"كيان مطيع".. هكذا تحول القضاء العراقي إلى تابع للفاعل السياسي الأقوى

يوسف العلي | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

وضعت الأزمة السياسية الراهنة في العراق السلطة القضائية في الزاوية، وذلك لكثرة الاتهامات التي طالتها منذ عام 2003، لا سيما الخضوع للقوى الموالية لإيران، والتستر على كبار المسؤولين المتورطين بقضايا فساد وانتهاكات بحق العراقيين، وتفسير مواد الدستور بانتقائية.

وتصاعدت الأزمة السياسية بعد سيطرة أنصار التيار الصدري على مبنى البرلمان، في 30 يوليو/ تموز 2022، احتجاجا على ترشيح قوى الإطار التنسيقي الموالية لإيران للنائب محمد شياع السوداني لرئاسة الحكومة.

فيما يطالب الصدريون بحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة عقب نحو 10 أشهر على آخر انتخابات.

قضايا متلاحقة

قوى سياسية في مقدمتها التيار الصدري، اتهمت القضاء العراقي بالتسبب في الأزمة الحالية، جراء قرارات مسيسة، وذلك بعدما أخفق الصدر بتشكيل حكومة الأغلبية السياسية التي نادى بها مع حلفائه من السنة والأكراد، لأن المحكمة الاتحادية اشترطت تحقيق نصاب الثلثين (220 نائبا من أصل 329)، لانتخاب رئيس للجمهورية.

وعلى إثر ذلك أعلنت الكتلة الصدرية (73 نائبا) في يونيو/ حزيران 2022 الاستقالة من البرلمان، رغم أنها كانت تشكل تحالفا مع تكتل السيادة السني (60 نائبا) والحزب الديمقراطي الكردستاني (33 نائبا) لتشكيل حكومة الأغلبية.

وهي ما رفضها الإطار التنسيقي الشيعي وشكل مع حلفائه ما يسمى "الثلث المعطل" بالبرلمان لإعاقة انتخاب الرئيس.

وفي فبراير/ شباط 2022 أصدرت المحكمة الاتحادية في العراق، أعلى سلطة قضائية في البلاد، قرارا باستبعاد هوشيار زيباري نهائيا عن الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية بعد تعرضه لاتهامات بالفساد، التي نفاها الأخير بشدة وعدها استهدافا سياسيا.

وكان هوشيار زيباري مرشح الحزب الديمقراطي الكردستاني، أحد أبرز الأحزاب السياسية الكردية الذي يتزعمه مسعود بارزاني، بدعم من مقتدى الصدر الزعيم الشيعي الذي يترأس الكتلة الصدرية التي فازت بأكبر عدد مقاعد في البرلمان.

وفي يوليو 2022، نشر الإعلامي العراقي المقيم في واشنطن علي فاضل تسريبات صوتية منسوبة إلى رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، والتي وجه فيها شتائم إلى زعيم التيار الصدري، واتفاقه مع مجاميع مسلحة لقتل الصدر في مدينة النجف، متهما إياه بأنه ضمن "مشروع بريطاني- صهيوني".

ونشر علي فاضل تسريبات أخرى تتعلق بالنائب أحمد الجبوري (أبو مازن) في أغسطس/آب 2022، يعقد صفقات مالية مشبوهة بملايين الدولارات في محافظة صلاح الدين التي ينتمي إليها، ويتفق على بيع المناصب الحكومية ومن ضمنها منصب قاض في المحكمة الاتحادية.

وفي السياق ذاته نشرت منصات قريبة من التيار الصدري في أغسطس 2022، منها قناة "الجدار نيوز" على "تليغرام"، مقطعا مصورا لرئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض يظهر في لقاء سابق مع زعيم التيار مقتدى الصدر (لم يعرف تاريخه)، يتحدث عن "شرعية قتل المعتقلين السنة في العقيدة الشيعية".

وكذلك نشرت المنصات ذاتها مقاطع فيديو لإعدامات جماعية قالت إن مليشيات كتائب حزب الله العراقية نفذتها بحق مدنيين من السنة في عام 2015 بعد اختطافهم.

ونشرت أيضا مقاطع لتفكيك مصفاة بيجي النفطية في محافظة صلاح الدين على يد عناصر مليشيا "عصائب أهل الحق" الشيعية.

ورغم كل ذلك، دأب القضاء منذ 2003 على التزام الصمت في أحيان كثيرة، أو الاكتفاء بفتح تحقيق من دون النتائج، ومن أبرز تلك القضايا مقتل 800 متظاهر في 2019، وقضية سقوط ثلث مساحة العراق بيد تنظيم الدولة عام 2014، وما خلفته من ضحايا بالمئات.

"صراع قضائي"

وفي 10 أغسطس/ آب 2022، طالب مقتدى الصدر القضاء في تغريدة عبر تويتر بحل البرلمان "في غضون أسبوع"، وهدد بعواقب لم يحددها في حال عدم تلبية طلبه.

وفي نفس اليوم وجه الصدر أنصاره لملء استمارة إقامة دعوى قضائية إلى المحكمة الاتحادية ضد (رؤساء الجمهورية برهم صالح والوزراء مصطفى الكاظمي والبرلمان محمد الحلبوسي).

لخرقهم المدد الدستورية التي تنص على انتخاب رئيس للجمهورية خلال 30 يوما بعد عقد أول جلسة للبرلمان عقب الانتخابات البرلمانية، والتي كانت قد جرت في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2022.

ورد مجلس القضاء الأعلى في العراق بعد أربعة أيام على طلب الصدر بأنه لا يملك صلاحية ذلك، داعيا في الوقت ذاته القوى السياسية إلى عدم الزج به في الأزمة الحالية.

لكن أنصار التيار الصدري صعدوا من خطوات الاحتجاجات الشعبية في 23 أغسطس من خلال التظاهر والاعتصام أمام مبنى مجلس القضاء الأعلى داخل المنطقة الخضراء وسط  بغداد، مطالبين بحل البرلمان وعدم تسييس المؤسسة القضائية، في حين أعلن المجلس تعليق عمله.

وبعد أقل من ساعة من احتشاد أنصار الصدر أمام مبنى مجلس القضاء الأعلى أصدر المجلس بيانا أعلن فيه اجتماعه "إلكترونيا"، "تعليق عمل مجلس القضاء الأعلى في العراق والمحاكم التابعة له، والمحكمة الاتحادية العليا، احتجاجا على التصرفات غير الدستورية"، محملا الحكومة والتيار الصدري مسؤولية النتائج المترتبة على ذلك.

وعلى إثر ذلك طلب الصدر من أنصاره الانسحاب من أمام مبنى مجلس القضاء الأعلى، وجاء في تغريدة كتبها ما يعرف بـ"وزير الصدر" صالح محمد العراقي قال فيها: "للحفاظ على سمعة الثوار الأحبة ولعدم تضرر الشعب... أنصح بالانسحاب"، لكن مع "الإبقاء على خيم الاعتصام".

واتهم "وزير الصدر" خلال بيان له في 24 أغسطس القضاء العراقي بـ"خرق الدستور" وحماية ودعم "الإطار التنسيقي"، وفيما توعد بـ"خطوة مفاجئة" أشار إلى أن "الفساد" طال المؤسسة القضائية منذ عشرين عاما".

من جهته، رأى المحلل السياسي العراقي مهند الجنابي أن "انسحاب الصدريين من اعتصامهم أمام مجلس القضاء الأعلى لم يكن تراجعا، وإنما خطوة تكتيكية وتقدير موقف، من أجل عدم منح الإطار التنسيقي الفرصة لتوظيف هذا الاعتصام ضد مسعى التيار"، حسبما نقلت صحيفة "عربي21" في 25 أغسطس. 

وفي سياق متصل حددت المحكمة الاتحادية العليا في العراق، 30 أغسطس، موعدا لعقد جلسة النظر بالدعوى المقدمة من التيار الصدري لحل البرلمان، والدعوة لإجراء انتخابات برلمانية جديدة.

وقال بيان مقتضب للمحكمة نشرته وكالة الأنباء العراقية (واع) في 25 أغسطس، إن "موضوع الدعوى تضمن الحكم بحل البرلمان وإلزام رئيس الجمهورية بتحديد موعد لإجراء الانتخابات التشريعية وفقا لأحكام المادة 64 من الدستور".

"مسؤولية برلمانية"

وتعليقا على موقف السلطة القضائية من كل ذلك، قال الخبير القانوني العراقي علي التميمي لـ"الاستقلال" إن "القضاء العراقي عندما يصدر قرارات في قضايا مثل هذه وغيرها، تكون بناء على شكوى أو دعاوى مشتكين وأدلة، ولا يصدر القرارات بعاطفة أو عداء مع أحد".

وأضاف التميمي: "يجب أن تكون هناك شكوى لمحكمة التحقيق وأحيانا الادعاء العام يحرك الشكوى بناء على بلاغ أو منشور أو قضية رأي عام، أما قرارات بشكل منفرد أو شخصية لا يمكن أن تصدر عن القضاء".

وبخصوص المدد الزمنية لانتخاب رئيس الجمهورية بعد عقد أول جلسة للبرلمان التي جرت في يناير/ كانون الثاني 2022، قال التميمي إن "المدد الزمنية في الدستور العراقي هي تنظيمية وليست حتمية، وأن تجاوزها لا يعني سقوط الحق فيها ويمكن إتمام ذلك فيما بعد".

وأوضح التميمي أن "البرلمان يتحمل تجاوز المدد الدستورية بالدرجة الأساس، لأن المحكمة الاتحادية فسرت مواد الدستور بخصوص هذا الموضوع والتوقيتات التي تسمى فيها الرئاسات وغيرها".

وتنص المادة 76 من الدستور العراقي على أن "يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الأكثر عددا بتشكيل مجلس الوزراء خلال 15 يوما من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية"، لكن ذلك لم يحصل وانتهت المهل الدستورية لانتخاب الرئيس نفسه بعد بمرور مدة الشهر.

وفيما يخص قضايا الفساد والتحريض والاقتتال وتقويض السلم الأهلي وعدم اتخاذ القضاء أي إجراءات إزاء ذلك، قال التميمي إن "هذه الجرائم  لا يمكن أن تسقط بالتقادم ويمكن أن تحرك في أي وقت، وكذلك الدعوى المفتوحة تبقى لحين صدور قرار بات فيها".

واستبعد التميمي أن "وجود تأثيرات سياسية على مسار أي دعاوى قضائية، وأنه حتى لو تأخرت فإنها تثار فيما بعد لأنه لا يوجد تقادم مسقط لها. أما عدم تحريكها وتوقيفها في الوقت الحالي، فهذه أمور إدارية تخص المحاكم لا اطلاع لنا عليها"، على حد تعبيره.

"كيان مطيع"

في المقابل، قال الباحث السياسي العراقي يحيى الكبيسي، إن "القضاء في العراق يمكن أن يكون أداة فاعلة وجوهرية في بناء الدولة والمجتمع، ويكون في الوقت نفسه عاملا من عوامل تقويضهما، ومراجعة سلوك القضاء العراقي يكشف، بما لا يدع مجالا للشك، أنه تحول إلى عامل رئيس في مسار هذا التقويض".

وأوضح الكبيسي أن "في تاريخ الدولة العراقية (1921 ـ 2003)، لم يعرف القضاء العراقي الاستقلالية عن السلطة التنفيذية، ويعود الفضل للاحتلال الأميركي حصرا، في ذلك، الذي أعاد تشكيل مجلس القضاء الأعلى، وكذلك من خلال قانون إدارة الدولة المؤقت الصادر في مارس/ آذار  2004 والذي تبنى مبدأ الفصل بين السلطات".

وتابع الكاتب خلال مقال نشرته صحيفة "القدس العربي" في 26 أغسطس/ آب 2021، أن "الوقائع اللاحقة أثبتت أن الطبقة السياسية العراقية، والقضاء نفسه، ليسوا مؤهلين حتى اللحظة لهذا الأمر.

ومضى يقول: "فقد فشل القضاء العراقي، في استثمار هذه الاستقلالية، وبقي خاضعا لسلطة الفاعلين السياسيين الأقوى، ومحكوما بعلاقات القوة المتغيرة بعد العام 2003".

وأردف: "ليس فقط بسبب هيمنة شخص واحد (القاضي مدحت المحمود آنذاك) على كل من مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية العليا التي تشكلت في عام 2005، بل لأسباب أخرى تتعلق بالبنية الذهنية للقضاة أنفسهم".

فهم "لم يكونوا قادرين على وعي فكرة الاستقلالية من الأصل، وبسبب الخوف، أيضا، من العزل.. وأخيرا بسبب الحوافز المادية الكبيرة الممنوحة للقضاة، كل هذا جعلهم عاجزين تماما عن الوقوف بوجه تدخلات وإملاءات الفاعلين السياسيين ذوي السطوة والنفوذ"، يوضح الخبير القانوني.

ورأى الكبيسي أن "كل هذا ساهم في تحول القضاء العراقي بشقيه؛ المحكمة الاتحادية العليا، ومجلس القضاء الأعلى إلى تابع للفاعل السياسي الأقوى، وإلى كيان مطيع لرغبات هؤلاء الفاعلين ونزواتهم ما بين عامي 2003 و 2017".

وأشار إلى أن "عام 2017 شرع قانون مجلس القضاء الأعلى، وفيه فصلت المحكمة الاتحادية العليا عن مجلس القضاء الأعلى، ومراجعة هذا القانون تكشف بوضوح عن اختصاصات وصلاحيات محددة منحت لمجلس القضاء الأعلى، ورئيسه".

وأوضح أن جميعها يتعلق بإدارة الشؤون القضائية حصرا، ولكن التواطؤ السياسي، والبنية الزبائنية الحاكمة في الدولة العراقية، وطبيعة التحالفات السياسية، أتاحت للمجلس أن يمارس دورا سياسيا واضحا، حولته إلى فاعل سياسي".

وزاد الكبيسي قائلا: "تكرس الأمر بعد صدور قانون تعديل قانون المحكمة الاتحادية عام 2021، الذي شكل فضيحة حقيقية؛ فقد صدر هذا القانون بصفقة سياسية انتهكت قرارا باتا وملزما للسلطات كافة، أصدرته المحكمة الاتحادية العليا بعدم اختصاص في سياق الصراع الحالي بين الإطار التنسيقي والتيار الصدري".

وأشار إلى أنه "أصبح واضحا للجميع أن القضاء العراقي لم يعد طرفا سياسيا وحسب، بل أصبح حليفا سياسيا يستخدم سلطاته المطلقة لتغليب كفة طرف على آخر، وهو ما أفقد القضاء ككل، والمحكمة الاتحادية بوجه خاص، القدرة على أن تكون حكما".

وبحسب الدستور العراقي، تنقسم السلطة القضائية في العراق إلى مجلس قضاء أعلى، ومحكمة اتحادية عليا، حيث يعد الأول الجهة الإدارية العليا للقضاء العادي ومقره في العاصمة بغداد ويختص بإدارة القضاء العادي.

ووفقا للمحاصصة الطائفية في مناصب الدولة العراقية، فإن منصب رئيس مجلس القضاء الأعلى من المفترض أن يكون من حصة المكون السني، إلا أن ذلك جرى الالتفاف عليه، وجرى تعيين القاضي فائق زيدان (شيعي) رئيسا له منذ عام 2017.

أما المحكمة الاتحادية العليا، التي هي من حصة المكون الشيعي، فهي هيئه قضائية اتحادية لديها سلطة الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة وتفسير نصوص الدستور واختصاصات أخرى نص عليها الدستور.

وتتألف المحكمة الاتحادية من 12 قاضيا يمثلون مختلف المكونات العراقية، ويتولى رئاستها حاليا القاضي جاسم العميري فضلا عن 8 قضاة أعضاء أصلاء في المحكمة، فيما ضم المرسوم أيضا 3 أعضاء احتياط، وكلهم يجري اختيارهم بالتزكية من القوى السياسية ويؤدون اليمين أمام الرئيس العراقي.

ويتهم مقتدى الصدر السلطة القضائية بشقيها، مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية، بأنها بمسارية قوى "الإطار التنسيقي" الشيعي في قراراته، حسب بيان له في 17 مايو/ أيار 2022.