الصراع الأميركي الصيني على "الهندوباسيفيك".. الإستراتيجيات والأهداف
المحتويات
مقدمة
المحور الأول: الإستراتيجية الأميركية لمنطقة الهندوباسيفيك
المحور الثاني: الإستراتيجية الصينية لمنطقة الهندوباسيفيك
المحور الثالث: المنظمات الإقليمية.. هل تكبح التوترات؟
خاتمة
المقدمة
وصل الرئيس الأميركي الأسبق "باراك أوباما" إلى البيت الأبيض، وهو يحمل انتباها كبيرا للشرق وخاصة الصين، ما دفعه لتغيير إستراتيجية بلاده في أكثر من منطقة، حاملا لافتة "القيادة من الخلف" في هذه المناطق.
ليصل بعدها الرئيس السابق "دونالد ترامب" موجها نفس الانتباه، مع خطوات عملية أكثر راديكالية، بلغت حد تشكيل قوة أميركية موجهة للمنطقة الهندوباسيفيكية (تمتد من شواطئ شرق إفريقيا وحتى سواحل غرب الأميركيتين).
وسار الرئيس الحالي "جو بايدن" على نفس النهج، مع اندفاعة أكبر، واضعا إستراتيجية شاملة للحضور في هذه المنطقة، اقتصاديا وعسكريا وأمنيا وثقافيا.
دواعي القلق الأميركي من التهديد الصيني مرده لاعتبارات الإستراتيجية الصينية ثلاثية الأبعاد القائمة اقتصاديا على مبادرة "الحزام والطريق" ولوجيستيا على إستراتيجية "عقد اللؤلؤ"، وعسكريا على إستراتيجية التحرك باتجاه أعالي البحار، والتي تهدف لإزاحة النفوذ الأميركي من المحيطين الهادئ والهندي.
محطات التوتر بين المحورين الأميركي والصيني متعددة، وتتزايد، خاصة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا منذ فبراير/شباط 2022.
فما ملامح إستراتيجية البلدين في منطقة الهندوباسيفيك؟ وما تطوراتها الفعلية على الأرض؟ وما تأثيرات منظمات "بريكس" و"آسيان" و"آبيك" على مآلات هذا التوتر؟ هذه الدراسة تقدم اجتهادا في الإجابة على الأسئلة المذكورة.
أولا. الإستراتيجية الأميركية لمنطقة الهندوباسيفيك:
رغم معاناة الصين من جملة متاعب اقتصادية مثل القدرة على الاستمرار بذات نسب النمو، علاوة على الشيخوخة السكانية فيها، وتراجع نمو الإنتاجية، والتباين الاجتماعي الداخلي، وحتى الفساد، علاوة على تأخرها التكنولوجي مقارنة بالغرب، وجمود نظامها السياسي وانغلاقه، فإن الغرب يرى في بكين تهديدا جديا.
ويرى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أنها أخطر تحد طويل الأمد يواجه النظام الدولي سياسيا واقتصاديا، وتقويضها للسلام والأمن وحرية الملاحة في المحيطين الهندي والهادئ، وتحايلها على قواعد التجارة العالمية، ودعمها انتهاكات حكومات أخرى يهدد السيادة والسلامة الإقليمية لدول كثيرة حول العالم[1].
وهو ما دعا الولايات المتحدة منذ إدارة "أوباما" للالتفات إلى الصين، وهو الأمر الذي تصاعد مع إدارتي "ترامب" و"بايدن".
في 11 فبراير 2022، أصدر البيت الأبيض إستراتيجيته الجديدة للمنطقة الهندوباسيفيكية. وتمتد هذه المنطقة من ساحل المحيط الهادئ إلى المحيط الهندي، ويقطنها أكثر من نصف سكان العالم، وتسهم بنحو ثلثي الاقتصاد العالمي، ويوجد بها سبعة من أكبر الجيوش العالمية.
هذه الخصائص فرضت على الولايات المتحدة إستراتيجية مكونة من عدة نقاط، ودفعتها لتبني عدة آليات تنفيذية. فما هي هذه المعالم الإستراتيجية؟ وما آلياتها؟
أ. معالم الإستراتيجية[2]:
حددت الإستراتيجية الصادرة في مطلع 2022، خمسة أهداف كبرى رئيسة للولايات المتحدة في المنطقة الهندوباسيفيكية؛ وهي:
1. الحفاظ على المنطقة حرة ومفتوحة ومتقدمة: تتطلب مصالح الولايات المتحدة وأقرب حلفائها أن تنعم المنطقة بالحرية والرفاه. وترى الإستراتيجية أن ضمان هذا الوضع يتمثل في الاستثمار في المؤسسات الديمقراطية، ودعم الصحافة الحرة والمجتمع المدني، وتعزيز حرية المعلومات، ومكافحة التدخل الأجنبي، وتكثيف التعاون لمواجهة التهديدات الناتجة عن التلاعب بالمعلومات، وتعزيز الشفافية المالية وسيادة القانون ومبدأ المساءلة.
كما تدفع الإستراتيجية باتجاه العمل المشترك مع "الشركاء" في المنطقة؛ لتعزيز السياسات المشتركة في مجال التقنيات الحيوية والناشئة، ومجال الإنترنت والفضاء السيبراني؛ وذلك عبر دعم منظومة الإنترنت المفتوح والقابل للتشغيل المتبادل والموثوق والآمن. والتنسيق مع الشركاء للحفاظ على نزاهة هيئات المعايير الدولية، وتعزيز معايير التكنولوجيا القائمة على التوافق والقيم، وتسهيل حركة البحث العلمي، والوصول المفتوح إلى البيانات العلمية.
2. التشبيك وتجسير الفجوات مع الحلفاء داخل المنطقة وخارجها: تنص الإستراتيجية على ضرورة تحديث وتعزيز كفاءة التحالفات والمنظمات والقواعد التي ساعدت الولايات المتحدة وشركاؤها في بنائها بالمنطقة، عبر العمل على تعميق التحالفات التعاهدية الإقليمية مع أستراليا واليابان وجمهورية كوريا والفلبين وتايلند، وتعزيز العلاقات مع الشركاء الإقليميين الرائدين، بما في ذلك الهند وإندونيسيا وماليزيا ومنغوليا ونيوزيلندا وسنغافورة وتايوان وفيتنام وجزر المحيط الهادئ.
كما تؤكد على ضرورة تشجيع واشنطن حلفاءها على تعزيز علاقات بعضهم مع بعض، لتمكينهم من تولي أدوار قيادية إقليمية بأنفسهم، والعمل معاً في مجموعات مرنة لمواجهة التحديات المعاصرة، من خلال مجموعات مثل "كواد" ورابطة "الآسيان"، والعمل على تجسير الفجوة بين حلفائها داخل المنطقة وخارجها من أجل بناء اتصال بيني.
وتؤكد الإستراتيجية أن هكذا روابط لا يمكن قصرها على الحكومات فقط، وإنما ينبغي أن تتواصل على مستوى الشعوب، عبر تنشيط برامج الشباب؛ القيادية منها والتعليمية والمهنية، وبرامج التدريب باللغة الإنجليزية، والبرامج البحثية.
3. تشجيع الاستثمارات والنمو الاقتصادي: يرتبط رخاء الأميركيين العاديين بالقوة الاقتصادية للمنطقة الهندوباسيفيكية؛ ما يدفع الولايات المتحدة لتقديم إطار جديد للتكامل الاقتصادي الوثيق.
وفي هذا الإطار، تعزز الإستراتيجية خيار العمل في منظمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (APEC)، من أجل دعم التجارة والاستثمار الحر والعادل والمفتوح. وتعمل الولايات المتحدة مع شركائها لضمان تمتع المواطنين على جانبي المحيط الهادئ بفوائد هذه التغييرات الاقتصادية.
ومن خلال مبادرة "إعادة بناء عالم أفضل" مع شركاء مجموعة السبع الدولية "G7"، تعمل الولايات المتحدة على تزويد الاقتصادات الناشئة في المنطقة بالبنية التحتية المتقدمة اللازمة لتحقيق النمو والازدهار، وتعزيز الاتصالات العالمية المرنة والآمنة.
4. تعزيز القدرات الجماعية في مجالي الأمن والردع: تؤكد الإستراتيجية على ضرورة عمل الولايات المتحدة من أجل وجودها وتحالفاتها بالمنطقة، وتحديثهما من خلال تعزيز القدرات الدفاعية والردع المتكامل للعدوان على أراضي الولايات المتحدة وحلفائها.
وهو ما ينبغي السعي إليه عبر الابتكار في مجالات الفضاء والفضاء الإلكتروني ومجالات التكنولوجيا الحيوية والناشئة؛ لضمان قدرة الجيش الأميركي على العمل في بيئات تهديد سريعة التطور.
كما يقتضي الهدف العمل على تطوير مفاهيم جديدة للعمليات، وزيادة نطاق وتعقيد التدريبات والعمليات المشتركة. وهو ما يتطلب من الولايات المتحدة أن تعمل مع الحلفاء على تعميق القابلية للتشغيل المتبادل وتطوير ونشر قدرات قتالية متقدمة.
وفي الوقت نفسه، تدعيم الدفاع عن المواطنين ومصالحهم؛ بما في ذلك دمج سلاسل التوريد الدفاعية، والمشاركة في إنتاج التقنيات الرئيسة التي من شأنها تعزيز المزايا العسكرية الجماعية.
وتؤكد الإستراتيجية كذلك على ضرورة تعزيز الردع الموسع والتنسيق مع كوريا الجنوبية واليابان؛ للرد على استفزازات كوريا الشمالية، وتعزيز مكافحة الانتشار النووي.
علاوة على العمل مع مجموعة واسعة من الفاعلين، حلفاء أو خصوم؛ لمنع الأزمات ورفع كفاءة إدارتها، بالإضافة إلى التعاون من أجل معالجة ومنع التطرف العنيف، وصياغة خيارات للتخفيف من التطرف على الإنترنت، وتشجيع التعاون في مكافحة الإرهاب داخل المنطقة.
كما تؤكد الإستراتيجية ضرورة سعي الولايات المتحدة لتعزيز القدرات الإقليمية الجماعية للتأهب للكوارث البيئية والطبيعية والاستجابة لها، والتهديدات البيولوجية الطبيعية أو المتعمدة، وتهريب الأسلحة والمخدرات والأشخاص، وتحسين الأمن السيبراني في المنطقة، بما في ذلك قدرة شركاء الولايات المتحدة على مواجهة تهديداته.
5. المرونة في مواجهة التهديدات العابرة للحدود: تمثل المنطقة بؤرة لأزمة المناخ؛ كما أنها أساسية أيضاً للوصول إلى حل لهذه الأزمة.
وهو أمر يحتاج دعم الاقتصادات الرئيسة فيها لتحقيق أهداف "اتفاقية باريس للمناخ"، ما يتطلب عمل الولايات المتحدة مع شركائها لوضع أهداف وإستراتيجيات وخطط وسياسات تنفيذية لعامي 2030 و2050 لتنفيذ هذه الاتفاقية.
ب. الواقع على الأرض
أهداف الإستراتيجية الأميركية تقتضي آليات اقتصادية مثل ما تضمنته من "إطلاق شراكة جديدة" عام 2022، وبناء شبكة خضراء للنقل"، علاوة على الاستثمار في الدبلوماسية الثنائية أو الجماعية، وتعزيز الشراكات مع دول مثل الهند ومنح أدوار جديدة للشراكات الدفاعية، مع أدوار إقليمية.
غير أن الفترة التي أعقبت ظهور الإستراتيجية حملت نذر توتر أكثر منها إرهاصات بناء علاقات شراكة شاملة؛ ما من شأنه أن يبقي أوجه التعاون الشاملة عند مستويات تطورها البيروقراطي الراهن، ولتطفو على السطح أوجه التوتر.
1. فمن جهة، شابت علاقة الولايات المتحدة بالهند حالة مراوحة من دون اتجاه واضح. فلم تكبح نيودلهي علاقاتها مع موسكو استجابة لضغوط الولايات المتحدة الرامية لعزل روسيا، بل رأت في مشتريات النفط الرخيص فرصة لتعويض الخسائر الاقتصادية بفعل جائحة كورونا[3].
ومن قبل وضع الإستراتيجية الأميركية، أبدت الهند خلال زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في 28 يوليو/تموز 2021 موافقة على التجاوب مع ترتيبات الأمن الجماعي التي تريدها واشنطن[4]، وهي استجابة رآها الخبراء ذات دوافع اقتصادية أكثر منها إستراتيجية؛ إذ تريد نيودلهي أن تكون مستقرا للاستثمارات الأميركية الهاربة من الصين مستقبلا[5].
ويفيد خبراء بأن الهند التي يتنامى خوفها من استمرار الصعود الاقتصادي والعسكري لجارتها الصين لا تريد الانخراط في مواجهة مباشرة الآن[6].
فقبل خمسين عاماً كان يمكن للهند أن ترى نفسها موازنا للصين، أما اليوم وفي ظل التناقضات الاقتصادية والفجوة الإستراتيجية - العسكرية بين القوتين الآسيويتين، ترى نيودلهي أنها بحاجة لنفوذ خارجي قوي يمكن أن يعوّض، ولو جزئيا، موقفها في علاقتها الثنائية مع بكين[7].
ولهذا، علق المراقبون على القمة الافتراضية التي عقدت بين الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء الهندي ناريندا مودي في 11 أبريل/نيسان 2022، بأنها كانت تحمل الكثير من التوتر، وكذلك المؤتمر الصحفي الذي أعقبها؛ وأداه وزيرا خارجية البلدين[8].
2. من جهة ثانية، رغم أن هذه الإستراتيجية دخلت حيز الإعداد والبلورة بالفعل مع وصول "ترامب" للبيت الأبيض؛ وتدشينه القيادة الأميركية لمنطقة الهندوباسيفيك[9]، فإن المتابع يلاحظ أن ثمة ميلا من إدارة "بايدن" لعسكرة العلاقة أكثر منها اتجاه نحو علاقة شاملة. وتتمحور هذه العسكرة في مواجهة الصين بصورة أساسية.
فالولايات المتحدة التي ألغت مناورات "Sea Breeze 2022" التي كان مقررا إجراؤها في أغسطس/آب 2022، هي نفسها التي أجرت مناورات مشتركة مع إندونيسيا، في مطلع ذات الشهر في جزر "سومطرة" و"رياو" (مقاطعة إندونيسية مكونة من جزر صغيرة متناثرة بالقرب من سنغافورة وماليزيا).
وأجريت المناورة حتى 13 أغسطس بمشاركة قوات أسترالية وسنغافورية ويابانية، كما شاركت كل من المملكة المتحدة وكندا وفرنسا والهند وكوريا الجنوبية وماليزيا وبابوا غينيا الجديدة وتيمور الشرقية بصفة مراقب.
وفي نفس الإطار، أجرت الولايات المتحدة كذلك مناورات مع كوريا الجنوبية في 22 أغسطس 2022، واستمرت حتى مطلع سبتمبر 2022.
هذه المناورات دورية، وتحمل اسم "أولتشي فريدوم شيلد"، وتوقفت في دورتها الماضية بسبب جائحة "كوفيد 19"، لكنها عاودت سيرتها لتفوق في حجمها مناورات 2018 الضخمة[10]. وتأتي هذه المناورات في إطار محور "الردع" الوارد بالرؤية الإستراتيجية الأميركية للمنطقة الهندوباسيفيكية.
وقبل المناورات الأميركية – الكورية الجنوبية، أقدمت رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي" على زيارة تايوان، في الثاني من أغسطس، لتبيت ليلتها في الجزيرة التي تعدها الصين جزءا من أراضيها.
كانت زيارة "بيلوسي" ضمن جولة آسيوية شملت سنغافورة وماليزيا قبلها، ثم كوريا الجنوبية واليابان. وكان لافتا في الزيارة أن "بيلوسي" استقلت خلالها طائرة عسكرية لا مدنية[11]، ما يوضح أنها كانت زيارة دولة؛ وليست مناورة، وأنها تحظى بدعم المؤسسة العسكرية الأميركية.
وقالت رئيسة مجلس النواب الأميركي إن وفدها جاء إلى تايوان ليوضح بما لا يدع مجالا للشك أن الولايات المتحدة لن تتخلى عنها.
زيارة "بيلوسي" كانت تهدف إلى إظهار النوايا المغلفة للصدام، وهو ما من شأنه أن يدفع بكين لإعادة حساباتها، ويرسل رسالة بعدم تحقيق بكين أيا من أهداف الردع المرتبطة بإستراتيجيتها الإقليمية، خاصة بعد المواجهات التي شهدها بحر الصين الجنوبي.
ويبدو أن حداثة تبلور ملامح الإستراتيجية التي أصدرتها الولايات المتحدة في فبراير 2022، لم يواجه حالة هدوء تسمح له بالاتجاه نحو التأسيس الاقتصادي النموذجي لهكذا إستراتيجية.
فلم تكد تصدرها حتى هاجمت روسيا أوكرانيا، لتتجه الولايات المتحدة نحو إرساء نموذج مواجهة طويل الأمد، أسوة بنموذج حرب أفغانستان (1979 – 1989).
وربما ترغب الولايات المتحدة في استدراج الصين نحو مواجهة عسكرية حول تايوان، قبل أن تنهي بكين استعداداتها لخوض هذه المواجهة، وهو ما يقدره الخبراء بحلول عام 2027.
3. غير أن التحرك العسكري الأميركي ليس وليد اللحظة، فحضور واشنطن في المنطقة الهندوباسيفيكية مرتبط باندلاع الحرب الباردة في منتصف القرن العشرين، وهو ما تطور لاحقا باتجاه تطوير علاقتها مع شركائها باتجاه إرساء بنيتي تحالف مهمتين:
أولى هاتين البنيتين هو "كواد"، أو الحوار الرباعي، وهو حوار إستراتيجي غير رسمي بين الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند يتمثل بالمحادثات بين الدول الأعضاء.
بدأ الحوار في عام 2007 من قبل رئيس وزراء اليابان السابق "شينزو آبي"، بدعم من نائب الرئيس الأميركي الأسبق "ديك تشيني"، ورئيس وزراء أستراليا "جون هوارد" ورئيس وزراء الهند "مانموهان سينغ".
وتوازى الحوار مع المناورات الحربية المشتركة بين الدول الأربع، والتي حملت اسم "مناورات مليبار".
عدت الترتيبات الدبلوماسية والعسكرية المرتبطة بهذا الحوار رد فعل على زيادة القوة الاقتصادية والعسكرية الصينية، بل إن انسحاب أستراليا منه كان مرده تخوف رئيس وزرائها الأسبق "كيفين رود" من الانخراط في مواجهة مع الصين؛ وسط أعداء تاريخيين لها مثل الهند واليابان.
كان آخر لقاء حواري بين دول "كواد" في 24 مايو/أيار 2022، حيث اجتمعت قيادات الرباعي في العاصمة اليابانية طوكيو؛ بهدف تعزيز آليات هذا الحوار الإستراتيجي.
ومع تكريس الحوار، ردت بكين وعدت "كواد" تجمعا على غرار منظمات الحرب الباردة؛ ورأت أنه يسعى لاحتواء الصين[12].
أما البنية التحالفية الثانية فتمثلت في تحالف "أوكوس" أو "AUKUS"، وهو مشروع تحالف توجت به الولايات المتحدة علاقتها بكل من أستراليا والمملكة المتحدة، وجرى توقيع الاتفاقية المنظمة له في 15 سبتمبر /أيلول 2021، خلال قمة افتراضية استضافها الرئيس "بايدن" في البيت الأبيض وشارك فيها عبر الفيديو كل من رئيسي الوزراء البريطاني السابق "بوريس جونسون" والأسترالي "سكوت موريسون”[13].
ومع التدشين، لم يأت أي من القادة الثلاثة على ذكر الصين، ولم يفعل كذلك بيانهم المشترك الذي اكتفى بالإشارة إلى "السلام والاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ"، لكن مما لا شك فيه أن التحالف الجديد يهدف قبل كل شيء إلى مواجهة الطموحات الإقليمية لبكين.
ومما يؤشر لحساسية هذه الخطوة وإستراتيجيتها أن الولايات المتحدة لم تشاطر التقنية النووية في الغواصات مع أي دولة باستثناء المملكة المتحدة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن تقنية الغواصات النووية غير موجودة إلا في 6 دول في العالم، وهي فرنسا والصين وروسيا والهند، بجانب الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
بدأ التعاون تحت مظلة هذه الاتفاقية بحصول أستراليا على أسطول من الغواصات التي تعمل بالدفع النووي، وجرى توقيع البروتوكول الخاص بهذه الخطوة مع توقيع الاتفاقية.
ثم أعلنت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، في 5 أبريل/نيسان 2022، أنها ستعمل معا عبر تحالف "أوكوس" من أجل تطوير صواريخ فرط صوتية[14].
3. غير أن الأخطر في صدد التوتر في المنطقة الهندوباسيفيكية أن الجدل يتصاعد في كل من اليابان وكوريا الجنوبية حول امتلاك سلاح نووي، وهو جدل بدأ مع وصول "شينزو آبي" لرئاسة الحكومة في اليابان[15]. وبدا هذا الاتجاه محط نقاش في الولايات المتحدة بعد تقديرات وزير الخارجية الأميركي الأسبق "هنري كيسنجر"[16].
ويفكر قطاع من الخبراء اليابانيين في نموذج الانتشار التكتيكي المتبع في ألمانيا، التي تنشر بها أسلحة نووية تكتيكية مملوكة للولايات المتحدة، ولا تملك ألمانيا حرية التصرف بها[17].
وتبدو اليابان الأكثر احتمالية لدخول النادي النووي التكتيكي؛ وذلك لداعيين، أولهما خبرتها النووية الواسعة، واتجاهها الإستراتيجي أخيرا للعودة للطاقة النووية لتعويض نقص الإمدادات العالمية[18].
وثانيهما تفضيل الولايات المتحدة منح اليابان هذا الامتياز لداعي تجنب أي مغامرة كورية جنوبية في حال وصول تقدميين لرئاسة الوزارة فيها.
ثانيا. الإستراتيجية الصينية لمنطقة الهندوباسيفيك:
بقدر ما تعتمد الولايات المتحدة على هيمنة الدولار كمورد اقتصادي قوي، وعلى الحماية الإستراتيجية لسلاسل التوريد العالمية، تعتمد الصين على عمادين إستراتيجيين كذلك، أولهما مبادرة "الحزام والطريق" التي أعلنها الرئيس الصيني "شي جين بينغ".
وقامت المبادرة على فكرة إحياء طريق الحرير الذي كان قائما في القرن التاسع عشر من أجل ربط الصين بباقي دول العالم، ليكون أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية.
وهذه المبادرة تنطوي على تطوير البنية التحتية والاستثمارات على طول طرق النقل الحيوية للصين بريا وبحريا، وربط بكين بدول الخليج العربية والبحر الأبيض المتوسط عبر آسيا الوسطى والمحيط الهندي.
إذ جرى تصميم طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين للانتقال من ساحل الصين إلى أوروبا عبر بحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي في اتجاه واحد، وأيضا عبر بحر الصين الجنوبي إلى جنوب المحيط الهادئ في الجانب الآخر[19].
هذه المبادرة كذلك تحتاج إلى إستراتيجية للحماية، وهي في الرؤية الصينية تقوم على الحماية العسكرية والتشبيك الدبلوماسي والتعاون الاقتصادي القائم على دبلوماسية القروض.
وإذا كان الدور الدبلوماسي – الاقتصادي مفهوما، فإن الإستراتيجية الصينية العسكرية تبقى الحلقة التي تحتاج تسليطا للضوء. ونعرض جوانبها فيما يلي:
أ. إستراتيجية عقد اللؤلؤ: تتبنى الصين عسكريا إستراتيجية تحمل اسم "عقد اللؤلؤ" أو "String of Pearls".
وتجد هذه الإستراتيجية آلياتها التنفيذية في شبكة من المنشآت والعلاقات العسكرية والتجارية الصينية على طول خطوط الاتصال البحرية، والتي تمتد من البر الرئيس الصيني إلى القرن الإفريقي نظريا، وتتجاوزه عمليا باتجاه ناميبيا.
ويبدأ هذا "العقد" من الصين ويمتد إلى شمال البحر المتوسط وجنوبه، ويصل إلى جنوب غرب إفريقيا في ناميبيا. ويمكن التعرف على حدود "عقد اللؤلؤ" الصيني فيما يلي[20]:
1. ينطلق "عقد اللؤلؤ" من القاعدة البحرية العسكرية الضخمة التي طورتها الصين في إحدى مدنها الساحلية "هاينان"، وذلك في إطار خيارها الإستراتيجي بتعظيم قوتها البحرية عبر الإستراتيجية الثلاثية التي أشرنا إليها سابقا.
2. المحطة الثانية البارزة تتمثل في القاعدة العسكرية الصينية في جيبوتي والتي افتتحت في أول أغسطس/آب 2017؛ وهي أولى قواعد الصين العسكرية خارج أراضيها، وتستوعب نحو عشرة آلاف جندي بمساحة 90 فدانا، علاوة على نحو 23000 متر تحت الأرض.
3. وبين هاتين القاعدتين ثمة سلسلة من الموانئ ومناطق التعاون التجاري في عدد كبير من الدول مثل: ميناء "همبانتوتا" في سريلانكا، والذي تستحوذ الصين منذ عام 2017 على 70 بالمئة من أسهمه، ويقع على بعد 10 أميال بحرية من طريق التجارة البحري الرئيس بين آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا.
ورغم أنه غير مربح اقتصاديا حتى الآن، فإنه يوفر للصين مع "مطار ماتالا" الضخم في سريلانكا، والذي أنشأته وتستأجره لمدة 99 عاما شركات صينية مملوكة للدولة، موقعا إستراتيجيا وعسكريا مهما في حالة حدوث نزاعات بالمنطقة.
4. ومما يثير قلق الهند، المستهدفة بـ"عقد اللؤلؤ" إلى جانب المطار السريلانكي، هو "ميناء جوادار" الباكستاني، والذي يبعد نحو 240 كم عن "مضيق هرمز"، والذي خصصت الصين نحو ملياري دولار لتطويره.
ورغم إمكانياته التجارية المتواضعة، فإنه يجذب الكثير من الاستثمارات التجارية واللوجستية لقربه من خطوط الملاحة العالمية؛ ما قد يضر بموانئ دولة الإمارات العربية وأهمها "ميناء جبل علي"، والذي يعد أحد أكبر الموانئ في العالم.
لكن تضطر السفن التي تستخدمه لدخول الخليج العربي عبر "مضيق هرمز" الذي قد يشهد عدم استقرار في المستقبل. ولا تخلو هذه الموانئ من توفر بنية تحتية يمكن تطويرها لأغراض عسكرية في غضون فترة غير طويلة.
5. وثمة كذلك "ميناء دورالييه" في جيبوتي، والذي يقع على مدخل "مضيق باب المندب". إذ اشترت الصين حصة تبلغ نحو 25 بالمئة من أسهم الميناء، وتستثمر الشركات الصينية نحو 240 مليون دولار أميركي لتطويره.
6. وتنشئ الصين وتطور وتستأجر وتسعى للحصول على حصص في عدد من الموانئ ومحطات الشحن والمطارات ومناطق التعاون الاقتصادي ومشروعات البنية التحتية التي تنشأ لأغراض اقتصادية وإمكانيات عسكرية في أغلب الأحيان، في العديد من الدول مثل: كمبوديا، ميانمار، بنغلاديش، تايلند، المالديف، سيشل، موريشيوس، السودان، تنزانيا، وكينيا، وأخيرا مصر التي تتوسع بكين في امتلاك أصولها اعتمادا على مديونيتها المرتفعة[21].
7. ولا يقتصر التمدد الصيني بأبعاده المختلفة على تلك المناطق، بل يمتد لما تستطيع اقتناصه من "لآلئ" أخرى كميناء "بيريوس" اليوناني؛ والذي استغلته الصين نتيجة تردي الوضع الاقتصادي لليونان، وتقاعس أوروبا عن مساعدتها لتستحوذ شركة النقل البحري الصينية الحكومية (كوسكو) على 67 بالمئة منه وتستأجره لمدة 35 عاما مقابل ملياري دولار.
وثمة كذلك إيطاليا المشاركة حديثا في مبادرة الحزام والطريق، حيث تستثمر الصين حاليا في "ميناء تريستي" على البحر الأدرياتيكي.
وثمة كذلك "ميناء والفيز باي" في ناميبيا بغرب إفريقيا، والذي اغتنمته الصين لأغراض التجسس على النشاط الأميركي في المحيط الأطلنطي. وينطبق نفس المنطق الاستخباراتي على "ميناء خليفة" في الإمارات[22].
ب. إستراتيجية التوسع في أعالي البحار: فرغم هذا الاتساع النسبي الذي يرتبط بـ"عقد اللؤلؤ"، تظل السيطرة على المحيطين الهادئ والهندي هي الهاجس الصيني الأساسي.
ومما يقلق الصين أن قوة الهندوباسيفيك الأميركية كانت تمتلك عام 2020 أكثر من 2000 طائرة، و200 قطعة بحرية بين سفن وغواصات، ونحو 370 ألف عسكري تحت تصرفها.
ومع ذلك ترى وزارة الدفاع الأميركية أن هذا العدد غير كاف، وأنها بحاجة لبناء شبكة حلفاء قوية في المنطقة، وهو ما يعني أن احتمالات المواجهة المتزايدة في حاجة لانتباه صيني يكافئ، إن لم يكن يردع، الوجود الأميركي.
وهو ما أدى بالصين لتطوير إستراتيجيتها العسكرية البحرية ضمن مسارات تطوير إستراتيجياتها الإقليمية والعالمية.
وتهدف الصين عبر إستراتيجيتها العسكرية البحرية إلى تأمين منطقة بحر الصين الجنوبي، والذي يتمتع بأهمية كبيرة جدا بالنسبة إلى بكين، نظرا إلى موقعه الإستراتيجي على طريق التجارة الدولية.
إذ يمر حوالي 40 بالمئة من التجارة الدولية من هذا البحر، وتعد 30 بالمئة من تجارة النفط حول العالم من هذا البحر، إضافة إلى احتوائه على ثروات هائلة تقدر بـ23 مليار برميل من النفط، وحوالي 190 تريليون قدم مكعب من الغاز، وثروة سمكية كبيرة.
وفي هذا الإطار، تقوم هذه الإستراتيجية على الانتقال من الدفاع الساحلي إلى الانتشار العسكري البحري البعيد المدى في أعالي البحار. وقد بدأت الصين تنفيذ خطتها هذه بدءا من عام 2000، لتقسمها إلى 3 مراحل على النحو التالي[23]:
المرحلة الأولى: استمرت من 2000 – 2010، واستهدفت فيها السيطرة على المياه الواقعة ضمن سلسلة الجزر الأولى التي تربط أوكيناوا وتايوان والفلبين.
المرحلة الثانية: استمرت خلال الفترة ما 2010 – 2020، واستهدفت فيها الصين السيطرة على سلسلة الجزر الثانية التي تربط سلسلة جزر "أوجازاوارا" و"جوام"، وإندونيسيا.
المرحلة الثالثة: تمتد خلال الفترة ما بين 2020 - 2040، وهي المرحلة النهائية، وتطمح فيها الصين لوضع حد للسيطرة الأميركية في المحيطين الهادئ والهندي، واستعمال حاملات الطائرات كمكون أساسي في قوتها العسكرية البحرية.
ج. صناعة السلاح: التطلع الجيوإستراتيجي الصيني كان يقتضي بطبيعة الحال أن تتجه الصين لصناعة سلاحها، وهي خطوة كانت قد شرعت فيها منذ تأسيس "الجمهورية الشعبية".
غير أنه في 27 يناير/كانون الثاني 2020، أعلن "معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام" (سيبري)، السويدي الحكومي، عن تراجع ترتيب روسيا كمنتج في السلاح لصالح الصين التي باتت ثاني أكبر منتج للأسلحة في العالم بعد الولايات المتحدة.
واستند تقرير "سيبري" إلى ما حققته أربع شركات أسلحة صينية على الأقل من مبيعات كانت كافية لتصنيفها بين أكبر 20 بائعا للأسلحة في العالم[24].
كانت الصين قبل عشر سنوات تعتمد بشكل كبير على استيراد الأسلحة من كل من روسيا وأوكرانيا. غير أن مبيعاتها من الأسلحة تتراوح ما بين 70 و80 مليار دولار سنويا، وتذهب غالبيتها إلى مختلف قطع جيش التحرير الشعبي الصيني.
ويشير التقرير إلى أن صناعة السلاح في الصين تجري تحت ستار من السرية لا يسمح بفهم كامل صورة التسلح الصيني.
د. العلاقة الصينية – الروسية: تعد هذه العلاقة من العلاقات الحيوية بالنسبة لبكين على الصعيد الإستراتيجي، وإن قدر خبراء أن هذه العلاقة تمثل عبئا اقتصاديا على الصين[25]، غير أن هذا التقدير لم يعكس الموقف الصيني الذي لم يكتف بالوشائج الاقتصادية التي تربطه بالدب الروسي عبر منظمة "بريكس" (تضم كلا من الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا)، بل يسعى الطرفان حثيثا لبناء نظام مالي عالمي مواز للنظام القائم على هيمنة الدولار[26].
ويمثل إعلان الشراكة الصينية- الروسية، المنصوص عليه في البيان المشترك الصادر عن قمة شي جي بينغ ونظيره الروسي فلاديمير بوتين (خلال افتتاح الألعاب الأولمبية الشتوية في 4 فبراير/شباط 2022)، بداية "حقبة جديدة" في العلاقات الدولية، بحسب خبراء في العلاقات الدولية.
ففي هذا البيان، أكد الرئيسان الروسي والصيني على تجديد دعم الصين للمطالب الأمنية الروسية، من أجل حل الأزمة الأوكرانية التي لم تكن قد دخلت لمربع الحرب آنذاك.
شدد البيان على اتفاق كل من بكين وموسكو على معارضة توسع حلف شمال الأطلسي "الناتو" مستقبلا، واتهمه بتبني أيديولوجية الحرب الباردة.
وطالب بوضع حد للهيمنة الأميركية على النظام الدولي، وبالتمسك بمبدأ "أمن واحد لا يتجزأ"، والذي يستند إليه الكرملين ليطالب بانسحاب "حلف الناتو" من محيط روسيا[27].
كشف البيان اتساع نطاق الشراكة بين الدولتين ليطال مجالات الطاقة والفضاء وتغير المناخ والذكاء الصناعي والتحكم في الإنترنت.
كما كشف، في نفس الوقت، عن عمق التفاهم بين الدولتين حيال التحديات الأمنية العالمية، مبديا قلقهما من خطط واشنطن لتطوير نظام الدفاع الصاروخي العالمي ونشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وأوروبا.
لم تعارض الصين العقوبات على روسيا، وإن صرح نائب الممثل الصيني لدى الأمم المتحدة، "داي بين"، في اجتماع لمجلس الأمن الدولي، بأن العقوبات ضد روسيا لن تجلب السلام إلى أوكرانيا، بل ستؤدي فقط إلى أزمة طاقة وغذاء ومال في العالم.
ورغم ذلك، لم تلتزم الصين بهذه العقوبات[28]. ومع الإلحاح عليها في هذا الصدد، صرح المدير العام للشؤون الأوروبية بوزارة الخارجية الصينية "وانغ لوتونغ" بأن بكين لا تتحايل عمدا على العقوبات المفروضة على روسيا[29]، وهي دعوة الغرب لقبول الامتثال الصوري الصيني حيال العقوبات.
هـ. علاقات الصين العسكرية في منطقة الهندوباسيفيك: لا يمنع تمتع الصين برؤية إستراتيجية مستقلة من اتجاهها لمبادلة الكتلة الغربية نشاطاتها العسكرية في المنطقة، وفيما يبدو أن المقام لا يتسع لسرد خطواتها إلا أنه يمكن الإشارة لأحدث النماذج في هذا الصدد.
1. الاتفاق مع جزر سليمان (دولة أرخبيلية في المحيط الهادئ): ففي مقابل تحالف "أوكوس" الذي دشنته الولايات المتحدة مع كل من أستراليا والمملكة المتحدة، وقعت الصين مع جزر سليمان في منتصف مارس 2022[30]، اتفاقية أمنية من شأنها أن تسمح لبكين بالانتشار الأمني والعسكري في هذه الدولة.
كما تسمح للشرطة الصينية بالانتشار بناء على طلب من "جزر سليمان" لإرساء النظام الاجتماعي، وكذا من أجل حفظ سلامة الأفراد الصينيين، ومشروعات الصين الكبرى في الجزر، ومن دون الموافقة الخطية للطرف الآخر، ولا يمكن لأي منهما الكشف عن المهمات والإجراءات والاتفاقيات الموقعة.
وتنص هذه الاتفاقية على أنه يمكن للصين، وفق حاجتها وبموافقة جزر سليمان، أن تباشر إجراءات زيارات للسفن، وتنفيذ عمليات تموين لوجيستية، والتوقف والعبور في الجزر[31].
هذه الاتفاقية تثير قلق الولايات المتحدة وأستراليا لأنها تجعل الأسطول الجنوبي الصيني على مرمى حجر من السواحل الأسترالية.
2. المناورات الصينية التايلندية: من بين الإجراءات المضادة التي اتخذتها الصين خلال الأيام الماضية المناورات التي أجرتها مع تايلند، في 14 أغسطس 2022، وحملت اسم "هجوم الصقر"، والتي استمرت حتى 25 من نفس الشهر، وجرت في شرقي تايلند[32]. وهي مناورات سنوية تعطلت منذ 2019 بسبب جائحة "كوفيد 19".
ومن بين ردود الفعل الصينية الواسعة في هذا الصدد، تلك التدريبات التي أجرتها القوات الجوية الصينية حول تايوان وفوقها خلال زيارة وفد الكونغرس الأميركي للجزيرة[33].
وأتت هذه التدريبات بعد أيام من تدريبات أخرى بحرية وجوية أجرتها الصين حول الجزيرة في 4 أغسطس 2022[34]. هذا علاوة على المناورات الصينية الروسية الإيرانية التي أجريت في منتصف يناير/كانون الثاني 2022[35].
وأجرت كل من الصين وروسيا وبيلاروسيا والهند مناورات خلال الأسبوع الأول من سبتمبر 2022[36]. وتعد مشاركة نيودلهي في هذه المناورات مصدرا لتوتر علاقتها مع أعضاء حوار "كواد"، وإن كانت بكين قد أوضحت أن التدريب لا علاقة له بالتوتر في المنطقة، وأنه فقط لتعزيز العمل المشترك بين القوات المشاركة.
ثالثا. المنظمات الإقليمية.. هل تكبح التوترات؟
تختلف مسارات المنظمات الإقليمية المختلفة في آسيا فيما يتعلق بتأثيرها على التوتر في العلاقات الإستراتيجية بين البلدين، كونها أساس الإستراتيجيتين الأميركية والصينية في المنطقة الهندوباسيفيكية.
أ. منظمة بريكس: هذه المنظمة التي تضم في آسيا كلا من الصين وروسيا والهند، علاوة على البرازيل وجنوب إفريقيا من خارج المنطقة، والتي تأسست عام 2009، تمثل مدخلا إشكاليا فيما يتعلق بالتوتر في المنطقة.
فمن جهة، تمثل روح تأسيس هذه المنظمة، ومسارها السياسي والاقتصادي حالة من التمرد على النظام الاقتصادي العالمي، برغم أنها لم تبرز تحديا حقيقيا له، باستثناء العلاقات المالية والاقتصادية بين بعض أعضائها أخيرا.
إلا أن الوضع ربما تغير بعد القمة الرابعة عشرة، والتي انعقدت في العاصمة الصينية بكين في 23 يونيو 2022، والتي أعلن فيها وزير الخارجية "وانغ يي" أن بكين اقترحت بدء عملية توسيع المنظمة[37] وأنها تلقت طلبات انضمام من إيران وتركيا والسعودية ومصر والأرجنتين.
المراقب للقمة الأخيرة يجدها تقدم حزمة معالجات منافسة لما طرحته الرؤية الإستراتيجية الأميركية للمنطقة الهندوباسيفيكية، إذ ناقش قادة الدول المشاركة قضايا: بناء شراكة عالمية للتنمية، وتوحيد الجهود لتنفيذ أجندة التنمية المستدامة 2030.
وأيضا ناقشوا وضع أجندة لمناقشة قضايا مثل مكافحة الإرهاب، والتجارة، والرعاية الصحية، والطب التقليدي، والبيئة، والتطورات العلمية والتقنية والمبتكرة، والزراعة، والتعليم والتدريب التقني والمهني، بالإضافة إلى مشاريع الأعمال الصغيرة والمتوسطة الحجم.
المنظمة بوضعها الحالي تمثل تحديا للنظام الاقتصادي العالمي من حيث سماتها، إذ تشكل مساحة الدول الخمس المكونة لها حاليا ربع مساحة اليابسة، وعدد سكانها يقارب 40 بالمئة من سكان الأرض، وتمتلك 25 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وتنشر مؤسسات التقييم الاقتصادي والمالي توقعات مستقبلية عن هذه الكتلة تقلق الولايات المتحدة.
هذه السمات ترتبط بمساعي الدول المذكورة لتشكيل حلف أو ناد سياسي فيما بينها، فضلا عن امتلاكها عددا من الكيانات المالية والاقتصادية، أهمها بنك التنمية الجديد (NDB) ومقره شنغهاي، والذي يمثل إطارا للدول الأعضاء لتوفير الحماية ضد ضغوط السيولة العالمية[38].
البنية التنافسية للمنظمة كان من المفترض أن تجعلها عنصرا مؤججا للتوترات بين الولايات المتحدة والصين، لولا الوجود الهندي فيها، إذ تمثل الهند تجليا لموروثات العداء الجيوسياسي في نسخته الصينية – الهندية.
هذا العداء الموروث كان مصدرا لتأجيج التوتر باستمرار، وإن كانت "بريكس" قد نجحت في كبح تداعيات هذه العداوة، وإن لم تمنع من اضطراب التحليلات حيال المستقبل.
وفيما يزداد التوتر بين الولايات المتحدة والصين، تشارك الهند في الحوار الأمني الرباعي المعروف باسم "كواد"، وتبدي قدرا من المرونة فيما يتعلق بمتطلبات الولايات المتحدة الجيوسياسية، لكنها لا ترى بأسا في المشاركة في مناورات عسكرية مع كل من روسيا والصين.
كما لا ترى بأسا في خرق العقوبات على روسيا تحت لافتة الاستفادة من موارد الطاقة الرخيصة، فيما يشير خبراء إلى أنها ستكون مستعدة لتلقف الشركات الغربية المتساقطة من السوق الصيني في حال زاد التوتر بين الولايات المتحدة والصين.
هذا الموقف الهندي من شأنه أن يعمل في اتجاهين؛ أولهما أنه قد يمثل كابحا للتوتر بين الطرفين؛ كونها الدولة التي تمثل جسرا بينهما، كما أنها قد تعمل لرفع مستوى التوتر؛ كونها المستفيد المحتمل من تناميه على الصعيد الاقتصادي.
ب. منظمتا آسيان - آبيك: تمثل "رابطة دول جنوب شرق آسيا" (آسيان) الوجه الآخر لمعادلة التنظيم الإقليمي الآسيوي لصالح الولايات المتحدة.
وهذه المنظمة التي دشنتها 5 دول آسيوية في 8 أغسطس 1967، هي: تايلند، إندونيسيا، الفلبين، ماليزيا، وسنغافورة، قد اتسعت اليوم لتضم 24 دولة، كان آخرها عضوية باكستان، والتي انضمت في الثاني من يوليو/تموز 2004.
وفي الرؤية الإستراتيجية الأميركية لإدارة "بايدن"، فإن الولايات المتحدة تنظر لمنظمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (APEC)، وثيقة الصلة بمنظمة "آسيان" كونها أحد الفاعلين الإقليميين الذين يمكن الاعتماد عليهم في تمرير التصور التنموي الشامل ضمن الرؤية الإستراتيجية الأميركية من جهة، كما أنها أحد الفاعلين المسؤولين عن التشبيك بين حلفاء الولايات المتحدة داخل الإقليم وخارجه[39].
وفي مقابل الوجود الهندي في منظمة "بريكس" نجد أن منظمة "آسيان" مخترقة صينيا على مستويات عدة، وقد سبق أن أشرنا إلى المناورات العسكرية بين الصين وتايلند؛ العضو المؤسس في "آسيان".
هذا علاوة على اختراقها الاقتصادي لكل من ماليزيا وتايلند وعدد كبير من أعضاء "آسيان".
وبعيدا عن العلاقات الثنائية، ودعما لها، تعمل الصين على توطيد علاقاتها بدول "آسيان".
وكانت آخر فعاليات التواصل الصيني – الآسياني ما شهدته القارة الآسيوية في أعقاب زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي "نانسي بيلوسي" للمنطقة، من اجتماع وزراء خارجية الرابطة مع وزير الخارجية الصيني[40]. وما سبقها من قمة صينية – آسيانية في 22 نوفمبر /تشرين الثاني 2021[41].
وعلى نقيض الوضع في "بريكس"، فإن الاختراقات الصينية لمنظمة "آسيان" يمكن أن تكون مصدرا لكبح التوترات الإقليمية، بالنظر لتعدد الفاعلين الآسيويين الراغبين في تهدئة المنطقة.
علاوة على خطورة التهديد الصيني في حال تدحرجت كرة الثلج العدائية باتجاه تكرار نموذج الحرب الأفغانية في تايوان كما في أوكرانيا.
الخاتمة
ثمة إدراك عام لدى صناع القرار الأميركيين بأن التحدي الصيني مقلق للمصالح الغربية، ولمصالح حلفاء الغرب في المنطقة الهندوباسيفيكية، ما حدا بإدارة "أوباما" للانتباه للصين، وهو ما طورته إدارة "ترامب" بتكوين القوة الأميركية للمنطقة الهندوباسيفيكية في 2018، لتعمق إدارة "بايدن" هذا التوجه.
ورغم الإستراتيجية الأميركية الشاملة لبناء حالة اعتماد "هندوباسيفيكية" عليها، فإن التوتر قد طفا على السطح، خاصة في أعقاب الحرب الروسية على أوكرانيا، ما يشي باحتمال استدراج الولايات المتحدة للصين تجاه تايوان أسوة بحرب كييف مع تفكير في تجهيز المنطقة بالنووي التكتيكي الغربي.
وفي المقابل، تمضي الصين قدما في مبادرة "الحزام والطريق"، والإستراتيجية الداعمة لها، المتمثلة في "عقد اللؤلؤ"، مع الاستمرار في المرحلة الثالثة من إستراتيجيتها البحرية الرامية في منتهاها لتقويض النفوذ الأميركي في المنطقة الهندوباسيفيكية.
وتبني الصين تحالفاتها غير المباشرة عبر "عقد اللؤلؤ"، وشراكتها الإستراتيجية مع روسيا، وسعيها لاختراقات المنظمات الإقليمية، وأبرزها "آسيان"، والتي يمكن أن تمثل مصدرا لكبح التوتر الإقليمي، في الوقت الذي تواجه فيه منظمة "بريكس" ضبابية في وجهتها بسبب العضوية الهندية المراوغة.