رغم العقوبات الغربية المميتة.. كيف بقي الروبل الروسي على قيد الحياة؟

علي صباحي | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

خلال زيارته إلى بولندا في 26 مارس/آذار 2022، أشاد الرئيس الأميركي جو بايدن في كلمة أمام الآلاف، بتأثير العقوبات الغربية "غير المعهودة" على الاقتصاد الروسي، قائلا: "تحول الروبل على الفور إلى أنقاض، هذه حقيقة.. يتطلب نحو 200 روبل تقريبا للحصول على دولار واحد".

لكن على عكس ادعاءات رئيس أكبر دولة بالعالم، وفي صورة فاجأت الكثير، بدأت العملة الوطنية الروسية في التعافي بوتيرة سريعة، فلم تتجاوز الخسائر الناجمة عن العقوبات وحسب، بل اتجهت إلى تحقيق مكاسب.

وهو الأمر الذي دفع كثيرين حول العالم للتساؤل، كيف حدث ذلك؟ وهل فقدت "الأسلحة" الاقتصادية الغربية قوتها؟ وهل هذا الصعود مؤشر على تحسن الاقتصاد الروسي ونجاح سياسات الرئيس فلاديمير بوتين الذي يتبنى نهج الغزو والعدوان لتحقيق ما يريد دون رادع؟

عودة قوية

في 8 أبريل/ نيسان 2022، سجل سعر صرف العملة الوطنية الروسية أقوى مستوى لها منذ فرض العقوبات الغربية على موسكو إثر غزو أوكرانيا، بعدما ارتفعت قيمتها إلى 77.85 روبلا مقابل الدولار الواحد.

وقبل شهر تقريبا، بلغ الروبل أسوأ مستوياته بعدما أعلن بايدن، في 7 مارس/ آذار 2022، حظرا على واردات النفط والغاز من روسيا، ليسجل سعر صرف العملة الروسية 177.26 روبلا مقابل الدولار الواحد، بنسبة ارتفاع بلغت نحو 128 بالمئة.

وعن هذا كتب الاقتصادي العالمي، الأستاذ بجامعة جون هوبكينز الأميركية، ستيف هانكي في 8 أبريل، "بلغ الروبل الروسي 77.85 مقابل الدولار أثناء التداول اليوم، أي أقوى من مستواه قبل الصراع".

وأضاف في تغريدة عبر تويتر: "ارتفع الروبل الآن أمام الدولار بنسبة 128 بالمئة منذ أن سجل أدنى مستوى قياسي له في 7 مارس عند 177.26 مقابل الدولار. يبدو أن محافظ البنك المركزي إلفيرا نابيولينا قد نجت من العاصفة".

ومع بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، كان تُتداول العملة في مستويات 82 روبلا مقابل الدولار، لكن مع إصرار بوتين على اللجوء للعنف، بدأ الغرب، ممثلا في أميركا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، في فرض سيل من العقوبات توقع كثيرون أن تُدخل الاقتصاد الروسي في ركود عظيم.

واعتبارا من 28 فبراير/شباط 2022، أي بعد 4 أيام من الغزو، بدأ الغرب يكشف عن عقوباته تدريجيا، إذ جمد 300 مليار دولار من أصل 640 مليار دولار من أصول البنك المركزي الروسي من الذهب والعملات الأجنبية.

ومنعت بريطانيا، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة المواطنين والشركات لديها من إجراء أي تعاملات مالية مع البنك المركزي أو وزارة المالية أو صندوق الثروة السيادي في روسيا.

وتضمنت العقوبات إبعاد بعض البنوك الروسية عن نظام "سويفت" العالمي الذي يسمح بتحويل الأموال بشكل سهل بين الدول، ما يعيق قدرة موسكو على الحصول على عائدات بيع نفطها وغازها.

وأعلن الاتحاد الأوروبي عن فرض عقوبات تستهدف 70 بالمئة من السوق المصرفية الروسية وكبريات الشركات المملوكة للدولة.

واستهدفت العقوبات الغربية أيضا كثيرا من رجال الأعمال والأشخاص البارزين في روسيا، على رأسهم فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، وجمدت أصولهم، كما انضمت كندا واليابان وأستراليا إلى العقوبات.

رد الفعل

ويرجع الفضل في تعافي الروبل الروسي إلى مستويات ما قبل غزو أوكرانيا إلى سلسلة قرارات اتخذتها موسكو لإنقاذ العملة المحلية من الانهيار.

فكما هو معروف، يجرى تحديد سعر أي عملة وفق معايير العرض والطلب بالسوق الدولية، والرغبة في شرائها واستخدامها والاستثمار فيها، فضلا عن أهمية صادرات البلد بالنسبة لدول العالم.

ومع بدء الغزو وفرض العقوبات الغربية، شرع المواطنون الروس والمستثمرون المحليون والأجانب بتحويل مدخراتهم ورؤوس أموالهم من الروبل إلى الدولار، ومن ثم إخراجها لبلدان أخرى لمن لديه الفرصة، ما تسبب في هبوط حاد للعملة الروسية.

وردا على ذلك، قرر البنك المركزي الروسي في 28 فبراير 2022، مضاعفة سعر الفائدة إلى 20 بالمئة، بعد أن كانت 9.5 بالمئة، من أجل تشجيع المدخرين الروس على الاحتفاظ بأموالهم بالروبل.

وفي مطلع مارس، قرر البنك تقييد السحب النقدي من حسابات العملات الأجنبية المفتوحة في البنوك الروسية، في حدود 10 آلاف دولار حتى 9 سبتمبر/ أيلول 2022، مع إمكانية سحب الباقي بالروبل فقط وفق سعر الصرف المعمول به.

كما قرر البنك في 9 مارس، تعليق بيع العملات الأجنبية في روسيا حتى 9 سبتمبر 2022. مع ذلك، أتيح استبدال العملات الأجنبية بالروبل خلال هذه الفترة.

وفرض البنك في 25 مارس 2022، بعض القيود بمنع خروج أي رؤوس أموال قد تدخل اقتصادات "دول غير صديقة"، بما في ذلك منع بيع أصول مالية مملوكة من قبل أجانب داخل روسيا.

وبرز سلاح المحروقات، كأحد أهم الوسائل المؤثرة التي لجأ إليها البنك المركزي الروسي لرفع الطلب على الروبل ومن ثم زيادة سعره مقابل الدولار.

وروسيا إحدى أهم البلدان المصدرة للنفط والغاز في العالم، لاسيما للدول الأوروبية، ومع الغزو بدأت تنتشر تكهنات عن احتمالية انقطاع إمدادات النفط والغاز الروسيين أو تقليلها، ما زاد من إقبال الدول الأوروبية تحديدا على التزود بها.

وكشف مسؤول الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل في 7 أبريل 2022، عن إنفاق الاتحاد 35 مليار يورو (38 مليار دولار) على واردات الطاقة الروسية منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا.

وفي 28 مارس 2022، كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال"، أن البنك المركزي الروسي فرض على الشركات الروسية المصدرة للطاقة، اعتبارا من نهاية فبراير، أن تحول 80 بالمئة من قيمة مبيعاتها إلى الروبل الروسي.

ما يعني دفع هذه الشركات ما تمتلك من الدولار واليورو للبنك المركزي، الذي سيمنحها مقابل ذلك بالروبل.

وعلى هذا النحو لم تحد موسكو فقط من بيع الروبل وانخفاض قيمته، بل زادت الطلب عليه بشكل كبير، حتى لو كانت هذه الطريقة اصطناعية، ولا تعكس رغبة حقيقية من مستثمرين بشراء العملة الروسية.

وفي 23 مارس، أعلن بوتين أن روسيا ستفرض على الدول "غير الصديقة" المستوردة للغاز الروسي أن تشتريه بالروبل، بدلا من دفع قيمته باليورو والدولار، بما في ذلك جميع أعضاء الاتحاد الأوروبي.

وأوضح أن هذا الإجراء لن يقتصر على المحروقات وحسب، بل إن بلاده ستتجه لبيع جميع سلعها بالروبل في المستقبل.

من جانبه، أعلن بنك روسيا في 25 مارس، ربط تداول الذهب بالروبل، وقال إنه سيستأنف شراء الذهب بسعر ثابت قدره خمسة آلاف روبل للغرام الواحد (ما يعادل 52 دولارا ذلك اليوم).

انتعاش ظرفي

وعن مدى فاعلية الإجراءات الروسية التي حدت في الوقت الحالي من تأثير العقوبات الغربية، نقلت مجلة "بوليتيكو" الأميركية عن خبراء في 31 مارس، أن ما يحدث "انتعاش ظرفي سرعان ما سيتلاشى بفعل استمرار الضغط الغربي".

وأضافت نقلا عن مسؤولين في وزارة الخزانة الأميركية وخبراء بالعقوبات، أن انتعاش الروبل لا يعني بالضرورة أن "الأسلحة الاقتصادية" للغرب تفقد قوتها، وما فعله البنك المركزي الروسي ليس علامة على تحسن الاقتصاد أو نجاح سياسات بوتين، بل سيعود الانهيار مع تقليل هذه القيود.

وتذهب وجهة النظر هذه، إلى أنه لا يمكن للبنك المركزي الروسي الاستمرار في رفع أسعار الفائدة لأن فعل ذلك سيؤدي في النهاية إلى خنق الائتمان للشركات والمقترضين، ما يعني قلة الاستثمارات ومن ثم الركود.

وهذا ما تحقق بالفعل، إذ أعلن البنك المركزي الروسي، في 8 أبريل 2022، خفض سعر الفائدة الرئيس، بواقع 300 نقطة أساس إلى 17 بالمئة، مرجحا إجراء تخفيضات في المستقبل.

وعن الوضع العام، أضاف البنك في بيان، "لا تزال الظروف الخارجية للاقتصاد الروسي صعبة وتحد بشكل كبير من النشاط الاقتصادي، والمخاطر المالية لا تزال تهدد الاستقرار القائم".

وفي إشارة إلى أن الأسوأ لم يأت بعد، قال نائب وزير الخزانة الأميركي والي أديمو، لـ"بوليتيكو"، إن أميركا وحلفاءها يخططون لفرض عقوبات جديدة على المزيد من قطاعات الاقتصاد الروسي.

وأضاف: "الآن بعد أن أدت أفعالنا إلى إضعاف قدرة روسيا على استخدام أصول البنك المركزي لدعم اقتصادها وتمويل حرب بوتين الوحشية، سنركز جهودنا بشكل متزايد على متابعة الصناعات التي تعتبر بالغة الأهمية لموسكو".

وفي نفس الاتجاه، قال الدبلوماسي الأميركي السابق إدوارد فيشمان، الذي لعب دورا رئيسا في صياغة العقوبات بعد الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم عام 2014، إن أميركا قد تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، عبر تصعيد العقوبات.

وتابع: على سبيل المثال، فرضت الولايات المتحدة عقوبات حظر كاملة على واحد فقط من أكبر خمسة بنوك في روسيا وعزلت سبع مؤسسات مالية فقط من نظام المدفوعات الدولي "سويفت".

وبينما استهدفت قطاعي الدفاع والبنوك في روسيا، فإنها لم تفرض قيودا كبيرة على أي من "اللاعبين الكبار" في قطاعات التعدين والمعادن أو النقل أو الشحن، يضيف فيشمان.

وفي قراءة أخرى للمشهد، قال الاقتصادي الأميركي بول كروغمان، إن روسيا تمكنت من النجاح في شيء واحد فقط منذ غزوها أوكرانيا، وهو الدفاع عن قيمة عملتها، ويبدو أن مسؤولي روسيا الاقتصاديين أكثر كفاءة من جنرالاتها.

وأضاف في مقال بصحيفة "نيويورك تايمز" مطلع أبريل، أن محافظ البنك المركزي الروسي إلفيرا نابيولينا، تحظى بتقدير نظرائها في الخارج.

 وبحسب ما ورد، فهي حاولت الاستقالة بعد بدء الحرب، لكن بوتين لم يسمح لها بالمغادرة، لذلك بذلت -مجبرة- وزملاؤها كل ما في وسعهم للدفاع عن الروبل.

وأوضح كروغمان أن تركيز روسيا جهودها على الدفاع عن الروبل، بغض النظر عن الاقتصاد الحقيقي، أمر منطقي كإستراتيجية دعائية، لكن من المحتمل أن تؤدي الإجراءات الصارمة المتخذة لتحقيق الاستقرار في الروبل إلى تعميق مستوى الكساد في البلاد.

ورجح أن تشهد روسيا ارتفاعا هائلا في التضخم وانخفاضا في الناتج المحلي الإجمالي في الأشهر المقبلة، دون اعتراف رسمي بذلك، لأنه غالبا ما تحاول الأنظمة الاستبدادية قمع البيانات الاقتصادية غير المواتية.

وأكد كروغمان أن دفاع روسيا عن الروبل، رغم أنه أمر مثير للإعجاب، فإنه ليس علامة على أن نظام بوتين يتعامل مع السياسة الاقتصادية بشكل جيد، بل يعكس اختيارا غريبا للأولويات، وقد يكون في الواقع علامة أخرى على الخلل في السياسة الروسية.