"كوبري" بأحجار التراث.. لماذا يصر السيسي على تغيير ملامح القاهرة الأثرية؟

محمد السهيلي | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"وأنا المُحتفي بتاريخ مصر.. من يصن مجد قومه صان عرضا" بهذا البيت، أظهر أمير الشعراء أحمد شوقي، في قصيدته "أيها المنتحي بأسوان دارا"، تقديره العميق للتاريخ، إذ كتبها عن قصر أثري في مدينة أسوان جنوبي مصر، كانت تغمره مياه النيل كل عام.

لكن رئيس النظام المصري عبدالفتاح السيسي، أبى إلا أن يعارض بيت الشاعر المصري ويهدم مقبرة شوقي بالعاصمة القاهرة، ضمن مسلسل هدم المناطق الأثرية والتراثية في البلاد التي مرت عليها حضارات عديدة.

وأطلق كتاب وأثريون وأكاديميون صرخة لإنقاذ مقبرة شوقي، قبل هدمها ضمن 2670 من "مقابر المماليك" التاريخية في القاهرة، وذلك لبناء "كوبري" باتجاه العاصمة الإدارية الجديدة.

وطالب الكاتب المصري ميشيل حنا، في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وزارة الثقافة، واتحاد الكتاب، ومجمع اللغة العربية، والمثقفين، بإنقاذ ضريح شوقي الكائن بمقابر "السيدة نفيسة"، في حي "السيدة عائشة" من الهدم، ضمن الحملة الحكومية بـ"مقابر المماليك" التي بدأت منتصف 2020.

وأحمد شوقي (1868-1932)، أعظم شعراء العربية في العصر الحديث؛ ومن قلب العاصمة السورية دمشق عام 1927، بايعه شعراء العرب "أميرا للشعر"، وبعد وفاته دفن بمقابر "السيدة نفيسة".

التخلص من الماضي

دون احترام للمناطق الأثرية والتراثية والتاريخية المرتبطة بشخصيات ذات قيمة تاريخية أو علمية أو سياسية، تواصل سلطات النظام بإزالة مساحة بحي "السيدة عائشة" التاريخي في القاهرة، ونقل رفات الموتى إلى مناطق أخرى؛ لإنشاء جسر في الطريق بين العاصمة القديمة والجديدة.

وأكد المؤرخ والأكاديمي المصري عاصم الدسوقي، أن "هناك بالفعل إصرارا من النظام على تغيير ملامح القاهرة الأثرية وتفريغها من قيمها التاريخية والجمالية، وسط صمت مطبق من المختصين". 

وقال المؤرخ لـ"الاستقلال" إن "الطريق إلى الجمهورية الجديدة (مصطلح أطلقه رئيس النظام عبد الفتاح السيسي في يوليو/تموز 2021) يعني التخلص من كل ما يذكرك بالماضي القريب على الأقل".

وبدا الدسوقي، مستغربا من صمت شعراء وكتاب ومثقفي مصر على نقل رفات أمير الشعراء أحمد شوقي وهدم ضريحه، ونقل رفاته إلى مكان لا يسجله التاريخ.

السيسي منذ 2014، أنشأ 600 جسر و21 محورا بتكلفة 85 مليار جنيه (5.3 مليارات دولار)، وجاري تنفيذ 1000 جسر ونفق بتكلفة 130 مليار جنيه (8 مليارات دولار)، بحسب تصريحات وزير النقل كامل الوزير، في أغسطس/آب 2020.

لكنه في إطار تنفيذ مشروعاته، هدم النظام الكثير من المباني التراثية والتاريخية في القاهرة، ما يدفع للقلق على تراث وتاريخ العاصمة التي يصل عمرها لأكثر من ألف عام.

وهنا جاءت مطالبة لجنة التراث العالمي بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، لمصر عام 2017، بإنهاء التدهور السريع الملحوظ في القاهرة التاريخية، والعديد من المعالم التي جرى هدمها رغم تسجيلها في قائمة التراث العالمي منذ عام 1979.

وينص دستور 2014، على أن "تراث مصر الحضاري والثقافي والمادي والمعنوي، بجميع تنوعاته ومراحله الكبرى، القديمة والقبطية والإسلامية، ثروة قومية وإنسانية، تلتزم الدولة بالحفاظ عليه وصيانته"، وتذكر "المادة 50" منه أن "الرصيد الثقافي المعاصر المعماري والأدبي والفني بمختلف تنوعاته، والاعتداء على أي من ذلك جريمة يعاقب عليها القانون".

حبر سري

وعن أهمية المنطقة التي يقع بها "ضريح شوقي"، قالت أستاذة التخطيط العمراني جليلة القاضي، إن جبانة "السيدة نفيسة" المزمع إزالتها جزئيا، تقع في القاهرة التاريخية، يعني أنها مسجلة ومن التراث العالمي، "لكن في بلد الدستور حبر على ورق، التسجيل حبر سري".

وأكدت في تدوينة عبر صفحتها على "فيسبوك" في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2021 أن "كنوزا مهددة بالفناء ولن تستعاد"، مبينة أن تلك المقابر "جزء من القرافة الكبرى، المعروفة حاليا بالإمام الشافعي، المنشأة منذ 1450 عاما".

ولفتت القاضي إلى أن المقبرة "تضم من مدافن آل البيت النبوي، السيدات نفيسة، ورقية، وسكينة، وعاتكة، والإمام الجعفري، وقبة أم الصالح، وقبة الأشرف خليل، وضريح شجرة الدر، وقبة موفي الدين، وضريح الخلفاء العباسيين".

وأكدت أن "قرافات القاهرة ليست مجرد مقابر، بل صفحات على الأرض تحكي تاريخها القديم والحديث، وسير أعلامها، وتظهر عمارتها الجنائزية بثرائها وتنوعها وتفردها".

تشكل الآثار المصرية دورا كبيرا بعوائد السياحة الثقافية للدولة، وخاصة القاهرة القديمة والأقصر وأسوان وغيرها، إذ تمثل 35 بالمئة من دخل السياحة، وفق تصريح حكومي في أكتوبر/تشرين الأول 2020.

القاهرة التاريخية، مدرجة بقائمة "اليونسكو" للتراث العالمي منذ 1979، لثراء نسيجها العمراني وتنوع المباني الأثرية والتراثية والتاريخية إذ تعود للحضارة الفرعونية، والرومانية، والقبطية، والإسلامية، والمعاصرة.

وتضم القاهرة "الفاطمية" و"المملوكية" مساجد وقصورا وقبابا وآثارا ثرية، أبرزها مسجد "الحاكم بأمر الله"، وقصر "الأمير بشتاك"، و"باب زويلة" و"مدرسة خاير بك"، وغيرها، بجانب مباني تراثية متميزة عمرانيا ومعماريا ترجع للقرن الـ19 وبداية الـ20، وبينها مقبرة أمير الشعراء.

عدد المباني التراثية يبلغ 6500 بمدن القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية وبورسعيد والمنيا وأسيوط وغيرها، وفي غرب ووسط القاهرة وحدها 1163 مبنى تراثيا، بحسب "جهاز التنسيق الحضاري" (حكومي).

وتباشر السلطات المصرية منذ منتصف 2020، عمليات هدم ما يعرف بـ"جبانة المماليك" الأثرية لشق محور "الفردوس"، بمنطقة ممتدة من "قلعة الجبل" إلى حي "العباسية" والتي تضم مساجد وآثارا إسلامية مملوكية عمرها خمسة قرون.

وفي يوليو/تموز 2020، رد رئيس المجلس الأعلى للآثار مصطفى وزيري، على غضب المصريين من هدم تلك المنطقة، قائلا للإعلام: "الجبانة ملكية خاصة وليست مسجلة، وتبعد مسافة كبيرة عن القاهرة القديمة، والمقابر تبدو كأنها أثرية لكن عمرها لا يزيد عن 100 عام".

ليس تطويرا

وفي هذا الإطار، يبين الأثري المصري حسين دقيل، أنه "في بعض الأوقات تخرج أصوات تزعم أن هذه ليست آثارا، ومن هنا يجوز هدمها لأجل الصالح العام؛ ولكني هنا أوضح أنه هناك آثار وهناك تراث".

ويضيف لـ"الاستقلال"، أنه "في القوانين المصرية معروف أن الأثر ما مر عليه 100 عام وأكثر، ووفق خصائص معينة يجري تسجيله بين مناطق ومعالم الآثار؛ ولكن هناك أيضا المناطق التراثية التي يحكمها أكثر من قانون ويحدد ماهية تسجيلها".

"القانون 114 لسنة 2006، و119 لسنة 2008، يختصان بهذا الأمر، إذ يحدد الأول المواقع التراثية بثلاثة شروط؛ أن يكون المبنى أو المعلم عبارة عن مكان معماري متميز وفريد، أو يعود لحقبة تاريخية معينة، أو كان مسكنا لشخصية تاريخية"، يوضح دقيل.

وتابع: "واضعو القانون لم يتوقعوا أن نصل لمرحلة هدم المقابر الأثرية والتراثية، فذكروا المساكن دون المقابر، ولكن إذا توفرت الشروط في مقبرة شخصية تاريخية فنحن أمام معلم تراثي، وهو ما ينطبق على مقبرة أحمد شوقي".

ولفت إلى أن "هناك جهازا قوميا للتنسيق الحضاري منذ 2001، مهمته تحديد المناطق التراثية، بعيدا عن المجلس الأعلى للآثار؛ وبمصر 6500 موقع تراثي لا تشمل كثيرا من المواقع المهمة، وهنا يقدمون على هدم مقبرة شوقي، بدعوى أنها خارج تصنيف الآثار والتراث".

ولذلك طالب دقيل، بأن "يأخذ الجهاز الأهمية والميزانية والصلاحية لضم المناطق والمباني التراثية"، داعيا "المثقفين والفنانين والشعراء والأثريين للدفاع عن هذا التراث"، مؤكدا "لسنا ضد التطوير والتنسيق، ولكن أن يضر بممتلكاتنا التاريخية والتراثية والأثرية فلن يكون تطويرا".

أياد آثمة

وقدم الأثري المصري حصرا لأهم المناطق الأثرية التي طالتها يد النظام بالتغيير والهدم الكلي والجزئي بالقاهرة فقط، مشيرا إلى هدم "جبانة المماليك" شرق طريق "صلاح سالم" بالقاهرة منتصف 2020، والتي ترجع إلى المماليك "الشراكسة" نهاية القرن الـ8 هجري.

وبها جرى هدم جزء من قبر مدير مطبعة دار الكتب المصرية وناشر تراث أمير الشعراء شوقي، محمد مصطفى نديم (توفي 1930)، وأسوار مقبرة رئيس وزراء مصر وقت الحرب العالمية الثانية، حسن باشا صبري (توفي 1940).

كما هدمت السلطات واجهة قبر أحد رواد التنوير وأستاذ الجيل، أحمد لطفي السيد (توفي 1963)، وسور مدفن رجل الصناعة الأول بداية القرن الـ20، أحمد عبود باشا (توفي 1963)، وقبر أمير الصحافة محمد التابعي.

كما هدم كذلك، مدفن ناظر الخاصة الملكية للملك فاروق، مراد باشا محسن، وسور مدفن حفيدة محمد علي باشا، نازلي حليم، وأسوار مقابر عميد دار العلوم زكي المهندس، والد الفنان فؤاد المهندس.

وأشار دقيل، أيضا لهدم "وكالة العنبريين" في مارس/آذار 2019، أعظم شوارع القاهرة وأبهجها وفق كتاب "الخطط التوفيقية"، وتقع بقلب "شارع المعز" الشهير، وبها 106 محلات من حقب الدولة الفاطمية والأيوبية والمملوكية والعثمانية، ويرجع تاريخ إنشائها إلى 900 عام.

وفي يناير/كانون الثاني 2018، جرى هدم جزئي بفندق "الكونتننتال" أحد المباني الخديوية بوسط القاهرة، والذي شهد توافد ملوك وملكات أوروبا خلال افتتاح "قناة السويس" عام 1866، وشهد العديد من الحوادث والمناسبات التاريخية والوطنية.

بنفس العام، هدمت فيلا "كوكب الشرق " أم كلثوم بالقاهرة، التي بنيت عام 1938، وأقيم بدلا منها عمارة سكنية.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2018، طالت معاول هدم النظام بيت "مدكور باشا"، بالدرب الأحمر بالقاهرة (يصل عمره لـ600 عام) رغم أنه مسجل بقوائم الطراز المعماري المتميز منذ 2010.

بالعام 2015، هدم المنزل رقم (68) بوسط القاهرة أيضا، رغم أنه يضم العديد من العمائر الجنائزية الإسلامية؛ مثل أضرحة المشايخ "الخريبي والخواص والمغربي".

وفي ديسمبر/كانون الأول 2014، جرى هدم "بیت المهندس" التاريخي بشارع "سوق السلاح" الذي يضم عشرات المباني الأثرية بمنطقة الدرب الأحمر بالقاهرة، وعمره أكثر من 150 عاما، وبنيت بعض أجزائه بالعصر المملوكي.

بالمقابل، انتقدت "مبادرة البصارة" للحفاظ على التراث والعمارة (أهلية)، هدم النظام للمنازل ونقل المقابر من منطقة "السيدة عائشة" ومحيط "قلعة صلاح الدين" التاريخية؛ لتنفيذ محاور مرورية، مؤكدة أن تقطيع النسيج العمراني للمدينة وهدم أجزاء منها "محو للقاهرة التاريخية".

وفي 5 فبراير/ شباط 2021، قالت "المبادرة" لقناة "الحرة" الأميركية إن "القاهرة التاريخية مدينة حية، ليس فقط لآثارها ولكن لوجود جبانات مستخدمة وحرف تقليدية، ولذا يجب الحفاظ عليها وترميمها لأنها ليست ملكا لمصر فقط ولكن ملك للعالم".

وهنا يرى الأثري دقيل، أن "هدم التراث هو هدم للذاكرة المصرية، وحرمان للأجيال القادمة من التعرف على تاريخهم وتراثهم، وقطع التواصل بين الماضي والحاضر، وإضرار بالنسيج العمراني المميز للمنطقة".

واعتبر في حديثه مع "الاستقلال" أن "قيام الحكومة على عملية الهدم بنفسها يساعد في نشر ثقافة الهدم للمواقع التراثية بين المواطنين، ويفقد المصريين التذوق الفني والجمالي، ويحرم مصر من موارد مالية بتحويل تلك المباني لمزارات سياحية".