مادلين أولبرايت.. وزيرة خارجية أميركية عاشت اللجوء وبررت القتل والاحتلال

يوسف العلي | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

إعلان وفاة وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، مادلين أولبرايت، أعاد إلى الأذهان أبرز محطات حياة أول امرأة تولت هذا المنصب في الولايات المتحدة، ولا سيما في عملها الدبلوماسي، الذي كان حاضرا في المشهد الدولي بقوة في تسعينيات القرن العشرين.

وبحسب بيان صدر عن عائلتها، فإن أولبرايت توفيت في 23 مارس/آذار 2022 عن عمر ناهز 84 عاما بعد صراع مع مرض السرطان، فيما نعاها الرئيس الأميركي جو بايدن، في بيان، بالقول إن "القوة التي كانت تتحلى بها أولبرايت غيرت مجرى التاريخ".

"القاتلة الشمطاء"

أولى المواقف في حياة أولبرايت التي استرجعتها ذاكرة الإعلاميين العرب والأجانب، كانت تصريحاتها بخصوص تبريرها لموت نصف مليون طفل عراقي جراء الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق إبان غزو الكويت عام 1990، وحرب الخليج الثانية 1991.

وتداولوا على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو انتقدوا فيها تصريحات أدلت بها أولبرايت خلال مقابلة على برنامج "60 دقيقة" الأميركي، حيث ناقشت فيه الصحفية ليزلي شتال مع أولبرايت التي كانت سفيرة أميركا لدى الأمم المتحدة آنذاك كيف كان العراق يعاني من العقوبات المفروضة على البلاد.

وقالت شتال: "سمعنا أن نصف مليون طفل عراقي ماتوا، وهذا عدد أطفال أكثر من الذين ماتوا في هيروشيما، هل الثمن يستحق؟"، وأجابت أولبرايت: "أعتقد أن ذلك خيار صعب جدا ولكن نعتقد أن الثمن يستحق ذلك".

وعلق أستاذ الشؤون الدولية في جامعة قطر، محمد المختار الشنقيطي، في تغريدة على "تويتر" قائلا: "أخيرا هلكت الشمطاء الصهيونية مادلين أولبرايت، التي بررت موت نصف مليون طفل عراقي بالعقوبات الأميركية، حين كانت وزيرة الخارجية ببلادها".

وعلق الصحفي تركي الشلهوب عبر حسابه في "تويتر" على وفاة أولبرايت، قائلا: "الآن تقف بين يدي العادل الجبار.. هي اتعظت بنفسها، فهل يتعظ الظلمة الطغاة بغيرهم؟".

وكتب الباحث السياسي، أحمد الفراج، على "تويتر" بالقول: "ماتت اليوم مادلين أولبرايت وزيرة خارجية أميركا السابقة... رغم مرور السنوات، ما قالته الشمطاء لا يزال يهزني من الأعماق".

من جانبه، قال الإعلامي العراقي، حسين دلي، في تغريدة على "تويتر" إن "وفاة أولبرايت بعد أشهر من وفاة خليفتها في وزارة الخارجية الأميركية كولن باول. كلاهما اشتهر بالحقد على العراقيين وتسببت كذباتهما بقتل أكثر من 2 مليون عراقي بسبب حصار 1990 وغزو 2003".

وغرد الصحفي الاستقصائي، أجيت سينغ، أن أولبرايت "ساعدت عن قصد في فرض عقوبات ضد العراق أسفرت عن مقتل أكثر من نصف مليون طفل في التسعينيات، من العار أنها لم تقدم هي وزملاؤها من مجرمي الحرب إلى العدالة".

وفي تغريدة على "تويتر" علق مدير مجلس التفاهم العربي البريطاني "كابو"، كريس دويل، على إجابة أولبرايت بخصوص وفاة نصف مليون طفل عراقي، بالقول: "ما زالت تجعل دمي يغلي".

يهودية الأصل

أولبرايت، ولدت من أبوين يهوديين عام 1937 في تشيكوسلوفاكيا، لكن عائلتها اعتنقت المسيحية لاحقا، فبعد أن غزا النازيون وطنها عام 1939، فرت عائلتها إلى لندن واستمر والدها كوربل في العمل مع الحكومة التشيكية في المنفى حيث عمل في هيئة الإذاعة البريطانية الموجهة للتشيك.

بعد الحرب، عاد إلى وطنه وعمل سفيرا وأصبح فيما بعد مندوبا للأمم المتحدة للمساعدة في التوسط بين باكستان والهند حول كشمير، ولكن مع سيطرة الشيوعيين على السلطة في تشيكوسلوفاكيا خشي كوربل مرة أخرى على سلامة أسرته.

ونجح في تقديم طلب لجوء سياسي له ولزوجته وأطفالهما الثلاثة إلى الولايات المتحدة حيث حصل على منحة لتدريس السياسة في مدينة دنفر بولاية كولورادو.

وكانت مادلين أولبرايت تعرف لدى عائلتها باسم مادلا في البداية وثم مادلينكا. ولم تصبح حتى الخمسينيات من القرن الماضي رسميا، كما قالت "مادي الأميركية تماما" وذلك عندما حصلت على الجنسية الأميركية.

لم تدرك أولبرايت حتى تسعينيات القرن الماضي مدى صعوبة وخطورة وضع عائلتها في أوروبا، فقد اكتشفت صحيفة "واشنطن بوست" أن أكثر من عشرة من أقاربها، بينهم ثلاثة من أجدادها، قتلوا خلال الهولوكوست.

لم تكن أولبرايت التي نشأت باعتبارها مسيحية من طائفة الروم الكاثوليك على علم بمصير هؤلاء الأقارب حتى ذلك الحين.

وقبل أن تنتقل إلى الولايات المتحدة في سن الحادية عشرة، عاشت في عدة بلدان وكانت تتحدث أربع لغات.

وحين كانت وزيرة للخارجية الأميركية عام 1997، زارت أولبرايت، معبد بينكاس في مسقط رأسها براغ عام 1997، وهناك وجدت أسماء جدها وجدتها أرنوست وأولجا كوربل ضمن قائمة تضم أكثر من 77 ألف شخص من يهود التشيك والسلوفاك الذين لقوا حتفهم في الهولوكوست.

وحينها علقت قائلة: "لم أعلم أن عائلتي كانت ضحية الهولوكوست بشكل شخصي"، مضيفة: "عندما أصبحت سفيرة للأمم المتحدة تلقيت خطابا عام 1996 من شخص كان يتضمن كل الحقائق، فقد تضمن اسم العائلة الخاص بوالدتي، واسم القرية التي ولد بها أبي، وكذلك سلسلة من الحقائق".

وأردفت: "قررت بعد ذلك وأنا مع أولادي في إجازة أنني حقا أريد التحدث معهم حول هذا الأمر، فقلت: أتعرفون؟ لقد تلقيت هذا الخطاب، وأصبح لدي أسباب لأؤمن أن أبي وأمي كانا يهوديين، ويجب عليكم أن تعرفوا ذلك".

وزادت أولبرايت: "كنت مبهورة جدا عند علمت أنني كنت يهودية، لقد كانت خلفيتي مثيرة للاهتمام، وأعتقد أن اكتشاف هذا الأمر قد أضاف إلي ثراء كوني جزءا من تاريخ مبهر، ولكن كانت المعلومات المتعلقة بالهولوكوست مجرد شيء مفجع".

وتواصل: "أنا حقا لم أعرف أجدادي، وأننا غادرنا إلى إنجلترا عندما كان عمري عامين، وقد أخبرني والداي أن جدي وجدتي لقيا حتفهما خلال الحرب، وكما اتضح، فإنهما لقيا حتفهما بالفعل".

وزيرة للخارجية

بعد المدرسة الثانوية حصلت أولبرايت على منحة دراسية لدراسة العلوم السياسية في جامعة ويليسلي النسائية الخاصة في ماساتشوستس، وهي ذات الجامعة التي درست فيها وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون لاحقا.

خلال فترة الدراسة الجامعية أصبحت أولبرايت مهتمة بالحزب الديمقراطي، والتقت خلال تلك الفترة بزوجها المستقبلي جوزيف ميديل باترسون أولبرايت، وهو ابن أسرة أميركية شهيرة في مجال النشر.

عمل جوزيف صحفيا في جريدة "دنفر بوست" المحلية، بينما عملت مادلين متدربة في إخراج الصحيفة، وفي غضون أسابيع عقدا قرانهما، وبعد تخرج أولبرايت من الجامعة تزوجا ورزقا في البداية بتوأم، أليس وآن عام 1960، وتبعتهما الابنة الثالثة كاثرين في 1967.

واصل جوزيف مسيرته المهنية، بينما تعلمت زوجته مادلين اللغة الروسية وأكملت دراستها في العلاقات الدولية خلال أوقات فراغها، أولا في جامعة جورج تاون ثم في جامعة كولومبيا بنيويورك.

في أواخر الستينيات عندما عادت العائلة إلى واشنطن العاصمة، انخرطت أولبرايت بشكل مباشر في السياسة، حيث عملت عن كثب مع سيناتور ولاية ماين، إد موسكي، إذ ساعدته أولا في جمع التبرعات لخوض الانتخابات الرئاسية ثم عملت كمساعد تشريعي له.

حصلت أولبرايت في نهاية المطاف على درجة الدكتوراه عام 1975، ثم بعد بضع سنوات، عرض عليها أستاذها الجامعي السابق في كولومبيا، زبيغنيو بريجنسكي، أول وظيفة لها في الحكومة.

وكان الرئيس الأميركي في وقتها جيمي كارتر قد عين بريجنسكي مستشارا للأمن القومي، وأراد الأخير أن يساعد طالبته السابقة عبر تعيينها في وظيفة الاتصال بمجلس الشيوخ.

عندما خسر "الديمقراطيون" أمام المرشح الجمهوري رونالد ريغان، انتقلت أولبرايت إلى العمل في المجال الخيري، وبحلول ذلك الوقت انتهت حياتها الزوجية فجأة بعد 23 عاما.

انخرطت أولبرايت في العمل، وأصبحت أستاذة العلاقات الدولية في جامعة جورج تاون. 

وبصفتها أستاذة جامعية، جعلت طلابها يلعبون أدوارا حيوية في قضايا السياسة الخارجية.

وعندما انتخب الديمقراطي بيل كلينتون عام 1992 رئيسا للولايات المتحدة طلب أولا من أولبرايت المساعدة في انتقال إدارته قبل أن يعرض عليها دورا على مستوى مجلس الوزراء كسفيرة لدى الأمم المتحدة.

في ذلك الوقت كانت أولبرايت المرأة الوحيدة من بين 15 مسؤولا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وقد وصفت اجتماعهم الأول بأنه "جمع 14 بذلة وتنورة في غرفة".

بعد فوز كلينتون بولاية ثانية، رشحها لمنصب وزيرة للخارجية. وقالت أولبرايت لصحيفة "الغارديان" عام 2018: "عندما برز اسمي كوزيرة للخارجية بدا ذلك وكأنه أمر غير مألوف".

لكن بعد تصويت آخر بالإجماع في مجلس الشيوخ، أصبحت أولبرايت عام 1997 أول امرأة تتولى هذا المنصب.

وأثناء توليها الخارجية دعت أولبرايت إلى زيادة نفوذ حلف شمالي الأطلسي "الناتو" وكذلك كان لها دور في تمكين دعم الاحتلال الإسرائيلي.

"أفعى لا مثيل لها"

في 9 أغسطس/آب 2000، كشف كبير المفاوضين الفلسطينيين آنذاك، صائب عريقات، عن مناورات الإدارة الأميركية في قمة "كامب ديفيد" لإرغام الفلسطينيين على التخلي عن القدس.

وأوضح عريقات في ندوة عقدها برام الله، أن "رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات رفض عرضا بسيادة وهمية على الحرم تحت ضغوط وتهديدات أميركية"، مؤكدا أن "أولبرايت سعت إلى إهانة عرفات الذي لم يكن يستجيب لمساومات كلينتون صائحة في وجهه (لا تتحدث هكذا مع رئيس الولايات المتحدة)!".

وقال عريقات إن "بيل كلينتون طلب عقد جلسة مع عرفات وحضرتها أولبرايت ومسؤول المخابرات الأميركية جورج تنت ومستشار الأمن القومي ساندي بيرغر".

وأضاف أن "الجلسة جاءت بعد أن رفض عرفات الورقة الأميركية التي خفضت فيها نسبة الأراضي التي تحتفظ بها إسرائيل في الضفة الغربية من 13 إلى 9 بالمئة مع قبول مبدأ التبادل في الأراضي وحل مرض لمشكلة اللاجئين".

وأشار إلى أن "الورقة تتضمن بالنسبة للقدس أن تكون هناك سيادة فلسطينية على الحي الإسلامي والمسيحي، ولإسرائيل السيادة على الحي الأرمني واليهودي، أما الحرم الشريف فاقترحت واشنطن أن يكون تحت الوصاية الفلسطينية مع إعطاء إسرائيل سيادة تحت الحرم، وكان رد عرفات أن هذه الأفكار لا يمكن أن تكون أساسا للحل بأي شكل من الأشكال".

كما شاركت أولبرايت بشكل كبير في المفاوضات التي فشلت في النهاية مع كوريا الشمالية بهدف الحد من طموحاتها النووية، وفي عام 2000 كانت أعلى مسؤولة أميركية تزور بيونغ يانغ وتلتقي بزعيمها كيم جونغ إيل.

وكان لأولبرايت أسلوب دبلوماسي فريد خاص بها وهو استخدام ملحقات الزينة في عملها الدبلوماسي، إذ قالت إنها استلهمت الفكرة في البداية من تشبيهها من قبل وسائل الإعلام العراقية بـ"الأفعى التي لا مثيل لها"، بسبب موقفها من الزعيم الراحل صدام حسين بعد حرب الخليج الأولى (1980-1988).

وقالت أولبرايت لإحدى المحطات الإذاعية الأميركية عام 2009: "كان لدي دبوس قديم رائع على شكل ثعبان وعندما كنا نتعامل مع العراق كنت أرتدي ذلك الدبوس".

وصفت أولبرايت دبابيس الزينة التي كانت ترتديها بأنها "كانت أداة لكسر الجليد في المفاوضات"، حيث رأت أن "هذا تكتيك وأسلوب فعال" لإيصال الرسالة التي تبتغيها للطرف الآخر.

الدبابيس التي كانت على شكل سلاحف أو زهور أو بالونات كان لها تفسيرات خاصة بها.

وفي إحدى المناسبات ارتدت أولبرايت دبوسا على شكل حشرة عملاقة عندما اتضح أن الروس متورطون في فضيحة "تنصت".

واستذكرت لقاء فاترا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ارتدت خلاله دبوسا على شكل قرد في إشارة ضمنية إلى مقولة "لا ترى ولا تتحدث ولا تسمع الشر" الممثلة بثلاثة قرود أحدهم لا يتحدث والآخر لا يرى والثالث لا يسمع.

بعد ترك منصبها، أسست أولبرايت شركة استشارية وعملت لفترة وجيزة مديرة لمجلس إدارة بورصة نيويورك، وواصلت التحدث في المناسبات العامة والظهور في برامج تلفزيونية أميركية.

استمرت أولبرايت في نشاطها السياسي، وأقامت بالفعل علاقة وثيقة مع هيلاري كلينتون عندما كان زوجها رئيسا لدورتين وأيدتها في حملتيها الرئاسيتين عامي 2008 و2016.

وفي إحدى المناسبات أثارت عاصفة من الجدل عندما قالت إن إحدى المقولات المحببة لديها هي "هناك مكان خاص في الجحيم للنساء اللواتي لا يدعمن النساء الأخريات".

واصلت أولبرايت الكتابة حتى سنواتها الأخيرة، وفي عام 2018 وعندما كانت في الـ81 من العمر نشرت كتابها "الفاشية: تحذير" شجبت فيه ما رأت أنه صعود للنزعات السلطوية في جميع أنحاء العالم، ووصفت الرئيس آنذاك، دونالد ترامب، مرارا وتكرارا بأنه الرئيس "الأقل ديمقراطية" الذي عرفته الولايات المتحدة على الإطلاق.

وفي مقال رأي لأولبرايت نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" في فبراير/شباط 2022، شددت قبيل الغزو الروسي لأوكرانيا، على أن  بوتين سيرتكب "خطأ تاريخيا"، محذرة من التكاليف المدمرة لبلاده.

وكتبت أولبرايت قائلة "بدلا من تمهيد طريق روسيا نحو العظمة، فإن غزو أوكرانيا سيضمن عارا للسيد بوتين من خلال ترك بلاده معزولة دبلوماسيا، ومعطلة اقتصاديا، وضعيفة إستراتيجيا في مواجهة تحالف غربي أقوى وأكثر اتحادا".