توصية شاذة.. كيف انتفض المغاربة في وجه مؤسسة رسمية دعت لإغلاق الكتاتيب؟

"توصية المجلس الأعلى للتربية والتكوين لا محل لها من الإعراب"
توصية مؤسسة دستورية في المغرب بمنع التلاميذ من الدراسة في "الكتاتيب القرآنية"، شكّلت محل جدل وانتقاد واسع من فعاليات أكاديمية وسياسية في البلاد، والتي حذرت من مخاطر هذا التوجه على الدولة وأسس قيامها.
التوصية التي وردت في التقرير السنوي لـ"المجلس الأعلى للتربية والتكوين"، جاءت تحت اسم "ضبـط التــزامات وتحديـد مسـؤوليات القائمـيــن علـى الكتاتــيب القرآنــية فـي علاقتهـم بـالإدارة مـن جهـة، وبالمتعلمـيــن مـن جهـة أخـرى".
وتنتشر “الكتاتيب القرآنية”، التي تعمل على تلقين الأطفال آيات من القرآن بأساليب تقليدية متوارثة منذ القدم، بشكل كبير بالمغرب، واحتفظت هذه الكتاتيب بالوسائل التقليدية للتلقين، إذ إن كل ما يحتاجه الطالب هو "لوح خشبي" للكتابة، ومادة "السمخ" وهو تركيبة تعد بطريقة معينة لتشكل الحبر، وقطع من "الصلصال" الذي يستعمل لمسح اللوحات المستعملة.
وتوارث الفقهاء، جيلا بعد جيل، طرق التلقين التقليدية هذه، والمعتمدة على الحفظ، على مر التاريخ. ويحظى الفقيه، بين صفوف الطلاب الصغار، بهيبة كبيرة وبصرامة منقطعة النظير.
لغة غريبة
وقال المجلس إن توصيته "تأتي لتجنب اســتغلال الكتاتــيب القرآنــية مـن أي شـكل مـن أشـكال التوظيـف السـياسـي أو لأغـراض مخالفـة لأهدافهـا التـربوية"، داعيا أيضا إلى "خلوها من المتفرغين لحفظ القرآن الكريم فقط، طبقا لمبدأ إلزامية التعليم، التي نص عليها القانون الإطار".
وشدد المجلس الذي يرأسه اليساري لحبيب المالكي، القيادي بحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، على ضرورة إقرار نظام داخلي نموذجـي ملزم للكتاتـيب القرآنـية أسـاسه تنظيم الـحياة الجماعية بهذه الكتاتـيب في إطار يحافـظ علـى وظيفـة الكتـاب القرآنـي، ويقـوم علـى الالتـزام بالثوابـت الدينية والوطنـية للمملكـة، واحتـرام الشـروط الصحيـة والوقائيـة".
وعبر المجلس عن أمله في "خلو الكتاتـيب القرآنـية مسـتقبلا من المتفرغيـن لـحفظ القرآن الكريم بها في صفوف فئات الأطفال الذيـن يتـراوح سنهم بـيـن 4 و16، بالنظر لمبدأ إلزامـية التعليم الذي أقره القانون-الإطار للتـربـية والتكويـن والبحث العلمـي".
وطالب في تقريره، بإرسـاء علاقة ثابتة بـيـن الكتاتـيب القرآنـية ومدارس التعليم العتـيق في إطار تنزيل مشروع المؤسسة الذي يقوم على أسـاس التأهيل المندمج لمؤسسة التعليم العتـيق وكتاتـيب قرآنـية تابعة لها تـزودها بـروافد قارة من التلامـيذ، مما يمكن من تحقيق التكامل البنـيوي بـيـنها تـربويا وإداريا.
وفي إطار نفس الإجراءات التي تقيد سير الكتاتـيب القرآنـية، دعا مجلس المالكي، إلى ضبط العلاقة القانونـية بـيـن الوزارة ومؤسسـات التعليم العتـيق الخاصة، وتأطيـر الدعم المقدم لهذه المؤسسـات في إطار دفاتـر للتحملات.
وبالنسـبة للتعليـم العتـيق في المغرب، تشـكل الكتاتـيب القرآنـية روافـد أسـاسـية للمـدارس؛ حيث يلتحق سنويا بالمرحلة الابتدائية للمدارس العتـيقة حوالي 7 آلاف متمدرس بعد اجتـيازهم اختبارات تحديد المسـتوى، وتسـتقبل فيه جمـيع الفئات العمرية من الذكور والإناث، بما في ذلك الفئة العمرية (4-5) سنوات.
وتفاعلا مع التقرير، أصدر حزب العدالة والتنمية بلاغا في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، عبر فيه عن "استغرابه من تهجم التقرير السنوي عن حصيلة وعمل المجلس الأعلى للتعليم لسنة 2023 على التعليم العتيق والكتاتيب القرآنية".
وقال الحزب في بلاغه، إن هذا الهجوم جاء "بنفس أيديولوجي ضيق وغير مسبوق، وبلغة غريبة في تقرير رسمي لمؤسسة دستورية محكومة بالدستور والثوابت الوطنية الجامعة".
وانتقد "اتهام المجلس الغريب للكتاتيب القرآنية بالتوظيف السياسي، وبأغراض مخالفة للأهداف التربوية".
وفي ندوة صحفية عقدها الحزب في اليوم الموالي بمقره في العاصمة الرباط، قال أمينه العام عبد الإله بنكيران إن "دولتنا مبنية على أمرين كبيرين؛ وهما الإسلام والإمامة"، مشددا على أن "هناك أشياء تقع وتتسرب إلى الحكومة تعاكس هذا، مما يستوجب الانتباه له".
وأضاف بنكيران: "ومن ذلك التوصية الواردة في تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين، المتعلقة بمنع التلاميذ من الذهاب إلى الكُتّاب"، مؤكدا أن "هذا لا يجوز".
وأوضح أن "عدد هؤلاء التلاميذ في الكتاتيب قليل جدا، مقارنة مع عشرات الآلاف من التلاميذ يعانون الهدر المدرسي سنويا، والذين يجب أن تعمل الحكومة على خفض عددهم، ويجب الاهتمام بهم، لأنهم مشكلة حقيقية، وليس طلبة الكتاتيب القرآنية".
وأشار بنكيران إلى أنه “في سنوات سابقة، كان هناك من يريد حذف القرآن من التعليم الأولي والابتدائي والإعدادي، بخلفيات معادية لثوابت الأمة المغربية”.
سوابق شاهدة
توصية المجلس الأعلى للتربية والتكوين، سبق أن وردت على لسان الكاتب الوطني لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، إدريس لشكر، وهو نفس حزب رئيس المجلس الأعلى للتربية والتكوين.
وقال لشكر خلال تصريح صحفي في أغسطس/آب 2021، إن “التعليم الأولي في البوادي والقرى، القائم على المسجد ومراكز تحفيظ القرآن، ومراكز أخرى مشتتة، بعضها تابع لوزارة الأوقاف وبعضها لوزارة التعليم وبعضها للتعاون الوطني وبعضها للشباب والرياضة، يجب أن يتوقف”.
واسترسل: "لذلك نقول إنه في أفق 2026 يجب أن يكون التعليم الأولي تعليما موحدا، وعصريا، وذلك بالتقريب ما بين التعليم الخصوصي والعمومي، وحذف التعليم عبر الكتاتيب".
وخلال ستينيات القرن الماضي، كلف الملك المغربي الراحل الحسن الثاني، الكاتب واللغوي محمد شفيق، والذي يوصف بأنه الأب الروحي للحركة الأمازيغية في المغرب، بإنجاز تقرير حول الكتاتيب القرآنية.
وبعد إنجاز الدراسة، تبين لشفيق أن "الطريقة التقليدية المعتمدة في التلقين داخل الكتاتيب، تشكل خطرا على جيل بكاملة"، وفق تعبيره، موصيا بإلغاء "الكتاتيب" أو ما يطلق عليه محليا بـ"المسيد".
وبخلاف هذه التوصية، قرر الراحل الحسن الثاني توسيع هذه الكتاتيب وجعل الولوج إلى التعليم العصري مشروطا بالمرور بالكتاتيب القرآنية، ضاربا المثل بابنه ولي العهد آنذاك، الملك الحالي محمد السادس، قائلا إنه سيبعث به إلى "المسيد".
وبعد أن أصبح شفيق عضوا في أكاديمية المملكة، أعد عرضا حول الكتاتيب القرآنية، استند فيه على شهادة مثقفين مصريين معروفين هما طه حسين وحسن الزيات، وعلى المغربي التهامي الوزاني، والذين وضحوا له، كما أشار في شهادته، أن "هذا التعليم يدمّر الشخصية".
وسيعرف "المسيد" تحولا كبيرا بعد أن ألقى الملك الراحل الحسن الثاني، خطابه الشهير الذي أمر فيه بتعميم التعليم القرآني بالمغرب، بين 5 سنوات إلى 7 سنوات.
وقرر الملك حينها أن يدرس كل تلميذ بشكل إجباري في "المسيد" لمدة سنتين، حتى يحصل على أسبقية للدخول إلى المدارس الحكومية، بغض النظر عن الحالة الاجتماعية للأسرة.
خصوصية المجتمع
تفاعلا مع توصية المجلس، سجل كاتب الدولة المكلف بالتعليم العالي والبحث العلمي السابق، خالد الصمدي، أن "التعليم بالكتاتيب القرآنية هو بمثابة السلك (المرحلة) الأوّلي للتعليم العتيق المنظم بموجب الظهير 13.00، والذي أكد القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين أنه بجميع أسلاكه مكون رئيس ضمن هذه المنظومة".
ولفت الصمدي لـ"الاستقلال" إلى أن "هذه الكتاتيب هي مؤسسات للتعليم الأولي العتيق مؤطرة قانونيا، وخاضعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية".
ومن هذا المنطلق، عدّ الصمدي، أن "الأطفال الذين يدرسون بهذه الكتاتيب هم في وضعية تعليمية شأنهم شأن أقرانهم بمؤسسات التعليم الأولي العادية؛ وبالتالي فإن إيحاء تقرير المجلس ضمنيا إلى أن هؤلاء الأطفال محرومون من التعليم الإلزامي من خلال الحديث عن ضرورة إخلائهم للكتاتيب بالنظر إلى مبدأ إلزامية التعليم حديث يعد أمرا غير منطقي وغير مفهوم بتاتا".
وأوضح أن "مؤسسات التعليم العتيق باتت تشترط في الأطفال الراغبين في ولوج السلك الابتدائي أن يكونوا حافظين لقدر معين من القرآن الكريم يصل أحيانا إلى أكثر من 30 حزبا، ولا يمكن لهؤلاء الأطفال، مبدئيا، أن يحفظوا هذا القدر من دون التفرغ داخل الكتاتيب القرآنية".
ورأى الصمدي أنه "بهذا المعنى فإن خلو هذه الأخيرة من الأطفال المتفرغين لحفظ القرآن الكريم يعني تجفيف منابع التعليم العتيق؛ بحيث سينعدم الأطفال المستوفون لشروط الالتحاق بالسلك الابتدائي من هذا التعليم".
واسترسل: "وهو ما سيؤدي إلى الضرب في مقتضيات القانون الإطار وخصوصية المجتمع المغربي، الذي لعبت هذه الكتاتيب القرآنية أدوارا تربوية مهمة في تاريخه".
وأكد المتحدث ذاته أن "أعمار الأطفال الموجودين في هذه الكتاتيب لا تتجاوز عشر سنوات إلى حد أقصى، حيث إن أغلب الملتحقين بها يتمون حفظ أكثر من نصف القرآن الكريم على الأقل في هذا السن".
وشدد على أنه "لا يمكن نكران أن هذا السن الذي يلتحقون به بالسلك الابتدائي، سواء العتيق أو العادي، متأخر قليلا؛ لكنه لا يؤثر كلية على جودة مردوديتهم وأدائهم المعرفي في جميع المواد الدراسية".
في الاتجاه نفسه، قال الخبير التربوي، عبد الناصر الناجي، إن "المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي لم يكن له أن يورد هذه الملاحظة، بالنظر إلى أن الإستراتيجية الوطنية للإصلاح والقانون الإطار أكدا أن التعليم العتيق بمختلف أسلاكه، بما فيها الأولي بالكتاتيب القرآنية، جزء من المنظومة التربوية وله جسور مع المكون الآخر لها أي التعليم العادي".
وأوضح الناجي لـ"الاستقلال"، أن "هذا التأكيد يستحضر كون التعليم العتيق مرتبطا بتقاليد مغربية عريقة وحضور قوي للدين في المجتمع المغربي، الذي طالما حرص على تلقين أبنائه القرآن الكريم ومختلف العلوم الشرعية".
وأكد أن "الأطفال المتمدرسين بالكتاتيب القرآنية، الذين هم بموجب القانون الإطار في وضعية تعليمية وغير محرومين من التعليم الإلزامي، قادرون على الانتقال بسلاسة إلى التعليم العادي وإظهار أداء وقدرات معرفية جيدة، رغم طول المدة التي قد يقضونها داخل هذه الكتاتيب أو السلك الابتدائي العتيق العادي".
وأبرز الناجي أن "الدراسات العلمية أثبتت أن العديد من التلاميذ بالسلك الابتدائي للتعليم العتيق يتمتعون بمهارات وقدرات وأداء عالٍ في اللغة العربية والرياضيات ومختلف المواد، مقارنة بزملائهم داخل التعليم العادي".
وشدد الخبير التربوي أن "حفظ قدر مهم من القرآن الكريم داخل الكتاتيب القرآنية هو أمر ضروري لمتابعة الدراسة بالتعليم العتيق؛ وبالتالي فإن خلو الكتاتيب من الأطفال يعني مبدئيا عدم وجود مرشحين مستقبلا لولوج هذا التعليم".
ونفى الناجي "وجود أطفال متفرغين لحفظ القرآن الكريم فقط بهذه الكتاتيب؛ لأن الإصلاح الجذري الذي قامت به وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية جعل هذه الكتاتيب المعادلة للتعليم الأولي تعمد، بالإضافة إلى القرآن الكريم، إلى بناء قدرات المتمدرس في الكتابة والحساب وغيرها بواسطة مناهج تربوية، مما يؤكد أن توصية المجلس لا محل لها من الإعراب".