"زواج الفاتحة" بالمغرب.. لماذا يجرمه القانون ويصر عليه المجتمع؟

12

طباعة

مشاركة

في قرى المغرب النائية كان الزواج يتم عبر اتفاق أهل الطرفين فور وصول الفتاة لسن البلوغ، يُعلن الزواج ويتم الاحتفال به وسط القبيلة كلها وتغادر العروس منزل أبيها إلى بيت زوجها، كل هذا مع ترك مسألة التوثيق إلى "اللقاء في السوق".

السوق هو التجمع الأسبوعي لأهل القرية والقرى المجاورة، ويكون في المركز الحضري الأقرب، وهي فرصة للتسوق وكذا قضاء المعاملات الإدارية المؤجلة. طبيعة العلاقات بين أهل العالم القروي التي تغلب عليها البساطة وحسن الظن في الآخر، كانت تجعل توثيق الزواج عند "العدول" - المأذون - (مسؤول تابع لوزارة العدل) حاجة غير ملحّة قد تقضى وقد تترك.

وتكون "الكلمة" (أي الوعد) هو الميثاق الذي يربط الزوجين إلى نهاية حياة أحدهما، وفي بعض الحالات ورقة كتبت لكنها لم توثق. هكذا بدأ "زواج الفاتحة" بالمغرب الذي تتوفر فيه كل شروط الزواج الشرعي من إشهار وقبول إلا أن قراءة سورة الفاتحة تحل محل كتابة العقد.

انتشر هذا الزواج أيضا في أوساط الجنود، والسبب "تفادي انتظار موافقة رؤسائهم العسكريين على زواجهم"، إذ يجبر الجنود المغاربة، قانونيا، على تقديم موافقة موقعة من طرف رؤسائهم قبل عقد قرانهم وقد تطول مدة الانتظار.

أزمة التوثيق

في عام 2004 قررت الدولة القطع مع هذه الممارسة، وكان دافعها الأول هو الإحصاء، الذي كان يستحيل مع وجود أطفال غير مسجلين - بدون قيد عائلي - وأيضا تسجيلهم في المدارس التي وصلت حديثا لهذه القرى ضمن برنامج "المدرسة للجميع" الذي أطلقته الدولة. 

ثم ظهرت مشاكل أخرى لهذا الزواج بدخول الهيئات الحقوقية على الخط، والتي رصدت هدر حقوق الزوجة في حالة الانفصال والإرث. 

بدأ القضاة بالتنقل إلى هذه المناطق وتكفلوا بالإجراءات الإدارية في عين المكان حتى يوثقوا أكبر عدد ممكن من الزيجات، وبعدها تبدأ رحلة تسجيل الأبناء. 

أعطت الدولة مهلة 5 سنوات لتوثيق كل زيجات الفاتحة وتسجيل كل الأبناء، ثم مددتها 5 سنوات أخرى، وفي 2014 قررت حكومة عبدالإله بنكيران تمديد المدة إلى 5 سنوات للمرة الثانية، وهو ما رأى فيه الحقوقيون مجالا لاستغلال القانون في تزويج القاصرات الذي يمنعه المشرع وحالات التعدد.

ويلجأ الطرفان إلى القضاء الذي يكون أمام وجود أطفال وثبوت نسبهم إلى الأب، مضطرا للاعتراف بالزواج وتوثيقه، في الوقت الذي يمنع القانون الزواج من ثانية دون موافقة الأولى.

رغم حظر القانون "زواج الفاتحة" لكن المجتمع ما زال متسامحا معه، وهو ما يظهر مع اللجوء إليه في كل حالة تعرض على القضاء بتهمة "علاقة خارج إطار الزواج" وتخرج للرأي العام.

باب للتحايل

رصدت أصوات معارضة لتمديد المدة أن تطبيق المادة 16 من "مدونة الأسرة" - القانون المنظم - أفرز واقعا معاكسا بعد أن تحولت إلى أداة لشرعنة "الزواج العرفي" والتحايل على القانون من خلال تشجيع تعدد الزوجات وتزويج القاصرات، ومحاولة فرض سياسة الأمر الواقع على القضاء. 

وهو ما أثبتته الأرقام بعد أن ارتفعت نسب ثبوت الزوجية من 6 آلاف و918 حكما سجل سنة 2004 إلى 23 ألفا و57 حكما سنة 2013. وتعلقت نسبة كبيرة من هذه الأرقام بحالات زواج حديثة أبرمت بالمدن وأحيانا من طرف أشخاص لهم مستوى علمي متقدم. 

ووجد الباحث الإسلامي ورئيس "مركز الميزان" للوساطة والدراسات والإعلام، محمد عبد الوهاب رفيقي، أن "الحكومة كانت محقة في خوض حرب ضد هذا النوع من الزواج"، وطالبها ببذل جهد أكبر في هذا الباب "بسبب كل ما يترتب عن هذا الزواج من تضييع حقوق كثير من النساء والأبناء، إذ لا توجد وثيقة تثبته ولا تلزم صاحبه بأي مسؤوليات واجبة عليه".

ودعا رفيقي في حديث لـ "الاستقلال" إلى القطيعة مع هذا النوع من الزواج نهائيا، قبل أن يضيف: "أتمنى ألا تمدد المهلة مرة أخرى وأن نكون قد قطعنا فعلا مع هذا النوع من الزواج".

عرف راسخ

117 قاصرا تتزوج كل يوم في المغرب، وتمكنت الدولة من إحصاء العدد بعد أن خولت للقضاء الإذن بالزواج لمن لم يبلغ السن القانوني بعد على سبيل الاستثناء.

وأكد وزير العدل محمد بن عبدالقادر أن طلبات زواج القاصرات في 2018 بلغت 32 ألف طلب، ما جعله يقول: إن "زواج القاصرات في المغرب لم يعد استثناء". 

وأرجع التقرير السنوي للنيابة العامة المغربية لنفس السنة، استمرار ارتفاع نسب زواج القاصرات إلى "زواج الفاتحة"، فيما رصد تقرير لشبكة "أناروز" (الشبكة الوطنية لمراكز الاستماع للنساء ضحايا العنف) في 2019 أن 25 بالمئة من حالات الزواج دون توثيق يتعلق بقاصرات دون سن الـ15.

الكثير من العائلات زوجت بناتهن بهذه الطريقة التي اعتبرت تحايلا على قانون مدونة الأسرة المنظم لأمور الأحوال الشخصية في المغرب. ويتم تزويج الفتاة دون عقد شرعي ثم يقدم طلب لوزارة العدل لإثبات الزواج أمام المحكمة.

ويمنح الفصل 20 من قانون الأسرة الحق للقاضي بالإذن بزواج القاصرات في استثناءات يحددها القانون في "مراعاة الأعراف والتقاليد التي تحتم على بعض المناطق زواج الفتاة في سن صغيرة أو وجود علاقة حب بين فتاة لم تصل السن المؤهلة للزواج بعد، وشاب يقاربها في السن". 

لكن ما رصدته بعض التقارير هو زيادة نسبة زواج القاصرات بعد سنة 2004، أي عندما بدأ العمل بـ"مدونة الأسرة"، الأمر نفسه بالنسبة لـ"زواج الفاتحة". 

ولا يعتقد رئيس مركز الدراسات "الميزان"، عبدالوهاب رفيقي أن المغرب قطع نهائيا مع "زواج الفاتحة"، وأردف قائلا لـ"الاستقلال": "صحيح انتهت المدة التي وضعتها الحكومة لتوثيق العقود منذ 2004 لمدة 10 سنوات والتمديد لخمس سنوات أخرى، لكن لا يُعلم إن كانت ستمدد مرة أخرى،هناك بعض الإشاعات عن ذلك".

لكن رفيقي يعتقد أنه وحتى إذا انتهى التمديد "فلن يكون هناك قطع مجتمعي وثقافي مع ما يسمى بزواج الفاتحة، قد يقطع معه قانونيا لكن على المستوى الشعبي والوعي لدى المجتمع لا زال هذا الأمر حاضرا بشكل كبير جدا".

حكم الشرع

يتجدد النقاش حول "زواج الفاتحة" مع كل قضية تصل إلى المحكمة وتخرج للرأي العام، ويقول رفيقي: إن اللجوء إليه في كل قضية، "هي محاولة لتبرئة النفس أو التبرير أمام المجتمع والرأي العام، ما دام أنه لازال  يطبع مع هذا النوع من الزواج ويعتبره شرعيا، وهو ما يفتي به بعض الفقهاء على أنه زواج مكتمل الأركان والشروط وبالتالي فهو صحيح". 

وتابع العضو السابق في رابطة علماء المغرب العربي لـ"الاستقلال": "بالنسبة لي هذا الأمر مرتبط بفكرة أساسية ومهمة جدا، وهي المقابلة أو التضاد الذي يضعه البعض بين القانون والشريعة والفقه في هذا الباب، ولهذا يقولون إن هذا الزواج صحيح شرعا فلا حرج فيه بغض النظر عن توثيقه، وإشاعة مثل هذه المقولات داخل المجتمع هو ما يجعل القبول بع ذائعا". 

ثم إن هذا الزواج، بحسب المتحدث: "اتخذ للاحتيال على القانون في كثير من الحالات، مثل تعدد الزوجات وتزويج القاصرات، ثم توثيقه فيما بعد في حيلة أقدم عليها الكثيرون. المجتمع بحاجة إلى توعية بمخاطر هذا الزواج وما يترتب عليه من آثار سيئة". 

وحسم رفيقي في النقاش قائلا: "لا يجب أن نفرق بين ما هو شرعي وما هو قانوني، فهذا الأخير ما هو إلا تطوير للفقه الذي لم يكن إلا قانونا في وقته. وبالتالي الشروط والأركان الموجودة في الفقه الإسلامي كانت مستجيبة لعصرها ووقتها وسياقاتها، وكانت هي الشروط العرفية التي يتم بها الزواج في ذلك الوقت، والعرف تحول اليوم إلى وجوب إثبات العقد وتوثيقه حتى لا تضيع حقوق النساء والأطفال فهذا القانون أصبح شرطا وركنا شرعيا".

وعدم وجود هذا الشرط الذي أضافه القانون المستجيب لحاجات العصر هو "بمثابة عدم الاستجابة للشروط التي أتى بها الفقهاء مثل الإيجاب والقبول، وأننا يجب أن نخرج من هذه المقابلة بين القانون والفقه باعتبار القانون فقه وشرع في حد ذاته"، حسبما أكد الباحث الإسلامي.