زلزال تركيا المدمر.. ماذا يخبرنا عن مستقبل الشرق الأوسط؟

لم يضرب زلزال 6 فبراير/ شباط 2023 المدمر 10 مدن تركية فقط وبعض المدن بالشمال السوري ولكنه ضرب الشرق الأوسط بالكامل، وفق تأكيد علماء وجيولوجيين عرب وأجانب.
وفجر ذلك اليوم، ضرب زلزال مناطق جنوب شرقي تركيا بلغت قوته 7.7 درجات على مقياس ريختر، أعقبه آخر بعد ساعات بقوة 7.6 درجات، مخلفين خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات في تركيا وسوريا.
كما امتدت آثار الزلزالين إلى مناطق تبعد قرابة ألف كيلو متر عن تركيا، منها العراق ولبنان وقبرص والأردن ومصر والكيان الإسرائيلي.
ومع عودة نشاط ما يعرف بـ"صدع شرق الأناضول" بعد خمول نسبي لعقود طويلة، يتوقع جيولوجيون أن تشهد منطقة الشرق الأوسط زلازل أخرى مستقبلا، قد تسبب أضرارا كبيرة، وتؤثر على مستقبل المنطقة.
هذه التحذيرات نشرت مبكرا منذ يونيو/ حزيران 2012 في "مجلة البحوث الجيوفيزيائية" الأميركية، التي أكدت مخاطر اتساع صدع شرق الأناضول بشكل مستمر، ما يضع منطقة الشرق الأوسط أمام سلسلة زلازل مدمرة مرتقبة.
صدع الأناضول
يقصد بكلمة "صدع" الشَّقُّ، أو الفالق، أو التشقق، ويحدث بين صفائح الأرض أو الألواح، وحين ينتج فلق أو صدع داخل قشرة الأرض، تتصدع المنطقة التي يظهر فيها، ويُعاد تشكيلها بعد سلسلة زلازل مدمرة.
ويسمي غالبا "الصدع النشط" (بالإنجليزية: Active fault) ، للإشارة إلى أن هذا الصدع من المُرجح أن يكون مكانه موقعا لزلزال آخر في وقت ما في المستقبل.
وتنشط داخل حدود تركيا ثلاثة خطوط زلزالية فاعلة، بحسب موقع التلفزيون التركي الناطق بالعربية "تي آر تي عربي" في 6 فبراير 2023، وهي:
صدع غرب الأناضول المتصدع والمتشعب والأكثر حركة ويمر بمناطق بحر إيجة وبحر مرمرة.
وصدع شمال الأناضول بطول (1350 كيلومترا) ويمر بالمناطق المقابلة للبحر الأسود وصولاً إلى أسفل بحر مرمرة غرباً.
وصدع شرق الأناضول بطول (530 كيلومترا) ويبدأ بمدينة هاتاي وينتهي بمدينة موش، ويلتقي الصدعان الشمالي والشرقي في مدينتَي بينغول.
وجيولوجيا، تحيط بتركيا ثلاث صفائح تكتونية (الطبقة الصخرية الصلبة التي تحيط بالكرة الأرضية)، هي الصفيحتان العربية والإفريقية جنوباً والصفيحة الأوراسية شمالاً.
لذا تقع تركيا ضمن منطقة جغرافية نشطة زلزالياً، حيث تولد حركة الصفائح التكتونية في صدع شرق الأناضول نشاطا زلزاليا كبيرا.
وهذا يجعل المنطقة واحدة من أكثر المناطق عرضة للزلازل في العالم، ومن النوع الذي يسبب أضراراً واسعة النطاق بسبب قربها من السطح.
وتوجد في باطن الأرض شبكة هائلة من الصدوع تمزق الغلاف الصخري للأرض وتحيط به إحاطة كاملة، يشبهها العلماء بخط اللحام على كرة التنس.
ويؤكد العلماء أن الأرض تحت أقدامنا، غير مستقرة بالمرة، وتتألف من طبقات متباينة السماكة تتحرك في اتجاهات مختلفة، وتزخر بالصدوع والكسور التي تتخللها مجارٍ ضيقة من السوائل.
وهناك رواسب وطين وقواعد صخرية، بخلاف تلك الصفائح التكتونية العملاقة التي تحتك ببعضها أو تتباعد عن بعضها.
وكانت الأرض منذ نشأتها جسماً ساخناً كسائر الكواكب، وحينما بردت، تكون الغلاف المائي وجذب الغلاف الجوي، ومع زيادة البرودة، تكوَّنت الطبقة الصلبة الخارجية المعروفة باسم القشرة، لكن باطن الأرض ظل ساخناً حتى الآن، وهو طبقة لدنة شبه منصهرة عالية اللزوجة والحرارة.
والغلاف الصخري للأرض، أو القشرة، عبارة عن 12 لوحاً، أو ما يعرف باسم الصفائح التكتونية.
وهذه الألواح تطفو فوق النواة المنصهرة، وحينما تدور الأرض حول محورها أمام الشمس تؤدي إلى انزلاق هذه الألواح فوق هذه الطبقة اللزجة ما يؤدي أحياناً إلى تباعد الألواح بفعل تيارات الحمم الصاعدة من أسفل إلى أعلى.
وفي المناطق التي تهبط فيها تيارات الحمم تؤدي إلى تصادم بعض هذه الألواح مع بعضها، وهو ما يؤدي إلى وقوع الزلازل.
وكانت مفارقة أن يتنبأ الجيولوجي الهولندي وخبير الزلازل "فرانك هوغربتس" حرفيًا بزلزال بهذا الحجم لخط صدع شرق الأناضول، قبل 3 أيام من حدوثه، خاصة أنه جاء مقارباً جداً لما وقع.
الخبير تنبأ في 3 فبراير بمكان الزلزال وشدته بدقة كبيرة، قائلا: "عاجلاً أم آجلاً، سيحدث زلزال بقوة 7.5 درجات في هذه المنطقة (جنوب وسط تركيا والأردن وسوريا ولبنان)"، ونشر خريطة الزلزال كما توقعه، رغم تأكيد النظريات العلمية استحالة التنبأ بالزلازل من قبل.
Sooner or later there will be a ~M 7.5 #earthquake in this region (South-Central Turkey, Jordan, Syria, Lebanon). #deprem pic.twitter.com/6CcSnjJmCV
— Frank Hoogerbeets (@hogrbe) February 3, 2023
منطقة خطيرة
بعد الزلازل الذي تعرضت لها تركيا، عادت خطوط الصدع هناك إلى الواجهة مجددا، وبدأ معها عدة تساؤلات عما حدث.
وذكر موقع "بليدج تايمز" المتخصص في تغطية العلوم والتكنولوجيا، أن وجود تركيا بين الصفيحتين العربية والأوراسية يؤدي إلى ضغط على المنطقة، ويجعل خطوط الصدع أكثر تدميرا.
وتسبب صدع شرق الأناضول، تاريخياً، في سلسلة من الزلازل بدأت بزلزال أنطاكية عام 1822، واستمرت بزلزال 1866، 1872، 1874، 1875، 1893، وانتهت بزلزال ملاطية عام 1905.
وباستثناء زلزال بينغول عام 1971، دخل صدع الأناضول الشرقي فترة أكثر هدوءا.
لكن مع الزلزال الجديد الذي وقع بقوة 6.8 درجة في ولاية إيلازيغ يوم 24 يناير/كانون الثاني 2020، انتقل خط صدع شرق الأناضول من الخمول إلى النشاط مجددا.
وعانت تركيا منذ عام 1500 وقوع أكثر من 23 زلزالاً بقوة 7 درجات وأكثر، بحسب وكالة الأناضول في 6 فبراير 2023، وتصنف الزلازل التي تبلغ قوتها 7 درجات وأكثر بـ"الخطرة".
وكان زلزال 17 أغسطس/ آب 1999 في إزميت شمال غربي البلاد، والذي كان بقوة 7.4 درجات، وأدي لمقتل 17 ألفاً و118 شخصاً وإصابة قرابة 25 ألفا، آخر أخطر هذه الزلازل.
وتبعه "زلزال دوزجة" بقوة 7.2 درجات في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 1999 وراح ضحيته 894 شخصا، ثم "زلزال وان" عام 2011، بقوة 7.2 درجات في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 وراح ضحيته 601 شخص، ثم زلزال فبراير 2023.
ويؤكد علماء أن الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في 6 فبراير 2023، بقوة 7.8 درجات، هو الأكثر دموية خلال هذا العقد.
ويوضحون لوكالة رويترز أن ما زاد الكارثة البشرية أن التمزق الأولي للصدع الذي سبب الزلزال حدث على عمق ضحل نسبيا (حوالي 18 كيلومترا).
لذلك يكون "الاهتزاز على سطح الأرض أشد مما يحدث لزلزال أكثر عمقا"، بحسب "ديفيد روثيري"، عالم جيولوجيا الكواكب في جامعة بريطانيا المفتوحة.
زلازل الشرق الأوسط
في حين تنشغل الدول العربية بصراعاتها وكوارث فوق الأرض مثل الحروب والأوبئة، بدأت تظهر تهديدات طبيعية من تحت الأرض متمثلة في زيادة مقلقة للنشاط الزلزالي في عدة مناطق بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
الدكتورة "جوديث هوبارد"، خبيرة الزلازل والصفائح التكتونية، بجامعة هارفارد، كتبت سلسلة تغريدات عبر تويتر تشرح خطورة ما سيترتب على زلزال تركيا.
أكدت أن هذا الزلزال غير طبيعي ومن أكبر الزلازل المسجلة لأنه ناتج من حركة الصفيحة العربية باتجاه الصفيحة الأوراسية وبالتالي يزيد من حركة "صدع الأناضول" بمقدار 5 أمتار، ويسحق القشرة الأرضية بين الصفائح المتقاربة.
أوضحت أن "الصفيحة العربية تصطدم شمالاً بالصفيحة الأوراسية، فتسبب صدوع شرق وشمال الأناضول معًا، بما يسمح للكتلة الأناضولية بالضغط غربًا خارج منطقة الاصطدام، مثل بذور البطيخ التي تخرج من أصابعك"، وفق تعبيرها.
وفي حالة الزلزال الحالي، كانت الصفيحة العربية تتحرك شمالا وتطحن في احتكاكها صفيحة الأناضول، ما يزيد من الزلازل المدمرة التي تنتقل للشرق الأوسط.
قالت إن الصدع يتحرك بحوالي 15 مم كل سنة، و "الهزات الارتدادية" تكون أكثر ضررًا من الحدث الأول، في إشارة لتوقع تداعيات مستقبلية تؤثر على الشرق الأوسط.
Today's M7.8 earthquake in Turkey occurred in the East Anatolian Fault zone.
— Dr. Judith Hubbard (@JudithGeology) February 6, 2023
Although this fault is a known hazard, the quake is unusual. Today's M7.8 released >2x as much energy as the largest recorded quakes in the region (M7.4).
Image credit: Kyle Bradley
1/ pic.twitter.com/c7Kwt03Ivf
ويرى الدكتور صلاح محمود، الرئيس الأسبق للمعهد القومي المصري للبحوث الفلكية أن كل المناطق المطلة على البحر المتوسط عرضة للزلازل نتيجة تقارب يحدث بين القارتين الإفريقية والأوروبية.
وأضاف محمود لموقع "الحرة" الأميركي في 6 فبراير أنه لذلك قد تشهد دول مثل قبرص واليونان ومنطقة شمال غرب تركيا وجنوبها والجزائر والمغرب زلازل نتيجة ذلك.
ويؤكد الخبير الجيولوجي المصري الدكتور يحيى القزاز، أن استمرار تصادم صدعي شمال إفريقيا (الصفيحة العربية)، مع صدع منطقة أوراسيا وضغطه على صدع الأناضول سيزيد الزلازل في المنطقة.
قال لموقع "سكاي نيوز" في 6 فبراير، إنه عندما يتقابل الصدعان تحدث الزلازل، حيث تتحرك قارة إفريقيا في اتجاه جنوب غرب أوروبا وجزء من آسيا.
أضاف أن هذا التحرك سيؤدي خلال ملايين السنين لغلق البحر المتوسط عندما يتلاقى اللوحان الإفريقي والأوروبي، وكثرة الزلازل في المنطقة دليل على عملية الاندساس بين الصفائح وانزلاق القشرة الأرضية.
وتوقع الخبير الجيولوجي، تكرار الزلازل في هذه المنطقة الجغرافية بشكل دوري لأنها ضمن حزام زلزالي.
ووفقاً لمركز رصد الزلازل الأوروبي المتوسطي، فإن عدد الزلازل متوسطة وكبيرة الحجم (التي تتراوح قوتها بين 4 و8 درجات على مقياس ريختر)، والتي وقعت خلال عام 2022 قد بلغت 103 زلازل، منها 40 في شرق المتوسط، و21 في غربه.
وقال شريف الهادي، رئيس قسم الزلازل في "المعهد القومي للبحوث الفلكية" في مصر إن "منطقة البحر المتوسط عموماً، تشهد بشكل دوري زلازل لا يتم الإعلان عنها لضعفها، ولا يتم عادة الإعلان إلا عن الزلازل متوسطة وكبيرة الحجم".
ورصد قسم توقعات المخاطر في "مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث" في 24 يناير 2022 تطوراً مقلقاً للنشاط الزلزالي في منطقة الشرق الأوسط تحديدا.
أكد أن ما يقرب من 30 مليون شخص من سكان الشرق الأوسط، ما يعادل خمس سكان العرب في منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، معرضون لمخاطر زيادة احتمالات حدوث زلازل مدمرة في المستقبل.
واعتمد رصد المركز على دراسة خريطة المخاطر الزلزالية العالمية من خلال تجميع بيانات ونماذج وتيرة حدوث وتقييم مخاطر الزلازل في منطقة الشرق الأوسط.
وعام 2020 توصلت دراسة لباحثين من جامعة تل أبيب الإسرائيلية إلى أنه من المتوقع أن يضرب زلزال مدمر بقوة 6.5 درجات على مقياس ريختر منطقة الشرق الأوسط وتحديداً دول البحر الميت في المستقبل القريب.
وقالت صحيفة "جيروزاليم بوست" في 30 ديسمبر/ كانون الأول 2020 إن الدراسة المنشورة في مجلة "ساينس أدفانسيز" وجدت أن زلزالا مدمرا يضرب المنطقة كل 130 إلى 150 سنة.
وأنه إذا كان آخر زلزال قوي ضرب المنطقة كان منذ 93 عاما، فيتوقع الباحثون "حدثا مشابها في المستقبل القريب".
ويحذر العلماء من أن النشاط الزلزالي الكبير في صدع الأناضول قد يؤثر على صدع البحر الميت، لأنه يمتد من كهرمان مرعش مركز الزلزال المدمر حتى خليج العقبة.