برامج صندوق النقد.. خطة إنقاذ لاقتصاد مثقل أم أعباء جديدة ترهق المصريين؟

داود علي | منذ ساعتين

12

طباعة

مشاركة

تزامن وصول بعثة صندوق النقد الدولي إلى القاهرة لإجراء مراجعات برنامج القرض مع خطاب رسمي يروّج لتراجع معدلات التضخم واستعادة الاستقرار الاقتصادي، في محاولة لإبراز صورة إيجابية عن أداء الحكومة المصرية على مستوى المؤشرات الكلية.

غير أنّ ما وراء هذا الخطاب المطمئن كان أكثر وضوحًا وحدّة؛ إذ برز إنهاء دعم الوقود بصفته الاختبار الأكثر أهمية لمدى التزام الحكومة بتعهداتها أمام الصندوق. فبينما تتحدث البيانات الرسمية عن تحسّن الأرقام، يعيش ملايين المصريين واقعا مختلفا، تتحول فيه فواتير البنزين والكهرباء والمواصلات إلى عبء يومي يضغط على الطبقة المتوسطة ويدفع شرائح واسعة نحو مزيد من التآكل المعيشي.

في هذا السياق، لم يعد السؤال لماذا ارتفعت الأسعار، بل لماذا تصرّ الحكومة على رفع الدعم في لحظة تعلن فيها تراجع التضخم، ومن يدفع فعليًا كلفة هذا “الاستقرار” الذي يظهر في الجداول، ولا يصل إلى حياة الناس اليومية.

استنزاف تدريجي

زيارة بعثة صندوق النقد الدولي إلى القاهرة منذ مطلع ديسمبر/كانون الأول 2025 استمرت لمدة 11 يومًا، قبل أن تعلن لاحقًا في 22 ديسمبر، التوصل إلى اتفاق على مستوى الخبراء بشأن المراجعتين الخامسة والسادسة، بما يشمل المراجعة الأولى لبرنامج "الصلابة والاستدامة". هذا الاتفاق يفتح الطريق نظريًا أمام صرف شريحة جديدة تقارب 2.5 مليار دولار، بعد موافقة المجلس التنفيذي للصندوق.

في العلن، تروّج الحكومة المصرية عبر أذرعها الإعلامية لهذه الزيارة بصفتها اختبار ثقة تم اجتيازه، مع مؤشرات إيجابية مثل تراجع التضخم وتحسن سوق النقد الأجنبي الذي اختفت منه الاختناقات. ولكن خلف الأبواب المغلقة، وفي شوارع القاهرة والجيزة والأقاليم، الرسالة الفعلية تختلف جذريًا: سداد الديون أولًا، ثم الحديث عن معاناة الناس لاحقًا.

وهنا تظهر المفارقة بوضوح: الحكومة تصر على إنهاء دعم الوقود رغم انخفاض التضخم، وهو قرار لا يمثل لغزًا اقتصاديًا بقدر ما هو معادلة سلطة وتمويل. وفق تقرير موقع "مدى مصر" في 23 ديسمبر، الحكومة تريد تأمين التمويل اللازم لبرنامجها والحفاظ على صورتها أمام المقرضين، بينما الصندوق يطلب إشارات التزام قابلة للقياس.

وفي النهاية، تقع كلفة هذه السياسات على الطبقة المتوسطة التي تتحول، عامًا بعد عام، إلى شبكة أمان غير معلنة لمالية الدولة.

رغم ذلك، تتفاخر الحكومة بانخفاض التضخم، ويكرر الصندوق في مراجعته الأخيرة أن التضخم الحضري تراجع إلى 12.3% في نوفمبر/تشرين الثاني 2025 بعد موجات ارتفاع سابقة، مضيفًا أن توفر العملة الأجنبية تحسن بدعم السياحة والتحويلات والاستثمارات الخليجية، مما أسهم في تخفيف تشوهات السوق.

لكن قراءة معارضة قدمها موقع "المنصة" في 30 نوفمبر تقول: إن ما حدث هو انتقال من أزمة أسعار إلى أزمة دخل، ومن صدمة تضخم مباشرة إلى استنزاف تدريجي للقدرة الشرائية.

ويشرح الموقع أن انخفاض التضخم لا يعني انخفاض الأسعار، بل يعني فقط تباطؤ وتيرة الارتفاع. والمواطن الذي تحمل فعليًا تبعات موجات الغلاء لا يسترد ما خسره بمجرد تراجع أرقام التضخم، خاصة عندما تأتي الحكومة لتضيف صدمة جديدة برفع دعم الوقود، وهو المدخل الأسرع لرفع تكاليف النقل، ومن ثم تكاليف معظم السلع والخدمات.

وأوضحت ورقة "المبادرة" أن إصرار الحكومة على إنهاء الدعم ليس قرارا مرتبطا بتوقيت انخفاض التضخم، بل هو مرتبط بفهم أن هذا الانخفاض يوفر نافذة سياسية مناسبة لتخدير غضب المواطنين، ويمكّن من تمرير رفع الدعم، رغم أن المجتمع يظل مرهقا ويعاني.

تقليص الدعم

في 10 أبريل 2025، رفعت الحكومة أسعار الوقود ضمن مسار تقليص الدعم، وفقًا لما نقلته وكالة "رويترز" البريطانية.

وجاء هذا الرفع متوافقًا مع برنامج صندوق النقد الدولي الذي يعد دعم الطاقة بندًا أساسيًا يجب ترشيده واستهدافه.

ثم شهدت البلاد موجة جديدة في 17 أكتوبر 2025، تضمنت زيادات كبيرة في أسعار بنزين 80 و92 و95 والسولار، بلغت نسبها عشرات في المئة، قبل أن تعلن الحكومة تثبيت الأسعار لمدة عام كامل.

وكانت القراءة الرسمية حينها تقول: "نرفع السعر ثم نثبته لحماية المواطنين"، لكن الخبراء الاقتصاديين يرون أن رفع السعر ثم تثبيته جاء بهدف حماية مراجعة صندوق النقد الدولي وتنفيذ أجندته.

فالقرار لا يمثل سياسة حماية اجتماعية بقدر ما هو محاولة لإدارة الغضب الشعبي المتوقع بعد تمرير الجزء الأصعب من رفع الأسعار، بينما تبقى الحكومة بحاجة لاستكمال إثبات التزامها أمام الصندوق، عبر خفض دعم الوقود بشكل كبير، وتوسيع قاعدة الإيرادات، وتحقيق فائض أولي على الورق.

وفي هذا السياق، كان من الضروري إدخال صوت بحثي مستقل يكشف ما وراء لغة الإصلاح. ففي 27 مايو 2025، أصدرت "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" تحليلا لموازنة 2025/2026 ركز على فكرة واحدة: "الدولة تقترض لتسدد الديون لا لتبني اقتصادًا قابلاً للحياة".

وأشار التحليل إلى أن التقشف لا يزال السمة الغالبة، وأن الإنفاق على دعم المنتجات البترولية يتراجع إلى أقل من نصف المخصصات للعام المالي الجاري، مما يشير إلى مزيد من رفع أسعار الوقود مستقبلا.

ويربط التحليل هذا الانخفاض بالتزامات الحكومة لصندوق النقد الدولي بخفض الإنفاق على الدعم، وما يترتب عليه من زيادات في أسعار السلع والخدمات المرتبطة بالنقل والطاقة.

وهذا لا يمثل استنتاجًا سياسيًا، بل قراءة دقيقة في بنية الموازنة نفسها؛ فعندما تقلص الدولة بند دعم الوقود، فهي لا ترشد فقط، بل تعلن أن المستهلك – المواطن – هو من سيمول الفجوة المتبقية.

وبالتوازي، كشف التحليل أن بنية الإيرادات الحكومية منحازة نحو الضرائب الأسهل تحصيلًا؛ حيث تشكل ضرائب المرتبات والاستهلاك نحو 45% من الإيرادات المتوقعة، مقابل 12.5% فقط من ضرائب أرباح الشركات، و0.7% من مساهمة ملاك العقارات، ما يعني عمليا أن العبء الضريبي ينتقل بشكل أكبر إلى دافعي الضرائب من الطبقة العاملة والموظفين، أكثر مما ينتقل إلى القطاعات ذات الأرباح الأعلى.

لكن بحسب "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، فإن الأخطر ليس مجرد خفض الدعم، بل العنف في خفضه رغم تراجع التضخم.

والسبب الحقيقي يكمن في الدين: فوائد الدين المحلي والخارجي تمثل نحو 87% من الإيرادات الضريبية المتوقعة للعام المالي الجديد، مما يعني أن دافعي الضرائب يمولون فعليًا أرباح المقرضين من بنوك ومؤسسات وأفراد داخل البلاد وخارجها.

قبضة الديون

في تقريرها المفصل بعنوان "مصر في قبضة الديون" الصادر في 26 يوليو 2025، أشارت "شبكة اللجنة الدولية من أجل إلغاء الديون غير الشرعية" (CADTM) ومقرها باريس إلى أن خدمة أصل الدين والفوائد تستهلك نحو 64.8% من إجمالي المصروفات المخططة في مصر.

وبالتالي، لا تتبقى سوى حوالي 35% فقط لتغطية البنود التي تمس حياة الناس، مثل الأجور والدعم والتعليم والصحة والاستثمار العام وشراء السلع والخدمات.

ويوضح التقرير أن هذه الخريطة المالية تفسر لماذا يُنظر إلى رفع دعم الوقود كجزء من سلسلة واحدة متصلة، تتمثل في تقليص النفقات الاجتماعية القابلة للضغط، بغرض توفير مساحة لسداد التزامات لا يمكن التلاعب بها بسهولة، كفوائد وأقساط الدين.

ومن هنا يتضح لماذا لا يُحدث انخفاض التضخم فرقًا في إصرار الحكومة على رفع الدعم؛ فالمسألة ليست مرتبطة بالتضخم أو الأسعار، بل بتدفقات سداد الدين.

ويضيف التقرير أن هذا المنطق يتجاوز التحليل الأهلي إلى بيانات حكومية رسمية؛ حيث أظهرت أرقام وزارة المالية أن مصروفات فوائد الدين العام خلال أول أربعة أشهر من العام المالي 2025 بلغت نحو 899.1 مليار جنيه، متجاوزة إجمالي الإيرادات التي حققتها الموازنة في الفترة نفسها والتي بلغت حوالي 864 مليار جنيه.

وهذه المعطيات وحدها تشرح كل شيء؛ فحين تتجاوز الفوائد الإيرادات، تصبح الدولة في موقف يعيد فيه ترتيب أولويات المجتمع لخدمة فاتورة الدين.

وفي هذا السياق، فإن رفع الدعم ليس قرارًا اقتصاديًا لتحسين الكفاءة، بل هو قرار مالي لتغذية ماكينة السداد، ومع كل مراجعة لصندوق النقد الدولي تتأكد الحاجة إلى إثبات قدرة الدولة على انتزاع موارد إضافية من المجتمع، دون الوصول إلى انهيار سياسي.

بوابة الخروج

يرى الباحث الاقتصادي أحمد يوسف أن زيارة بعثة صندوق النقد الدولي إلى القاهرة لإجراء المراجعتين الخامسة والسادسة ليست مجرد حدث تقني أو مالي، بل لحظة سياسية واقتصادية كاشفة تعكس طبيعة الخيارات التي تواجهها الدولة في إدارة أزمتها الاقتصادية.

وفي حديثه لـ"الاستقلال"، أوضح يوسف أن الحكومة تعامل مراجعات الصندوق كـ"شهادة ثقة دولية"، بينما يرى المواطنون فيها مقدمة لموجة جديدة من القرارات الصعبة، وعلى رأسها إنهاء دعم الوقود.

وأشار إلى أن التجربة التاريخية مع صندوق النقد الدولي تثبت أن برامجه لا تنقذ الدول من أزماتها، بل تدير الانهيار وتعيد جدولته. مستشهدا بنماذج مثل الأرجنتين وسريلانكا وتشيلي، التي دخلت في برامج متكررة مع الصندوق لكنها خرجت أكثر هشاشة اجتماعياً، وأثقل ديوناً، وأقل قدرة على اتخاذ قرارات اقتصادية مستقلة.

وأكد أن الصندوق ينجح في ضبط المؤشرات الكلية على الورق، لكنه يفشل في بناء اقتصاد منتج أو حماية النسيج الاجتماعي.

ولفت إلى أن الخطورة في الحالة المصرية تكمن في أن الدولة لم تعد تتعامل مع برنامج الصندوق كحل مؤقت، بل كمسار دائم؛ حيث تحولت المراجعات الدورية إلى آلية ضغط مستمرة تفرض رفع الدعم، وتوسيع الضرائب غير المباشرة، وتقليص الإنفاق الاجتماعي، بينما تبقى جذور الأزمة بلا معالجة حقيقية.

وقال: إن الإصرار على تنفيذ شروط الصندوق، حتى في ظل تراجع التضخم، يكشف أن الهدف لم يعد إصلاح الاقتصاد، بل الحفاظ على تدفق التمويل الخارجي بأي ثمن.

وفي المقابل، أشار إلى وجود دول اختارت مسارات مختلفة، ونجحت في تفادي الوقوع في فخ الصندوق أو الخروج منه عندما أدركت كلفته السياسية والاجتماعية. وذكر تركيا كمثال واضح، التي رغم الانتقادات الاقتصادية التي تواجهها، استعادت جزءا من استقلال قرارها الاقتصادي بتجنب الارتباط المباشر ببرامج الصندوق، وهو مكسب استراتيجي يفوق تحسن المؤشرات الظرفية.

وأشار يوسف إلى أن المشكلة في مصر ليست فقط في برنامج الصندوق الحالي، بل في نموذج اقتصادي كامل يقوم على الاقتراض، وخدمة الدين، وإدارة الأزمة بدلاً من حلها.

وأضاف أن الاقتصاد المصري يحتاج، بحسب تقديرات العديد من الاقتصاديين، إلى أجيال كاملة حتى يتعافى من تشوهاته البنيوية إذا استمر المسار الحالي دون تغيير جذري.

وختم بالقول إن هذا يجعل الارتباط طويل الأجل بالصندوق خطرا مضاعفا؛ لأنه يقيد خيارات المستقبل قبل حتى أن تتجاوز البلاد أزمتها الراهنة.

وشدد على أن ما تحتاجه مصر اليوم ليس مراجعة جديدة مع صندوق النقد، بل خطة وطنية حاسمة للخروج من دائرة الصندوق نفسها، مبيناً أن التحرر من هذا الفخ لا يعني الانعزال عن العالم، بل يعني بناء اقتصاد إنتاجي حقيقي يعيد ترتيب أولويات الإنفاق ويواجه ملف الدين بشجاعة، بدلاً من تحميل كلفة التأجيل والإجراءات السهلة على المواطنين.

وقال في الختام: "الاستمرار في المسار الحالي قد يؤجل الانفجار، لكنه يوسع كلفته، ويجعل الأزمة أطول عمراً وأعمق أثراً".