فايز النوري.. قاضي إعدامات عائلة الأسد يمثل للمحاكمة أمام عدالة السماء

مصعب المجبل | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"لم تنله العدالة لكنه انتقل إلى المحكمة العادلة" بهذه الكلمات أجمع غالبية السوريين على إجرام "فايز النوري" القاضي السابق بمحكمة أمن الدولة التابعة للنظام السوري، المتوفى في 10 فبراير/ شباط 2022 بالعاصمة دمشق.

وعرف النوري بإصدار الآلاف من أحكام الإعدام والسجن بحق السوريين، وبوصفه أحد أهم أدوات إجرام الأسدين (الأب حافظ والابن بشار)، وكانت آخر صورة له تلقفها السوريون في فبراير 2021 ظهر فيها بـ"سحنة جزار قاتل" وهو مصاب بشلل نصفي.

وبدا جسمه حينها هزيلا وفمه قد اعوج، وذابت عينه اليسرى، الأمر الذي ولد حالة من ردود الفعل الشامتة به من قبل السوريين جراء ما اقترفته يداه من جرائم بحقهم.

النشأة والتحول

ولد النوري في مدينة دير الزور عام 1938، من أسرة تنحدر من عشيرة "العبيد"، فوالده نوري كان حلاقا، أما أمه وتدعى لبيبة العلاوي، فكانت خياطة.

وانتسب مبكرا لصفوف "حزب البعث" في المدينة، ودرّس في المرحلة الابتدائية كمعلم للرسم، قبل أن تساعده عضوية الحزب في دراسة الحقوق لاحقا.

كما شغل عضو اللجنة المركزية وعضو القيادة القطرية السابقة لحزب "البعث"، إلى أن عين رئيسا لمحكمة أمن الدولة العليا منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين وحتى صدور قرار حلها من قبل رئيس النظام بشار الأسد في 18 أبريل/نيسان 2011.

ولطالما استخدم "البعث" المحكمة لتصفية خصومه، لا سيما أنها تصدر الأحكام من محاكمها بالدرجة الأخيرة، بحيث تكون نهائية لا تقبل أي طريق من طرق الطعن أو المراجعة العادية أو الاستثنائية.

ولا تكون أحكامها نافذة إلا بعد التصديق عليها من قبل رئيس الجمهورية أو من يفوض بذلك الذي له حق إلغاء الحكم مع الأمر بإعادة المحاكمة أو إلغائها.

وقالت سارة ليا ويتسن، المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمنظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية الدولية إن "محكمة أمن الدولة العليا هي إحدى ركائز القمع الأساسية في سوريا".

وأضافت في تقرير نشر بتاريخ 24 فبراير/شباط 2009 أنها "محكمة استثنائية توفر التغطية القضائية لاضطهاد الأجهزة الأمنية للنشطاء، بل وحتى المواطنين العاديين".

وأكدت المديرة التنفيذية أنه "لا يتاح للمدعى عليهم فرصة الدفاع عن أنفسهم، ولا أن يثبتوا براءتهم من الاتهامات المزيفة المنسوبة إليهم"، مضيفة "باسم حماية الشعور القومي تسجن محكمة أمن الدولة العليا أكثر من 100 شخص سنويا".

المثير في الأمر أن هذه المحكمة استثنائية تعتبر خارج نظام القضاء الجنائي العادي، وهي حجرة في منزل وأحد القضاة يجلس وراء مكتب، وعادة ما يعرض القاضي القضية بشكل موجز ويطرح عدة أسئلة قليلة على المدعى عليه ثم تنتهي الجلسة.

ولا يتحدث فيها المحامون قط، ولا يجرى عرض أي دليل مادي، والجلسة برمتها لا تزيد عن 30 دقيقة لكل مجموعة.

رجل زئبقي

ونقلت وسائل إعلام محلية عن دبلوماسي غربي اعتاد حضور جلسات محكمة أمن الدولة العليا انطباعاته عن رئيس المحكمة، القاضي فايز النوري، قوله: "لم أر النوري يطالع أحد الملفات قط، فهو يقول للمدعى عليه: هذا هو الاتهام، فما قولك؟ وحين يتحدث المدعى عليه يقول فجأة: كفى! ولا يطرح الادعاء الأسئلة أبدا".

وقال محام يمثل كثيرا أمام المحكمة واصفا اعتماد المحكمة على الاعترافات المنتزعة تحت تأثير التعذيب: "الحقيقة أن الأغلبية العظمى من المتهمين تعرضوا للتعذيب، ومن النادر ألا يتعرض المدعى عليه للتعذيب، ولسوء الحظ فإن المحكمة مستمرة في الاعتماد على التحقيقات التي تجريها الأجهزة الأمنية".

واعترف النوري بعظمة لسانه أنه "أعدم 19 معتقلا دفعة واحدة"، وأكد أن كل من يعارض أهداف حزب البعث الحاكم آنذاك تجري محاكمته، ولهذا شكلت المحكمة "لأغراض سياسية للمحافظة على الحزب وتراثه الكبير"، حسب تعبيره.

وفي تسجيل مصور نشر كإعلان مقابلة له سجلت عقب الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، قال النوري إن "النظام السوري لم يخطأ وهو بريء من كل التهم الموجهة إليه".

ولقب النوري في الأوساط السورية، بـ "قراقوش أمن الدولة"، لكثرة أحكامه الجائرة بحق المعارضين للأسدين، التي كانت بمثابة بطاقة ولاء لحافظ الأسد وابنه ضد خصومهم.

كانت اللحظة الفارقة في حياة فايز النوري الذي كان معلما للرسم برتبة بعثي ويحب المسرح والتمثيل وذا لسان سليط، عندما التقى بالرجل الثاني في سوريا آنذاك، ألا وهو رفعت الأسد شقيق حافظ، أثناء زيارته لدير الزور.

وهنا تعرف النوري على رفعت، ومن حينها حظي بمكانة لدى رفعت صعدت به لأن يصبح أمين شعبة في حزب "البعث" في مدينته، ومن ثم أمين فرع دير الزور في النصف الأول من عام 1970.

وتسارعت خطوات النوري نحو العاصمة دمشق ليصبح بدعم رفعت كعضو احتياط في القيادة القطرية لحزب "البعث"، وما لبث أن سلمه أيضا منصب نائب رئيس مكتب "التعليم العالي والبحث العلمي" في سوريا، وبذلك بات مشرفا على كل جامعات البلاد.

وكان النوري رجلا زئبقيا بامتياز، فبعد فشل صانعه رفعت في الانقلاب على أخيه حافظ، وأبعد خارج البلاد عام 1984، قفز النوري إلى مركب الأخ مبديا الولاء والطاعة.

وسيلة قذرة

لكن ورغم خشية حافظ من أتباع أخيه رفعت الذي بات في هذا التوقيت يلقب بـ "جزار حماة"، إلا أنه رأى في النوري بابا لا يسد إلا به، فأسند له حافظ رئاسة محكمة أمن الدولة.

وبدأ النوري مباشرة بإصدار عشرات الآلاف من أحكام السجن ومنها المؤبد بحق السياسيين المناوئين للأسد الأب، كعربون طاعة عمياء، فضلا عن أحكام الإعدام بدون محاكمات حقيقية لهؤلاء ولا حتى منحهم حق توكيل المحامين للدفاع عنهم.

لم يمارس النوري مهنة المحاماة أو القضاء على الإطلاق، بل كفاه أن يكون "بعثيا مخلصا بالقتل" لكي يتقلد هكذا مناصب.

وهذا ما لفت إليه المحامي السوري الناشط في مجال حقوق الإنسان، بقوله في منشور على فيسبوك إن "النوري كان مجرد وسيلة قذرة، والمسؤول الأول عن عشرات الآلاف من أحكام الإعدام هو رئيس الجمهورية منذ تاريخ إنشاء هذه المحكمة وحتى تاريخ إلغائها في نيسان 2011".

وكان النوري أحد أعمدة الحفاظ على أنظمة الحكم الاستبدادية في سوريا، إذ لا يزال السوريون يتذكرون القصة الشهيرة عام 1979، عن مهدي علواني المناهض لنظام حافظ الأسد، عندما كان واقفا في قفص الاتهام في محكمة أمن الدولة بدمشق، وكانت المحاكمة تبث مباشرة على التلفزيون السوري.

فسأله النوري رئيس المحكمة آنذاك: "هل كنتم تريدون اغتيالي؟ فرد مهدي: لا، فقال له النوري: لماذا؟ فرد "لأنك أنت مجرد صعلوك تافه وحذاء عند رئيسك ليس لك قيمة عندنا، وابتسم ساخرا به، هنا فقد صوابه النوري وقال: إعدام إعدام إعدام".

وبالفعل أعدم علواني مع مجموعة من رفاقه في قلعة دمشق.

قاض فاسد

عرف النوري بأسلوبه الغليظ خلال محاكمات السجناء السياسيين التي كان يرأسها، لإصدار الحكم بعد انتزاع أقوال منهم تحت التعذيب، ويتلو النوري على المعتقل تهمته، ولا يسمح له بالرد لا بل ينهره ويطرده من القاعة.

وكان النوري يقول للمعتقلين، "حكمك عشر سنين بالسجن وخمسة من عندي، فهل من مزيد"، وهذه دعابة إن لم يضحك عليها السجين قد تتضاعف أكثر أو يتحول حكمه للإعدام.

وبحسب اللجنة السورية لحقوق الإنسان، فإن النوري، عرف بأحكامه العرفية الظالمة للمحكومين دون أن يستمع إلى أقوالهم ودون الاطلاع على أي من ملفاتهم، ولم تكن المحاكمة تدوم أكثر من دقائق معدودة.

وأكدت اللجنة أن النوري تسبب بقتل عشرات الآلاف من السوريين الأبرياء وخصوصا من فئة الشباب وشرد آلاف الأسر، إرضاء لرفعت، ثم حافظ الأسد، عبر إصدار أحكام لا علاقة لها لا بالقضاء العادل أو النزيه أو المهني حتى إنه حكم على مسيحيين بالإعدام بتهمة الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين.

ونوهت اللجنة إلى أن النوري كان يتلقى الرشى لتخفيف الأحكام من أهالي المعتقلين، الذين كشفوا عن ذلك بعدما كتب لهم النجاة من مقصلته.

واستثمر النوري علاقاته مع عائلة الأسد، في توسعة شبكة الفساد إلى أقاربه ابتداء من أولاده وأخوته الذين درس أغلبهم الطب بمنح من النظام السوري، إذ إنه لديه ستة أبناء درسوا الطب، إلى جانب ثلاثة أشقاء.

كما استطاع النوري أن يتقرب من رجال أعمال مقربين من النظام السوري، لتنمية ثروته المالية، وأشهرهم نزار أسعد، وغسان مهنا.

واستفاد منهم بحصوله على عقود لتقديم الخدمات الفنية النفطية لمشاريع شركات تعود لهؤلاء في محافظتي دير الزور والرقة منذ عام 1990.

وحينما عين النظام السوري، حافظ ابن فايز النوري المولود عام 1975 رئيسا لغرفة تجارة دير الزور في أكتوبر/تشرين الأول 2020، ظهرت الأموال التي جناها والده من الفساد، مقترنة مع النفوذ والسلطة التي منحها النظام لتلك العائلة.

لا سيما أن حافظ مول مجموعات للقتال إلى جانب قوات النظام في حربها ضد الشعب السوري.

قالوا عنه 

وكتب أحمد رمضان مسؤول الاستشارات الإستراتيجية في الائتلاف الوطني السوري المعارض، معلقا على وفاة النوري بقوله: "وفاة أحد أخطر المجرمين ضد الإنسانية دون أن تطاله العدالة!".

وأضاف في تغريدة عبر تويتر: "فايز النوري حكم على نحو 100 ألف سوري بينهم أطفال، بالإعدام بين عامي 1976 و2011، بتهمة معارضة آل الأسد. عار على المجتمع الدولي أن يترك مجرما وضيعا كل هذه السنين دون محاكمة".

كما غرد المحلل الفلسطيني ياسر الزعاترة بالقول: "توفي فايز النوري؛ رئيس محكمة أمن الدولة بسوريا بين 1979-2011. في سجله عشرات الآلاف من الأبرياء. اشتهر بمحاكمات تتم في دقائق".

وأضاف في إحداها عام 1979 حكم على 19 معتقلا بالإعدام دفعة واحدة، وفي أخرى 1992 حكم على 660 بالإعدام دفعة واحدة أيضا. هذا ليس شخصا.. هو صورة لتوحش نظام أقلية".

من جانبه كتب الكاتب السوري مالك داغستاني في تدوينة عبر فيسبوك: "مات فايز النوري اليوم. لم يكن الرجل سفاحا ولا جزارا كما تصفونه، كان مجرد موظف تافه وصغير، مجرم وضيع يجلسونه على قوس المحكمة كلما استدعت الظروف، يتلو الأحكام بأمانة وبمنتهى الطاعة، كما يطلبها منه رؤساء الفروع، ثم يعود في نهاية الدوام إلى البيت".

أما دياب سرية، المنسق العام لرابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا "سيئ الصيت" اعتبر أن النوري هو "الوجه الحقيقي للعدالة في سوريا الأسد"، والأحكام التي يطلقها كانت "تجرى بطريقة هزلية على آلاف السوريين".