"كارثة اجتماعية".. ما تداعيات تسعير المواد الغذائية بالدولار في لبنان؟

لندن - الاستقلال | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

الوضع الاقتصادي في لبنان ينحدر شيئا فشيئا في ظل مزيد من تهاوي الليرة أمام الدولار، وبقاء المشهد السياسي في حالة من الضبابية والعجز عن الوصول إلى حل مؤقت يوقف هذا النزيف.

وتغيب في الوقت الحالي أي فرصة للانفراجة وملء الشغور الرئاسي اللبناني، الذي يصعب مهمة بيروت في الحصول على الدعم العربي والغربي قبل اختيار رئيس جديد.

وأمام هذا العجز التام، تتجه حكومة لبنان لـ"دولرة مختلف القطاعات" في ظل الانهيار الاقتصادي المتواصل منذ عام 2019.

تغييب العملة

وضمن آخر القرارات الحكومية، قال وزير الاقتصاد والتجارة في حكومة تصريف الأعمال، أمين سلام، خلال تصريحات صحفية في 3 فبراير/شباط 2023 إن "قرار تسعير المواد الغذائية بالدولار سيدخل حيز التنفيذ مطلع الأسبوع المقبل".

ورأى سلام أن "التسعير بالدولار يحافظ على السعر دون ربطه بارتفاع سعر الصرف، مع منع إضافة الهوامش بالليرة اللبنانية". 

ورأى أن لبنان "يمر اليوم بظرف استثنائي يوجب اتخاذ إجراء استثنائي، ولفترة محددة".

وزعم سلام أن "الهدف ليس الدولرة ولكن حماية المستهلك، وأنه لن يتم تسعير الدخان اللبناني والخبز بالدولار".

وبموجب القرار، فإنه سيوضع سعر الصرف المعتمد على كل المنتجات بالدولار وبالليرة مع إعطاء الخيار للمستهلك للدفع بالليرة حسب سعر الصرف المعلن عنه أو بالدولار.

وأوضح نقيب مستوردي السلع الغذائية، هاني البحصلي، لوكالة "المركزية" المحلية في 2 فبراير 2023، أن "ما يجب على المواطن معرفته هو أن محلات السوبرماركت ستحدد عبر شاشات سعر صرف الدولار الذي تعتمده. والمواد الغذائية ستسعر بالدولار على الرفوف".

ومضى يقول: "لكن الفاتورة ستصدر بالليرة اللبنانية حكما، كما سيحدد على الفاتورة سعر صرف الدولار إلزاميا".

لم تكن هذه الخطوة جديدة على الشارع اللبناني، فرغم أنهم يرفضونها إلا أنها مألوفة، إذ عمت الدولرة مختلف جوانب حياة اللبنانيين وطالت الاشتراك بمولد الكهرباء والمازوت.

بل باتت تتجه لتشمل باقي المشتقات النفطية، فضلا عن تحرير أسعار الدواء الذي تعاني البلاد نقصا شديدا في تأمينه، وسوى ذلك من الأساسيات والخدمات.

ويرفض كثير من أصحاب المحلات التجارية التعامل بمقتضى هذا القرار كونه يحول محلاتهم إلى "مراكز للصيرفة"، وفق ما يقولون.

لكن مثل هذه القرارات يزيد من الوضع الاقتصادي سوءا في لبنان، حيث ضاقت سبل العيش بكثيرين بعدما ضعفت قدرتهم الشرائية وعدم قدرتهم على تلبية الاحتياجات اليومية أمام ارتفاع الأسعار مقارنة بالدخل الشهري الضعيف.

هيجان شعبي

وفي مشهد يدل على تزايد الضغط على جيوب اللبنانيين، أقدم عشرات المحتجين في 16 فبراير/شباط 2023، على تحطيم واجهات مصارف وأحرقوا إطارات في العاصمة بيروت؛ احتجاجا على عجزهم عن سحب ودائعهم.

وتفرض المصارف اللبنانية منذ بدء الانهيار الاقتصادي خريف 2019 قيودا مشددة على سحب الودائع، حتى بات من شبه المستحيل على المودعين التصرّف بأموالهم، خصوصا تلك المودعة بالدولار أو تحويلها إلى الخارج.

وتزامن ذلك، مع تسجيل الليرة اللبنانية تدهورا قياسيا جديدا، حيث تراجع سعر صرفها في السوق السوداء من 60 ألفا مقابل الدولار إلى أكثر من 80 ألفا في 16 فبراير 2023.

 وعلى وقع الأزمة في لبنان التي صنفها البنك الدولي "من بين الأسوأ في العالم" منذ العام 1850، تكون الليرة قد خسرت نحو 95 في المئة من قيمتها.

لكن هذا يزيد من الضربات الموجعة لجيوب المواطنين، حيث ينعكس ذلك بشكل فوري ارتفاعا في أسعار المحروقات والمواد الغذائية.

واللافت أن هذا التقلب في السوق، يدفع الكثير من المتاجر إلى التوقف عن البيع وتحديد تسعير جديد لبضائعها، بفارق يختلف بين اليوم والأمس، في بلد يعتمد بشكل أساسي على الواردات.

ويعد لهيب الأسعار ظاهرة مألوفة، لكنها متصلة بسلسلة من السلع بشكل مباشر، وأولها سعر المحروقات، إذ قارب سعر صفيحة البنزين (20 ليترا) مليونا وأربعمئة ألف ليرة (حوالي 19 دولارا)، أي ما يعادل قرابة ثلث راتب عسكري لبناني، في بلد بات فيه 80 بالمئة من السكان تحت خط الفقر.

وعلى وقع ارتفاع الأسعار، أغلق العشرات من سائقي الأجرة الطريق أمام مقر وزارة الداخلية في بيروت احتجاجا على تدهور الأوضاع المعيشية، خصوصا وأن تعرفة سيارة الأجرة تبلغ مئة ألف ليرة (1,3 دولار).

ومنذ العام 2021، رفعت السلطات الدعم عن المحروقات، كما عن سلع رئيسة مثل الطحين والأدوية.

فراغ سياسي

ويزيد الشلل السياسي الوضع سوءا، في ظل فراغ رئاسي تدير خلاله البلاد حكومة تصريف أعمال عاجزة عن اتخاذ قرارات ضرورية، بينها إصلاحات يشترطها المجتمع الدولي لتقديم الدعم من أجل وقف النزيف الحاصل.

ومنذ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2022، فشل البرلمان 11 مرة في انتخاب رئيس جراء انقسامات سياسية عميقة.

ويرجع ذلك، لعدم امتلاك أي من القوى السياسة أكثرية برلمانية تخولها إيصال مرشح لقصر بعبدا الرئاسي، ولهذا تخوض هذه القوى حراكا للتوافق على رئيس "توافقي" يحظى بقبول الجميع، بما في ذلك الأطراف الفاعلة في المشهد اللبناني من عدد من الدول العربية والغربية.

ولذلك فإن الشلل السياسي الراهن في لبنان يحول دون اتخاذ خطوات إصلاحية تحد من التدهور وتحسن في حياة السكان اليومية.

وأمام هذا العجز، حذر ممثلو خمس دول، هي فرنسا والولايات المتحدة والسعودية وقطر ومصر، والتي عقدت اجتماعا بشأن لبنان في العاصمة باريس، من تداعيات التأخر في انتخاب رئيس للجمهورية.

وأكدت تلك الدول، وفق بيان صدر عن رئاسة الحكومة اللبنانية في 6 فبراير/شباط 2023، أن "عدم انتخاب رئيس جديد سيرتّب إعادة النظر بمجمل العلاقات مع لبنان".

وكان لبنان اعتمد ابتداء من فبراير 2023، سعر صرف رسمي جديد يبلغ 15 ألف ليرة للدولار الواحد بدلا من سعر 1507 ليرات، بانخفاض يقارب 90 بالمئة في قيمة العملة الوطنية، وفق ما أفاد مصدر في البنك المركزي لوسائل إعلام محلية.

لكن هذا السعر الرسمي هو أقل أربع مرات تقريبا من القيمة الحقيقية لليرة في السوق الموازية، ويأتي في وقت يطالب فيه صندوق النقد الدولي بيروت بتنفيذ إصلاحات من أجل الإفراج عن مساعدة حيوية له.

ومن بين هذه الإصلاحات، توحيد سعر الصرف وتعديل قانون السرية المصرفية وإعادة هيكلة القطاع المصرفي وإقرار قانون بشأن مراقبة رؤوس الأموال.

خطوة تمهيدية

وضمن هذه الجزئية، أكد الصحفي اللبناني وائل حداد، أن "خطوة تسعير المواد الغذائية بالدولار تمهيدية لأن هناك محلات تجارية مازالت تتعامل بالليرة، لكن رغم ذلك فإن عمليات البيع للمنتجات والسلع يجري حسب سعر الصرف للدولار في السوق السوداء".

وأضاف حداد، لـ"الاستقلال" أن "هناك الكثير من أصحاب المحلات يبيعون المواد الغذائية بالليرة لكن وفق سعر صرف الدولار كنوع من الاحتكار، في ظل غياب الرقابة وحاجة المواطن لتأمين السلعة بغض النظر عن ضبط السوق وانفلاته من قبل السلطة الحاكمة كون البلد كله بات يعاني انهيارا اقتصاديا".

وشدد على أن "القرار الحكومي غير قابل للتطبيق ولن يلتزم به أحد طالما أن الأسعار ستزيد بفعل هذا القرار وعدم تقديم أي خطة اقتصادية لإنعاش الرواتب، فضلا عن أن هذه الخطوة ستزيد الطلب على الدولار، وهذا ما يعمق انهيار الاقتصاد أكثر".

ويرى حداد أن "الأجدر بالحكومة كان إصدار البطاقة التمويلية التي وعدت بها سابقا لنحو 80 بالمئة من الذين فقدوا قدرتهم الشرائية نتيجة انهيار الليرة، ولا سيما أن المراقب للوضع الاقتصادي يستشرف اقتراب الكارثة الاجتماعية وحدوث إضرابات شاملة في أكثر من قطاع في ظل غياب أي حلول تعيد للمواطن قدرته الشرائية وتعيد الثقة لليرة".

وفي هذا الإطار، رأى رئيس الاتحاد العمالي العام، بشارة الأسمر، أن قرار تسعير المواد الغذائية بالدولار "غير دستوري وغير قانوني كونه ليس الوحدة النقدية للجمهورية اللبنانية وهي الليرة". 

إضافة إلى أن القرار، وفق الأسمر، لا يمكن تطبيقه في ظل اختلاف أسعار الدولار صعودا غالبا وهبوطا أحيانا قليلة كل ساعة في اليوم أو خلال دقائق معدودة.

ويرى الأسمر في تصريحات صحفية بتاريخ 5 فبراير 2023، أن "القرار يجب أن يلغى، لأن كل شيء في لبنان خضع للدولرة باستثناء أجور العمال والموظفين في القطاعين الخاص والعام والأسلاك العسكرية والأمنية وهي التي تشكل أوسع فئات المجتمع".

من جانبه، حذر النائب إبراهيم منيمنة، عبر تغريدة على "تويتر" في 7 فبراير 2023، من خطوة تسعير السلع بالدولار، ورأى أنها "تأتي ضمن استكمال الحكومة اتجاهها نحو الدولرة الشاملة، في الوقت الذي يتقاضى غالبية اللبنانيين أجورهم ومداخيلهم بالليرة".

وفي ظل غياب تام لسعر صرف موحد، حذر كثير من المراقبين من العبث بالقيمة الشرائية في ظل غياب آليات الحماية والرقابة على السوق اللبناني، لكن بالمقابل ترى وزارة الاقتصاد أن القرار "سيلجم التجار ويحدد الأسواق مجددا ويحمي المستهلك".

ولهذا بات لبنان بلدا "مدولرا" بنسبة 85 بالمئة وفق اقتصاديين، وبالتالي يجري الاتجاه نحو الاعتماد على العملة الخضراء في التعاملات السوقية البسيطة، رغم خطورة أن هذا سيجعل المواطنين يفقدون الثقة بالعملة المحلية لعقود.

ويؤكد مختصون أن "الدولرة للسلع" يجب أن تترافق مع "دولرة الرواتب أيضا" التي فقدت قيمتها بعد هبوط الليرة المحلية.