "لازم نفهم" على قناة سي بي سي، ويختفي تدريجيا من على الخريطة الإعلامية.

أما توفيق عكاشة فقد كان أبرز الراحلين، حيث تصدر صفوف الإعلاميين المعارضين لحكم الرئيس محمد مرسي، وكان من كبار مؤيدي عبد الفتاح السيسي، وأصبح عضوا في مجلس النواب المصري، وعلى خلفية لقائه السفير الإسرائيلي بالقاهرة "حاييم كوريين" وحديثه معه في أمور تتعلق بالأمن القومي، تقرر في مارس/آذار 2017 إسقاط عضويته من مجلس النواب، وفي ذات الشهر أعلنت قناة الفراعين التي كان يديرها عكاشة توقفها عن البث، ليختفي تماما من الحياة السياسية والإعلامية المصرية، ويعود مرة أخرى في أواخر العام 2018، ببرنامج (مصر اليوم) ولكن في صورة مختلفة تتميز بالولاء المطلق غير المشروط لشخصية عبد الفتاح السيسي تحديدا.

ولم يقف الأمر عند هؤلاء، بل شملت الأحداث مجموعة أخرى تمحورت حالتهم ما بين الشد والجذب، والإيقاف والعودة، كما حدث مع يوسف الحسيني، وإبراهيم عيسى، وأماني الخياط، ولميس الحديدي، وغيرهم من كبار الإعلاميين المصريين.

ولم يشفع لهؤلاء الإعلاميين خدمتهم للنظام وتأييدهم للرئيس الحالي، وما قاموا به قبيل الانقلاب على الرئيس محمد مرسي، لا سيما أن السلطة الحالية ترفض وجود أصوات منغصة وإن كانت من داخل البيت نفسه، الذي يرفض كل أشكال المعارضة، ويدير الإعلام وكأنه ثكنة عسكرية لا تعرف إلا منطق القوة.