التحالف العربي وهندسة التفكيك والتقاسم.. هل يعيش اليمن الموحّد أيامه الأخيرة؟

دخلت حضرموت مرحلة جديدة من التصعيد السياسي والعسكري مع سيطرة قوات المجلس الانتقالي الجنوبي
التحالف العربي وهندسة التفكيك والتقاسم.. هل يعيش اليمن الموحّد أيامه الأخيرة؟
المحتويات
المقدمة
التحالف يحظر بناء جيش وطني ويدمر نواته الأولى
سياسة ضرب الجيش وإسقاط المدن الجنوبية
أولا: إسقاط عدن
ثانيا: إسقاط شبوة
ثالثاً: إسقاط سقطرى
التحالف السعودي- الإماراتي من الشراكة إلى التنافس
هل تطلق حضرموت شرارة انفصال الجنوب؟
الانتقالي الجنوبي: حضرموت شرط الدولة والانفصال خيار نهائي
تمرد وزراء ونواب الانتقالي في الحكومة الشرعية
الموقف الإماراتي.. نضوج مشروع الانفصال
الموقف السعودي.. لا للانفصال إلاّ بشروطنا
سيناريوهات المشهد اليمني
الخاتمة
المقدمة
مع سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي على محافظتي حضرموت والمهرة مطلع ديسمبر 2025، اكتمل نفوذه على كامل الجنوب اليمني، ما أنهى فعليا وجود الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا في تلك المناطق، وحوّل المجلس إلى سلطة أمر واقع، على غرار سيطرة الحوثيين في شمال اليمن.
وتبرز حضرموت، بما تمتلكه من ثقل نفطي وإستراتيجي، كمحور أساسي في إعادة تشكيل موازين القوى؛ حيث يعزز المجلس الانتقالي وحلفاؤه الإماراتيون حضورهم العسكري والسياسي، في مقابل دور سعودي يسعى لإدارة المشهد عبر مجلس القيادة الرئاسي والتفاوض مع الانتقالي وتسليط الضغوط الدولية عليه.
ويعكس هذا التطور مشهدا سياسيا معقدا يتجاوز الإطار المحلي، ليغدو جزءا من ترتيبات إقليمية ودولية لإعادة صياغة الجغرافيا السياسية لليمن. وانطلاقاً من ذلك، تسعى هذه الورقة، باستخدام المنهج التاريخي، إلى تحليل تطورات المشهد الحضرمي في سياق الأزمة اليمنية ككل منذ تدخل التحالف العربي، لفهم أهدافه واستشراف مستقبل اليمن السياسي.
من صنعاء إلى حضرموت.. السقوط المتكرر للدولة
دخلت حضرموت مرحلة جديدة من التصعيد السياسي والعسكري مع سيطرة قوات المجلس الانتقالي الجنوبي على وادي وصحراء حضرموت، وإنشاء تشكيلات أمنية موازية للأجهزة الرسمية تحت مسمى "الشرطة المجتمعية"[1]. وبرّر الانتقالي هذه التحركات بصفتها عودة للجيش الجنوبي إلى معسكراته السابقة قبل عام 1990، في حين رأت فيها القبائل والمكونات الحضرمية غزوا مناطقيا يهدد النسيج الاجتماعي.
ولا يمكن فصل ما جرى في حضرموت والمهرة عن جوهر الأزمة اليمنية المتمثل في إسقاط الدولة وتفكيك مؤسساتها والانقلاب على النظام السياسي المعترف به دوليا. ويعيد هذا المشهد إلى الأذهان سقوط العاصمة صنعاء بيد جماعة الحوثي في 21 سبتمبر 2014، بعد سقوط عمران شمالي العاصمة بفترة وجيزة، في سياق تداخلت فيه عوامل التمويل الخليجي والرعاية الدولية[2]، إلى جانب التواطؤ الداخلي، بما في ذلك دور الرئيس السابق عبد ربه منصور هادي.
وكما جرى الغدر باللواء 310 في عمران بقيادة العميد حميد القشيبي، عبر إعلان حياد الجيش بقرار من وزير الدفاع آنذاك محمد ناصر أحمد، تكرّر السيناريو ذاته في حضرموت مع المنطقة العسكرية الأولى في سيئون، التي تُركت دون توجيهات أو إسناد، وقُطعت الاتصالات بها، في وقت كان فيه وزير الدفاع محسن الداعري خارج البلاد[3]، ما أتاح لقوات الانتقالي السيطرة على معسكرات الشرعية وإسقاط المدن.
وفي ذروة هذا الانهيار، اكتفى رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي بمتابعة التطورات من عدن، وأصدر توجيهات بمنع تحرك أي قوات أو تعزيزات نحو حضرموت، دون صدور أوامر واضحة بخوض معركة دفاعية[4]، في مشهد أعاد إلى الذاكرة خيانة القيادة السابقة لـ "اللواء 310 في عمران". في يوليو 2014.
التحالف يحظر بناء جيش وطني ويدمر نَوَاته الأولى
دخل التحالف السعودي–الإماراتي اليمن في مارس 2015 تحت مظلة دعم الشرعية، غير أن سلوكه الميداني كشف عن مشروع إستراتيجي أوسع يقوم على مسارين:
1.احتواء اليمن عبر تفكيك بنيته السياسية والعسكرية.
2.منع تشكّل دولة مركزية فاعلة.
وجرى توظيف الانقلاب الحوثي، لا بوصفه هدفا للمواجهة، بل كمدخل لإعادة هندسة المشهد اليمني والتحكم به عبر فاعلين محليين تابعين أو متقاطعين مع أجندات التحالف.
في هذا السياق، مثّل منع إعادة بناء جيش وطني مستقل أحد المرتكزات الأساسية لهذا المشروع، لما يشكله الجيش من تهديد مباشر لأي ترتيبات نفوذ طويلة الأمد. وقد تجسّد ذلك عمليا في استهداف النواة الأولى للجيش الوطني التي كانت قيد التشكل في منطقة العبر بمحافظة حضرموت.
في 8 يوليو 2015، شنّ طيران التحالف غارات جوية على مركز القيادة المتقدم لوزارة الدفاع وهيئة الأركان، وعلى اللواءين 21 و23 مشاة ميكا المؤيدين للشرعية، ما أدى إلى مقتل العشرات من الجنود، بينهم العميد أحمد يحيى الأبارة، صاحب المبادرة التأسيسية للجيش الوطني. وقد وقع الاستهداف رغم عدم وجود أي مواجهات داخل المعسكر أو أي مؤشرات على وجود عناصر حوثية في المنطقة، وهو ما نفته رسميا رئاسة هيئة الأركان آنذاك[5].
وتكتسب الحادثة دلالتها السياسية من كون العميد الأبارة كان قد عرض، قبل مقتله بأيام، رؤية متكاملة لتطوير الجيش اليمني على ضباط سعوديين وإماراتيين في اجتماع مغلق، ليُستهدف بعدها مباشرة[6]، في مؤشر واضح على رفض التحالف لأي مشروع عسكري وطني مستقل.
إن استهداف معسكر العبر على أطراف حضرموت لا يمكن فهمه كحادثة عسكرية معزولة، بل كخطوة تأسيسية في مسار ممنهج هدفه تعطيل قيام جيش وطني، وإبقاء اليمن في حالة هشاشة أمنية وسياسية تضمن استمرار السيطرة الخارجية وإدارة الصراع بدلاً من حسمه.
سياسة ضرب الجيش وإسقاط المدن الجنوبية
في يوليو/ تموز 2015 تمكن التحالف العربي، وبمساندة قوى محلية شملت فصائل من المقاومة ووحدات من الجيش النظامي، من استعادة مدينة عدن من سيطرة جماعة الحوثي. غير أنّ هذا التقدم ترافق مع إبقاء متعمد للشمال تحت سيطرة الحوثيين، ضمن مقاربة إستراتيجية ارتبطت بإعادة هندسة المجال السياسي والجغرافي للدولة اليمنية، وليس باستعادة الدولة بوصفها كياناً موحدا. اعتمد التحالف مقاربة مزدوجة:
1-إضعاف الشرعية عبر إنتاج كيانات سياسية–عسكرية بديلة، مثل المجلس الانتقالي الجنوبي (2017) بقيادة عيدروس الزُبيدي، والمكتب السياسي للمقاومة الوطنية (2021) بقيادة طارق صالح، بما أفرغ مؤسسات الدولة من مضمونها السيادي.
2-إعادة توزيع السيطرة الميدانية بنزع المدن والمناطق من قبضة الجيش الوطني وتسليمها لهذه الكيانات، ما أدى إلى ترسيخ تعددية سلطوية قائمة على الأمر الواقع.
أولا: إسقاط عدن
شكّلت عدن نقطة التحول الأولى في مسار انتزاع الجنوب من يد الشرعية؛ ففي أغسطس 2019، تدخل الطيران الإماراتي بشكل مباشر عبر شن غارات جوية على قوات الجيش الوطني أثناء محاولتها استعادة المدينة من انقلاب المجلس الانتقالي[7]، ما أدى إلى سقوط مئات القتلى والجرحى في صفوف القوات الحكومية[8].
وبررت أبوظبي تدخلها باستهداف “مليشيات إرهابية”[9]، في توصيف غير مسبوق للجيش الوطني. وكان المجلس الانتقالي قد نفذ انقلابه الأوَّل على السُّلطة الشَّرعية في يناير 2018م، بدعم إماراتي وتغاضٍ سعودي[10]، وقام بطرد الرَّئيس هادي مِن العاصمة المؤقَّتة عدن. وفي 25 أبريل 2020، نفد انقلابه الثاني على الشرعية بإعلانه الإدارة الذاتية للمناطق التي يسيطر عليها جنوبي البلاد[11].
ثانياً: إسقاط شبوة
بعد إخراج عدن من يد الشرعية، انتقل الصراع إلى محافظة شبوة ذات الأهمية النفطية والإستراتيجية. وبرز محافظها آنذاك، محمد صالح بن عديو، كمناهض صريح للوجود الإماراتي في منشأة بلحاف، متهما أبوظبي بتحويلها إلى قاعدة عسكرية ومركز لدعم التمرد[12]. ومع تصاعد الخلاف، تدخلت السعودية بصفة "وسيط"، مقدمة وعودا بخروج القوات الإماراتية[13]، غير أن هذه الوعود لم تُنفذ.
وبدلا من ذلك، جرى الضغط على الشرعية لإقالة بن عديو أواخر 2021، في إطار مقايضة سياسية–اقتصادية[14]. لاحقا، وعندما فشلت قوات الانتقالي في حسم المعركة ميدانيا، تدخل الطيران الإماراتي في أغسطس 2022 عبر غارات جوية ضد الجيش الوطني بذريعة تمرده[15]، ما مهد لانتقال شبوة إلى سلطة المجلس الانتقالي بتفاهم كامل مع التحالف.
ثالثاً: إسقاط سقطرى
مثلت جزيرة سقطرى الحلقة الأخيرة في هذا المسار. ففي أبريل 2018، نشرت الإمارات قوات عسكرية في الأرخبيل دون تنسيق مع الحكومة الشرعية[16]، ما أثار أزمة سياسية حادة. ورغم تدخل السعودية مجددا تحت شعار الوساطة[17]، إلا أن دورها اقتصر على إدارة الأزمة وليس حلها. وبعد عامين من المماطلة، سُمح لقوات المجلس الانتقالي بالسيطرة على الجزيرة في يونيو 2020، وطرد السلطات الشرعية منها، وسط صمت القوات السعودية المنتشرة هناك، وهو ما دفع الحكومة لاحقا لوصف موقف التحالف بالتواطؤ الصريح[18]. وقال محافظ جزيرة سقطرى رمزي محروس: "تلقينا ضمانات من القوات السعودية بوقف التصعيد، لكنها تراجعت عن ضماناتها وتركت مليشيات الانتقالي تسيطر على سقطرى"[19].
وبصفة عامة، يُظهر هذا المسار أن إسقاط المدن الجنوبية جاء ضمن إستراتيجية ممنهجة لإعادة تشكيل السلطة خارج إطار الدولة اليمنية، عبر إضعاف الشرعية، تفكيك الجيش الوطني، وتمكين كيانات محلية مرتبطة بالتحالف. وقد أسهم ذلك في ترسيخ واقع سياسي وأمني قائم على تعدد السلطات وتقويض مفهوم السيادة، بما جعل الجنوب ساحة لإدارة النفوذ أكثر من كونه جزءاً من مشروع استعادة الدولة اليمنية.
التحالف السعودي- الإماراتي من الشراكة إلى التنافس
تكشف الوقائع التي جرى استعراضها آنفا، أن المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة كانتا، منذ بدء التدخل العسكري في اليمن، شريكين رئيسين في إدارة المشهد السياسي والأمني، عبر دعم قوى مسلّحة خارج إطار الدولة، ورعاية كيانات سياسية بديلة للشرعية، والمشاركة في إعادة رسم موازين السيطرة على الأرض من صنعاء وعمران شمالا إلى حضرموت والمهرة شرقا.
ويعزّز ذلك تأكيد المتحدث باسم المجلس الانتقالي الجنوبي، أنور التميمي، عِلم الرياض وأبوظبي المسبق بالتحركات العسكرية الأخيرة لقوات المجلس في حضرموت والمهرة[20]. وقد أسهم هذا الدور المشترك في تعميق حالة الانقسام والتشظي داخل البنية اليمنية، بما تجاوز ثنائية الشمال والجنوب إلى تفكيك داخلي شامل أضعف مركز الدولة وسيادتها، وترافق مع إعادة توزيع النفوذ والمصالح بين طرفي التحالف، وإقصاء أطراف إقليمية أخرى من التحالف، كقطر، ما أتاح لهما الانفراد بإدارة المشهد وتقاسم مكاسبه.
وخلال الفترة (2015–2025)، جرى تبادل الأدوار بين الحليفين وفق تفاهمات سياسية وأمنية، استُخدمت فيها أدوات القوة الناعمة والخشنة، مع تهميش متزايد للحكومة الشرعية وتحويلها إلى غطاء شكلي، بما جعل التوافق بين الطرفين قائما على إدارة الغنيمة أكثر من بناء الدولة. غير أن هذه الشراكة لم تعكس انسجاما إستراتيجيا عميقا؛ إذ تنظر الإمارات إلى نفسها فاعلاً إقليمياً مستقلاً وندّاً للسعودية، وتسعى إلى ترسيخ مشروع توسعي في اليمن والمنطقة ضمن ارتباط وثيق بالمشروع الغربي المهيمن، بما في ذلك إسرائيل، مستفيدة من مظلة التحالف لبناء نفوذ خاص بها. ومنذ وقت مبكر، ركزت أبوظبي على السيطرة المباشرة أو غير المباشرة على السواحل والموانئ والجزر الممتدة من حضرموت شرقا إلى باب المندب غربا. ويُعدّ ذلك عاملًا رئيسًا في إستراتيجيتها الهادفة لزيادة تأثيرها الجيوسياسي في القرن الإفريقي والمحيط الهندي، ومحطة للانطلاق نحو صنع النفوذ في الخليج وإفريقيا وآسيا[21]
وفي حضرموت تحديدا، برز التنافس السعودي–الإماراتي بوضوح، حيث اعتمدت الرياض على أدوات قبلية واجتماعية (مجلس حضرموت الوطني- حلف قبائل حضرموت)، مقابل مقاربة إماراتية عسكرية عبر دعم المجلس الانتقالي وتشكيلاته المسلحة، ومنها النخبة الحضرمية. ما رجّح كفة القوة العسكرية وفرض واقعا سياسيا وأمنيا جديدا.
ويكتسب هذا التحول بعدا إستراتيجياً أعمق مع نجاح الإمارات في التمدد داخل مناطق كانت تُعد عمقا إستراتيجيا للسعودية، فتحوّل جنوب اليمن إلى مجال نفوذ إماراتي متقدم، مقابل بقاء شماله بؤرة تهديد للأمن السعودي، في تطور يعكس تآكلاً متزايداً في النفوذ السعودي[22] لصالح مشروع إماراتي أكثر تماسكاً، يسعى إلى بناء شريط نفوذ ساحلي متصل يتيح التحكم بالموانئ والجزر الإستراتيجية وتأمين طرق التجارة البحرية الدولية[23].
هل تطلق حضرموت شرارة انفصال الجنوب؟
يمثل الصراع الدائر اليوم في حضرموت مواجهة بين حلفاء سابقين، تُدار عبر قوى محلية وواجهات داخلية، لكنه في جوهره يعكس خلافاً أعمق حول مستقبل الجنوب اليمني، وليس حول حضرموت وحدها. فالصراع يتصل بإعادة ترتيب النفوذ في اليمن، وتقاسم المصالح بين أطراف التحالف الإقليمي، في ظل حضور مؤثر للقوى الدولية الراعية للمشهد.
لقد وجد حلفاء الأمس أنفسهم أمام أزمة سياسية وأمنية مؤجلة، إلا أن تسارع الأحداث وحدّة التوترات جعلت من الصعب الاستمرار في إدارتها بالطرق السابقة. ومن هنا، يمكن القول: إن مستقبل اليمن بات مرتبطا بشكل وثيق بمآلات العلاقة بين طرفي التحالف، سواء انتهت إلى توافق يُعيد ضبط الخلافات، أو إلى تصعيد يفتح الباب أمام تحولات جذرية في شكل الدولة. ويبقى السؤال المهم هل تشعل حضرموت شرارة الانفصال أم تفجّر بارود الحرب الأهلية في اليمن؟
في الأسطر التالية نركز على مواقف الأطراف الأكثر تأثيرا في مسألة انفصال الجنوب، وهي المجلس الانتقالي، والإمارات، والسعودية، والمقاومة الوطنية (طارق صالح) مع تجاوز الحكومة الشرعية، نظرا لتراجع دورها وغياب قرارها، وارتباط مواقفها السياسية بالموقف السعودي.
الانتقالي الجنوبي: حضرموت شرط الدولة والانفصال خيار نهائي
تُعدّ حضرموت الركيزة الاقتصادية والجيوسياسية الأهم في المشروع السياسي للمجلس الانتقالي الجنوبي؛ إذ تمثل خزان الثروة ومحور التوازن لأي كيان جنوبي محتمل، على نحو يجعل قيام دولة جنوبية من دونها مشروعًا فاقدًا لمقومات الاستدامة. ومن هذا المنطلق، يصرّ المجلس الانتقالي على التمسك بحضرموت وتعزيز وجوده العسكري والأمني فيها مهما بلغت الكلفة، رافضًا الدعوات المحلية والإقليمية المطالِبة بسحب قواته من محافظتي حضرموت والمهرة وتسليم الملف الأمني لقوات "درع الوطن" التابعة للحكومة الشرعية.
وفي سياق تكريس واقع الانفصال، اتخذ المجلس سلسلة خطوات داخلية متسارعة، شملت تعزيز الانتشار العسكري والأمني في حضرموت والمهرة، إلى جانب إعلان عملية عسكرية في محافظة أبين بذريعة ملاحقة عناصر إرهابية[24]، وهي خطوة رأى فيها مراقبون محاولة لصرف الأنظار عن الضغوط الشعبية والرسمية المطالبة بانسحابه من حضرموت. كما أصدر رئيس المجلس قرارا بتشكيل اللجنة التحضيرية لهيئة الإفتاء الجنوبية[25]، في خطوة فسّرها كثيرون على أنها تمهيد لإضفاء شرعية مؤسسية ورمزية على مشروع الانفصال المرتقب.
سياسيًا، جدّد قادة المجلس الانتقالي خطابهم الانفصالي؛ حيث أعلن رئيس الجمعية الوطنية التابعة له، علي عبدالله الكثيري، أن أبناء المحافظات الشمالية في حضرموت يُعدّون “مقيمين”[26]، في تعبير يعكس توجّهًا إقصائيًا من شأنه تعميق الانقسامات الاجتماعية. وفي السياق ذاته، تشير معطيات إلى تخطيط المجلس لنزع سلاح القبائل في حضرموت[27]، في خطوة تهدف إلى تحييد القوى القبلية والسياسية الرافضة لمشروعه، وإعادة تشكيل موازين القوة المحلية لصالحه.
خارجيًا، يسعى المجلس الانتقالي إلى تسويق مشروعه سياسيًا عبر تحركات دبلوماسية وإعلامية مثيرة للجدل، شملت إبداء الاستعداد للتطبيع مع إسرائيل وإرسال مبعوثين للقاء مسؤولين إسرائيليين، بذريعة وجود عدو مشترك يتمثل في جماعة الحوثي[28]. كما تراهن قيادة المجلس على كسب دعم محتمل من الإدارة الأميركية، مستندة إلى رغبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في توسيع “اتفاقيات إبراهيم”، عبر التعهد بالاعتراف بإسرائيل فور إعلان استقلال جنوب اليمن. وبالتوازي، يؤكد ممثلو المجلس في لقاءاتهم مع أطراف دولية، من بينها أعضاء في مجلس الأمن، أن وحدة عام 1990 أصبحت من الماضي، وأن خيار الانفصال بات مسارًا نهائيًا لا رجعة عنه[29].
تمرد وزراء ونواب الانتقالي في الحكومة الشرعية
في موقف مفاجئ للحكومة الشرعية، وزيادة في إرباك الوضع السياسي في الجنوب أعلن عدد من الوزراء في وزارات الخدمة المدنية، والشؤون الاجتماعية، والزراعة، والنقل ونواب في الحكومة الشرعية (نائب وزير الإعلام والثقافة والسياحة، ونواب وزراء المياه والإعلام) الموالين للمجلس الانتقالي تمردهم رسميا على الحكومة الشرعية والمجلس الرئاسي، واستعدادهم للعمل تحت قيادة المجلس الانتقالي مباشرة، وجهوزيتهم لإعلان ما يسمى بدولة الجنوب العربي[30].
في ذات السياق، قال ناطق المجلس الانتقالي: إن "أربعة من أعضاء مجلس القيادة، وافقوا على الطريقة العسكرية التي ينفذها مجلس الانتقالي في محافظتي حضرموت والمهرة، وهم عيدروس الزبيدي، وأبو زرعة المحرمي، وفرج البحسني، وطارق صالح، بينما عبدالله العليمي (العضو الخامس) لم يعترض علنا على العملية حتى الآن"[31].
في موازاة ذلك، يعمل الانتقالي على إعداد البنية القانونية للدولة الموعودة، عبر مناقشة الاستحقاقات التشريعية لدولة الجنوب[32]، والسعي لتدويل ملف حضرموت حقوقيا، في محاولة لإعادة إنتاج سيناريو الاعتراف الدولي عبر بوابة "المظلومية".
إن ما يجرى حاليا لا يقتصر على تمرد وزراء، بل يمثل انتقال المجلس الانتقالي من مرحلة الشراكة الشكلية إلى مرحلة الانفصال التنفيذي الفعلي، عبر: تفكيك وحدة القرار الحكومي من الداخل، استخدام الوزارات كأدوات سياسية، فرض أمر واقع عسكري، والتحضير القانوني لإعلان كيان انفصالي على المدى البعيد أو المنظور.
الموقف الإماراتي.. نضوج مشروع الانفصال
تشير المعطيات الميدانية والسياسية إلى أن دولة الإمارات لعبت دورا محوريا في تمكين قوات المجلس الانتقالي الجنوبي من التمدد العسكري، بما في ذلك الدفع باتجاه السيطرة على محافظة حضرموت. وقد تمَّ ذلك عبر إشراف مباشر شمل إنشاء غرف عمليات مركزية ومراكز متقدمة في حضرموت وشبوة، إلى جانب مشاركة ضباط إماراتيين في مهام الإسناد الاستخباراتي والتوجيه العملياتي. وعلى الصعيد الدبلوماسي، تحركت أبوظبي لتحييد ردود الفعل الدولية وطمأنة البعثات الدبلوماسية، مع تسويق التصعيد العسكري تحت عناوين مكافحة الإرهاب والتهريب[33].
في الإطار الأوسع، تدفع الإمارات بشكل منهجي نحو تكريس واقع الانقسام بين شمال اليمن وجنوبه، مستخدمة أدواتها السياسية والإعلامية والعسكرية لتحقيق هذا الهدف. ويبدو أن أبوظبي باتت ترى أن الشروط الموضوعية لمشروع التقسيم قد اكتملت، في ظل تغلغلها العميق داخل الجغرافيا اليمنية، وتنامي نفوذها إلى مستوى يفوق، في بعض الجوانب، نفوذ السعودية قائدة التحالف.
فقد أصبح الجنوب اليمني مرتبطا عضويا بالإمارات التي تسيطر بصورة مباشرة أو غير مباشرة على الموانئ والجزر والمطارات وحقول النفط والغاز، إضافة إلى المصافي ومحطات التصدير والبنية التحتية البحرية، وهي سيطرة تحولت منذ عام 2018 إلى مصلحة إماراتية إستراتيجية.
ميدانيا، تعتمد الإمارات على تشكيلات عسكرية محلية ذات طابع وظيفي، تعمل كقوى أمنية شبه خاصة، وتمسك بزمام السيطرة في معظم محافظات الجنوب.
كما نجحت في إنشاء جيب موالٍ لها على الساحل الغربي لليمن، بقيادة طارق صالح الذي اصطف سياسيا وعسكريا مع المجلس الانتقالي في تحركاته الأخيرة. ونتيجة لذلك، يُدفع الجنوب اليمني، بوعي كامل من الإمارات، نحو خيار الانفصال أو شبه الانفصال، بعد إقصاء أو تحييد القوى العسكرية والسياسية القادرة على مقاومة هذا المسار.
وكشفت مصادر عسكرية عن إنفاق الإمارات نحو 500 مليون دولار لتعزيز نفوذها في محافظات حضرموت والمهرة وشبوة اليمنية. وشملت التحركات تكاليف عسكرية، وحوافز مالية، واستقطاب شخصيات قبلية وسياسية وإعلامية، إلى جانب إنشاء جماعات ضغط دولية[34].
وتهدف هذه الاستثمارات إلى بناء تحالفات محلية وقبلية وحزبية لتهيئة الأرضية لفرض واقع جديد في المنطقة الشرقية، بما يعزز النفوذ الإماراتي ويعيد تشكيل المعادلات السياسية والاقتصادية.
وعلى المستوى الإقليمي والدولي، تقدم الإمارات نفسها بوصفها وكيلا موثوقا لحماية المصالح الدولية في المنطقة، بما في ذلك المصالح الإسرائيلية. وفي هذا السياق، يكتسب الجنوب اليمني، بسواحله الممتدة من باب المندب إلى بحر العرب، أهمية إستراتيجية استثنائية.
فمن منظور الولايات المتحدة وإسرائيل، لا يُفضَّل قيام دولة يمنية موحدة ذات قرار مستقل، بل كيان جنوبي هش، مرتبط عضويا بالتحالف السعودي– الإماراتي، وقابل للضبط السياسي والابتزاز المالي، وجاهز للانخراط في ترتيبات أمنية إقليمية تخدم المصالح الغربية والإسرائيلية[35].
وتُنظر إلى سيطرة قوة موالية للتحالف الخليجي–الأميركي على جنوب اليمن بصفتها مكسبا إستراتيجيا لإسرائيل؛ إذ توفر إمكانات لوجود بحري متقدم في باب المندب وخليج عدن، وخط دفاع بحري في مواجهة ما يُسمى بمحور المقاومة، إضافة إلى تأمين خطوط الملاحة الإسرائيلية نحو الهند وشرق آسيا[36].
وفي هذا الإطار، تراقب الولايات المتحدة وبريطانيا تطورات السواحل اليمنية بصفتها جزءا من ملف الأمن القومي الغربي، حيث يُعد وجود كيان جنوبي متعاون أو غير معادٍ خيارا مفضلا على دولة يمنية موحدة يصعب التحكم في توجهاتها[37].
وعليه، لا تقتصر وظيفة الإمارات على كونها شريكا إقليميا، بل باتت تمثل ركيزة أساسية للسيطرة البحرية في جنوب البحر الأحمر لصالح القوى الدولية. فهي دولة مندمجة أمنيا مع إسرائيل، وتمتلك خبرة متقدمة في إدارة النفوذ غير المعلن عبر أدوات إنسانية وتجارية واستثمارية، وشبكات لوجستية، وقوات محلية، وإدارة الموانئ[38].
وفي ضوء تصاعد الصراع بين إسرائيل من جهة، والحوثيين وإيران من جهة أخرى، يُعاد تعريف باب المندب ومحيطه بصفته مجال نفوذ بحريا إسرائيليا محتملا. ويعكس ذلك ما ذهبت إليه تحليلات إسرائيلية حديثة رأت في صعود المجلس الانتقالي الموالي للإمارات تحولا إقليميا يفتح أمام إسرائيل فرصا أمنية ودبلوماسية جديدة، شريطة إدارتها عبر العلاقة الإستراتيجية مع أبوظبي[39].
الموقف السعودي.. لا للانفصال إلاّ بشروطنا
يُعدّ الكاتب السعودي عبد الرحمن الراشد (رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط السابق) من أبرز الأصوات الإعلامية القادرة على التعبير غير المباشر عن التوجهات الإستراتيجية للمملكة العربية السعودية، لا سيما في الملفات الإقليمية الحساسة. وفي هذا السياق، قدّم الراشد في مقالته بصحيفة الشرق الأوسط المعنونة بـ«الانتقالي فتح عشّ الانفصاليين» قراءة واضحة للموقف السعودي من تطورات المشهد الجنوبي في اليمن، واضعا النقاط على الحروف بشأن حدود المقبول والمرفوض سعوديا. ينطلق هذا الموقف من ثلاث مرتكزات أساسية[40]:
أولها: أن السعودية تظلّ الدولة الوحيدة ذات التأثير الدائم والحاسم في اليمن، سواء بقي موحدا أم اتجه نحو التفكك، مع إقرار بدور ثانوي لسلطنة عُمان بحكم الجغرافيا والحدود.
وثانيها: أن أي قوى يمنية، شمالية كانت أم جنوبية، لا تملك القدرة على إنجاح مشاريعها السياسية بمعزل عن الجارة الشمالية الكبرى. أما المرتكز الثالث: فيتعلق بالمجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يحمل مشروعا موازيا يتمثل في إعادة إحياء دولة الجنوب، وهو مشروع لا يمكن أن ينجح – وفق هذا التصور – إلا بشرطين متلازمين: قبول يمني واسع يتطلب خطابا سياسيا جامعاً يبدد مخاوف مختلف المكونات، والتأييد السعودي الصريح. ومن دون ذلك، فإن المشروع مرشح للتعثر، بل وقد يفضي إلى تفكيك الرابطة الجنوبية نفسها.
وبصيغة أكثر اختصارا، تعكس هذه القراءة أن السعودية لا ترفض الانفصال من حيث المبدأ، لكنها تشترط أن يتم وفق إرادتها وبشروطها، وبالتوقيت والطريقة التي تخدم مصالحها الأمنية والإستراتيجية، وبما لا يضعها في موقع المتهم بطعن اليمنيين في الظهر أو الإضرار باستقرار الإقليم. كما تؤكد، في الوقت ذاته، أن أي قوة أخرى (في إشارة للإمارات)، مهما بلغ نفوذها، لا تستطيع أن تحل محلها أو تدير الشأن اليمني بمعزل عنها.
ويفهم من هذا الموقف أن المجلس الانتقالي وداعميه أقدموا على خطوات ميدانية، في حضرموت، من دون تنسيق مسبق مع الرياض، وهو ما عدته الأخيرة خطأ إستراتيجيا. فالسعودية قد تلتقي معهم في الهدف النهائي، لكنها تختلف حول التوقيت وآليات التنفيذ، وتصرّ على أن تكون شريكا مقررا لا متلقيا للأمر الواقع.
انعكست هذه الرؤية في سلسلة من التحركات السعودية السياسية، إذ مارست ضغوطا على المجلس الانتقالي عبر أدوات متعددة. داخليا، حرّكت الحكومة الشرعية، بما في ذلك سحب وزرائها من عدن[41]، وفعّلت قنواتها مع قبائل حضرموت والمهرة. وخارجياً، سعت إلى حشد دعم دولي، خاصة من الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، وروسيا والصين، لمساندة موقف الشرعية الرافض للإجراءات الأحادية التي اتخذها الانتقالي.
بدت الرياض وكأنها فوجئت بتطورات المشهد، وهو ما يفسر تحجيم دور سفيرها لدى اليمن محمد آل جابر[42]، وإسناد معالجة الملف المتأزم في حضرموت إلى رئيس اللجنة الخاصة محمد القحطاني.
في المقابل، لا تبدو السعودية في وارد اللجوء إلى الخيار العسكري لإجبار المجلس الانتقالي على الانسحاب من حضرموت، رغم حدة خطابها الإعلامي. فمثل هذا الخيار قد يفتح الباب أمام مواجهة واسعة في الجنوب، أو يفضي إلى صدام مباشر مع الحليف الإماراتي، وهو ما يتحاشاه الطرفان. كما لا تسند المعطيات الميدانية ما تردد عن تهديدات سعودية مباشرة بشن غارات جوية، أو عن حشود عسكرية كبيرة على الحدود بهدف الضغط على الانتقالي[43].
وتزداد تعقيدات الموقف مع الفارق الواضح في الجاهزية العسكرية بين التشكيلات الموالية للإمارات وتلك المحسوبة على السعودية، وفي مقدمتها قوات "درع الوطن"[44] التي ما تزال حديثة التشكيل؛ إذ تشير تقديرات متعددة إلى أن هذه القوات أُنشئت أساسا لإدارة توازن مؤقت، لا لخوض مواجهات حاسمة، وهو ما يفسر تبنيها موقف الحياد خلال تحركات الانتقالي، وإعادتها تسليم بعض المرافق بعد تسلمها.
ويعكس ذلك غياب عقيدة عسكرية واضحة، وحضورا لوظيفة سياسية- أمنية تهدف إلى تجنب الصدام أكثر من فرض السيطرة[45]. في ضوء ذلك، تبدو المملكة غير مستعدة للمخاطرة في خوض مواجهات لإخراج الانتقالي قسرا من حضرموت في الوقت الذي بإمكانها إعاقة مشروع الانفصال بالطرق الدبلوماسية والضغوط الدولية إلى أن تقرر بنفسها متى يحين ذلك.
موقف طارق صالح.. إعادة ترتيب مسرح العمليات
يؤكد العميد طارق صالح أن التوترات الأخيرة في حضرموت تأتي ضمن إعادة ترتيب مسرح العمليات[46]، في موقف يتضمن تأييدا ضمنيا لتحركات المجلس الانتقالي. وفي هذا السياق، رفض المكتب السياسي لطارق صالح البيان الصادر عن الأحزاب السياسية الذي أدان التحركات الأحادية للانتقالي، ويرى أن الهجوم على حضرموت يشكل حقًا مشروعًا[47] ضمن إعادة ترتيب المسرح العسكري.
وفي الوقت ذاته، شدد صالح على أن العدو الرئيس هو الحوثي، وأن جهود قواته موجهة بشكل أساسي نحو استعادة الدولة[48]، وليس الانخراط في صراعات مع الانتقالي.
وعلى الرغم من وجود تنسيق عسكري غير معلن بين قواته والمجلس الانتقالي[49]، بدفع ودعم إماراتي، فإنه يرفض منح الشرعية لأي تحركات أحادية الجانب. فيما تشير مصادر مطلعة إلى أن استدعاءه من قبل السعودية[50] جاء على خلفية تصريحاته المتناقضة بشأن التحركات العسكرية للانتقالي في محافظتي المهرة وحضرموت.
ويعكس موقف العميد طارق صالح المتناقض مراوغة إستراتيجية محسوبة تهدف إلى الحفاظ على وحدة الجبهة المناهضة للحوثيين وتجنب الصدام المباشر مع أي طرف ضمن إطار الشرعية. كما يعكس حساسية التوازنات الإقليمية، خصوصًا الدور السعودي، وتأثير الدعم الإماراتي الذي يشكل عامل ضغط يحد من خياراته السياسية والميدانية.
سيناريوهات المشهد اليمني
بسقوط حضرموت بات الانتقالي القوة المسيطرة على الجنوب بدعم إماراتي كبير، فيما الحكومة الشرعية المدعومة سعوديا فقدت دورها ووجودها على الأرض. في حين حقق التحالف السعودي الإماراتي مشروعه الإستراتيجي في التقسيم والتقاسم، وأوصل اليمن إلى حافة الانفصال الذي استوفى الكثير من شروطه وصار تحصيل حاصل ومسألة وقت، لكنه يبقى انفصالا مؤجلا في الوقت الراهن لتنازع أطرافه.
وتشير المعطيات السياسية والميدانية الراهنة إلى أن اليمن دخل مرحلة ما بعد “الدولة الواحدة الفاعلة”؛ حيث بات المشهد محكوما بتوازنات أمر واقع أكثر من كونه نتاجا لعملية سياسية وطنية. وفي هذا الإطار، يمكن استشراف أربعة سيناريوهات رئيسة للفترة القادمة.
السيناريو الأول: يتمثل في الانفصال المؤجَّل للجنوب. فعلى الرغم من اكتمال معظم الشروط الميدانية والسياسية لقيام كيان جنوبي تقوده سلطة المجلس الانتقالي بدعم إماراتي، إلا أن هذا الخيار لا يبدو مرجحا على المدى القصير، في ظل غياب توافق إقليمي ودولي نهائي، وتباين المواقف داخل التحالف نفسه، لا سيما التحفظ السعودي على توقيت وشكل الانفصال. وعليه، يبقى الانفصال احتمالاً قائما لكنه مؤجل، يُستخدم كورقة ضغط سياسية أكثر من كونه مشروعا جاهزا للإعلان.
السيناريو الثاني: يقوم على التصعيد المحدود في المحافظات الشرقية (حضرموت والمهرة) عبر أدوات محلية وقبلية مدعومة سعوديا، في محاولة لاحتواء التمدد العسكري للمجلس الانتقالي دون الانزلاق إلى مواجهة مباشرة. غير أن هذا المسار ينطوي على مخاطر عالية؛ إذ قد يتحول إلى صراع أهلي داخلي في حال فشل أدوات الضبط، بما يهدد بتوسيع دائرة الصراع وإعادة إنتاج الحرب داخل الجنوب نفسه، وهو ما يهدد مصالح التحالف والقوى الدولية وتعمل على تحاشيه.
السيناريو الثالث: وهو الأكثر ترجيحا على المدى المنظور، ويتمثل في تطبيع الوضع القائم وإدارة الانقسام، من خلال الإبقاء على سلطة الأمر الواقع في الجنوب، مقابل حضور شكلي للحكومة الشرعية، واستمرار سيطرة الحوثيين في الشمال. ويعكس هذا السيناريو توجها إقليميا ودوليا لإدارة الصراع لا حسمه، عبر تثبيت حالة "اللا دولة"، لتعميق ازدواج السلطات، بما يضمن استمرار النفوذ الخارجي وتقليص كلفة الانخراط المباشر.
السيناريو الرابع: فرض دولة جنوبية بحكم الأمر الواقع، دون إعلان فوري، عبر السيطرة العسكرية، شلّ الحكومة وتفكيك الشرعية من الداخل، إنشاء سلطة تنفيذية موازية، وحشد سياسي وجماهيري وقانوني، والسيطرة العسكرية على الأرض، ثم الانتقال لاحقا إلى إعلان الانفصال رسميا عندما يُفرض القبول الإقليمي والدولي كأمر واقع.
وهو ما يعمل عليه المجلس الانتقالي بالفعل عبر خطوات مدروسة ومفاجأة للحكومة الشرعية والمملكة السعودية التي يبدو أنها غير قادرة على مجاراة حليفها الإماراتي في مناوراته السياسية التي تدفع بقوة نحو الانفصال. وهذا السيناريو هو الأخطر في المشهد السياسي الجنوبي؛ إذ يُسرّع من احتمالات الصدام مع الشارع الجنوبي الرافض للانفصال، ويدفع نحو الفوضى الأمنية وبخاصة في المناطق الشرقية حيث القبائل المسلحة.
الخاتمة
تكشف تطورات المشهد في حضرموت، وما رافقها من إعادة تموضع إقليمي ودولي، أن اليمن قد انتقل فعلياً من طور الصراع على "وحدة الدولة" إلى طور إدارة التفكك وتطبيع الانقسام. فالصراع الدائر خرج نهائيا من إطار استعادة الدولة المركزية أو إصلاحها، إلى توزيع النفوذ داخل فضاء يمني فقد مقومات السيادة والقرار المستقل. وفي هذا السياق، تمثل حضرموت نقطة ارتكاز حاسمة، لا بوصفها شرارة انفصال معلن فحسب، بل بصفتها عقدة توازن تؤجل الانفصال حينا، وتهدد بالانفجار الأهلي حيناً آخر.
على المدى المنظور، لا يبدو أن اليمن متجه نحو تسوية وطنية شاملة، ولا نحو إعلان انفصال حاسم، بقدر ما يسير نحو تكريس نموذج "الدولة المعلّقة": جنوبٌ محكوم بسلطات أمر واقع مدعومة خارجيا، وشمال خاضع لسلطة الحوثيين، وشرعيةٌ منزوعة الفاعلية، تُستدعى عند الحاجة لتغطية ترتيبات إقليمية أكثر من كونها إطارا سياديا حقيقيا.
ويعكس هذا المسار توافقا غير معلن بين القوى الإقليمية والدولية على إدارة الصراع بدل حسمه، بصفته أقل كلفة وأكثر قابلية للضبط.
وعليه، فإن مستقبل اليمن السياسي في الأجل القريب سيظل رهينة موازين القوة الخارجية، لا إرادة الفاعلين المحليين، وسيبقى الانفصال احتمالا قائما لكنه مؤجَّل، يُستخدم كورقة تفاوض وضغط، فيما تظل مخاطر الانزلاق إلى صراعات داخلية، خصوصا في حضرموت والمهرة، حاضرة بقوة.
وفي غياب مشروع وطني جامع، واستمرار تغليب منطق الوصاية والنفوذ، فإن اليمن يتجه إلى ترسيخ حالة “اللا دولة”، بما يعنيه ذلك من إطالة أمد الهشاشة، وتعميق التفكك، وتأجيل أي أفق حقيقي لاستعادة الدولة أو السيادة حيث تُدار البلاد كمساحات نفوذ متجاورة، وخارطة مصالح في دولة ذات طابع وظيفي.
ويُؤجَّل الحسم السياسي إلى حين تبلور توافقات إقليمية ودولية أوسع حول شكل هذه الدولة وحدودها والأدوار المطلوبة منها، فاليمن اليوم لم يعد وطنا يتعين إنقاذه؛ بل ملف يتوجب ضبطه، فالدولة الوظيفية لا تُبنى بل تدار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر البحث
[1] الانتقالي يدشن حكم “الأمر الواقع” في وادي حضرموت: وعيد بمصادرة السلاح وإنشاء “أجهزة موازية” للدولة
يمن مونيتور/ 15 ديسمبر، 2025- https://2u.pw/KZFkLa
[2] الحوثيون: دخلنا صنعاء بالتنسيق مع عسكريين ومسؤولين وسفارات. الجزيرة نت 10/10/2014
على الرابط: https://2u.pw/2xTnb7v
[3] هندسة السقوط.. أين كان وزير الدفاع اليمني لحظة اجتياح الانتقالي لوادي حضرموت؟
يمن مونيتور-4 ديسمبر، 2025- https://2u.pw/94qIsq
[4] من أبو ظبي إلى سيئون.. كيف أُديرت عملية اجتياح حضرموت وأعيد رسم ميزان القوة في شرق اليمن؟
ديفانس لاين- 15 ديسمبر 2025، https://2u.pw/76P0dS
[5] أول تعليق من رئاسة هيئة الأركان العامة على قصف طيران التحالف لمعسكر العبر بحضرموت
المشهد اليمني- 7 يوليو 2015. على الرابط: https://2u.pw/O0m36
[6] آدم يحيى - أحمد الأبارة. عميد يمني حاول تطوير الجيش فاغتاله تحالف السعودية. موقع الاستقلال. على الرابط:
[7] مجزرة العلم.. ثلاثة أعوام على مذبحة الإمارات بحق الجيش اليمني
الموقع بوست - 29 أغسطس, 2022- https://2u.pw/FYJwh7
[8] سقوط 300 بين قتيل وجريح.. غارات إماراتية مستمرة على عدن وأبين- الجزيرة نت-29 أغسطس 2019.
على الرابط: https://2u.pw/2NJPshtM
[9] الإمارات تؤكد شن غارات على "مليشيات إرهابية دفاعا عن النفس" في عدن
بي بي سي- عربي- 29 أغسطس/ آب 2019- https://2u.pw/Mq1vEB
[10] اشتباكات في عدن والحكومة تدعو لإنقاذها من انقلاب. الجزيرة نت، 28 يناير 2018.
[11] انقلاب عدن الثاني".. ست محافظات ترفضه. الجزيرة نت- 26/4/2020.
[12] محافظ شبوة يدعو الإمارات "لرفع يدها" عن اليمن- الجزيرة نت- 25/8/2021
[13] تفاصيل جديدة عن مؤامرة السعودية والإمارات لعزل محافظ شبوة "بن عديو". هنا عدن- 2021/12/31
[14] وديعة سعودية وأخرى إماراتية بعد إقالة بن عديو من منصبه. الجنوب الآن، 26 ديسمبر 2021.
[15] تفاصيل جديدة عن مؤامرة السعودية والإمارات لعزل محافظ شبوة "بن عديو". هنا عدن- 2021/12/31
[16] احتلال الإمارات لجزيرة سقطرى- الموسوعة الحرة- ويكيبيديا. https://2u.pw/vNXYG3
[17] لجنة سعودية جديدة إلى جزيرة سقطرى لنزع فتيل الأزمة مع الإمارات. القدس العربي- 13مايو 2018.
[18] احتلال الإمارات لجزيرة سقطرى- الموسوعة الحرة- ويكيبيديا
[19] مسؤول يمني يتهم الرياض بتسهيل السيطرة على "سقطرى". عربي21- 20 يونيو 2023.
[20] قناة العربية على الفيسبوك: (متحدث الانتقالي: السعودية والإمارات كانتا على علم بتحركاتنا العسكرية)
[21] تنافس الحلفاء: دراسة سياسات السعودية والإمارات في حضرموت- المخا للدراسات الإستراتيجية-17/9/2024م
[22] نيويورك تايمز: استحواذ الانتقالي على حضرموت ضمن مساعٍ إماراتية لبناء هلال بحري
الموقع بوست - ترجمة خاصة-5 ديسمبر, 2025 - https://2u.pw/DKGDq3
[23] المصدر السابق
[24] الانفصاليون يتجاهلون الانسحاب من حضرموت والمهرة ويصعدون ضد الحكومة. المهرية نت – 19 ديسمبر 2025م
على الرابط - https://2u.pw/nKYCxb
[25] الرئيس الزُبيدي يصدر قرارا بتشكيل اللجنة التحضيرية لهيئة الإفتاء الجنوبية. موقع المجلس الانتقالي الجنوبي
١٣ ديسمبر ٢٠٢٥- https://2u.pw/zYPiaJ
[26] “الانتقالي الجنوبي” يبدأ إعلان الدولة بتقدير أبناء المحافظات الشمالية “مقيمين”
يمن مونيتور/ 15 ديسمبر، 2025- https://2u.pw/D7oxl0
[27] الانتقالي يدشن حكم “الأمر الواقع” في وادي حضرموت: وعيد بمصادرة السلاح وإنشاء “أجهزة موازية” للدولة
يمن مونيتور/15 ديسمبر، 2025- https://2u.pw/KZFkLa
[28] التايمز البريطانية: “الانتقالي” يستعد لإعلان انفصال جنوب اليمن ويلتقي بالإسرائيليين
يمن مونيتور- 12 ديسمبر، 2025- https://2u.pw/zb0lBH
[29] "ذا تايمز" تكشف اتصالات بين الانتقالي ومسؤولين إسرائيليين لدعم مشروع الانفصال
المصدرأونلاين-14 ديسمبر 2025- https://2u.pw/NVGxYO
[30] وزراء المجلس الانتقالي يعلنون رسميًا تمردهم على الحكومة الشرعية والمجلس الرئاسي
المشهد اليمني - 21 ديسمبر 2025. https://2u.pw/3zNZUv
[31] الانتقالي: 4 أعضاء بمجلس القيادة وافقوا على عملية حضرموت والمهرة. «الأيام»-18 ديسمبر 2025
[32] هيئة الشؤون القانونية وحقوق الإنسان تناقش الاستحقاقات التشريعية والقانونية لدولة الجنوب العربي
المجلس الانتقالي الجنوبي-٢١ ديسمبر ٢٠٢٥. https://2u.pw/TEM5h2
[33] من أبوظبي إلى سيئون.. كيف أُديرت عملية اجتياح حضرموت وأعيد رسم ميزان القوة في شرق اليمن؟
ديفانس لاين: خاص-15 ديسمبر 2025، https://2u.pw/76P0dS
[34] مصادر مطلعة: الإمارات تدفع نصف مليار دولار لتعزيز نفوذها في حضرموت والمهرة
المهرة خبور - 19 ديسمبر 2025. https://2u.pw/dU5xVf
[35] أنيس منصور.. كيف يُعاد تشكيل الجنوب اليمني بعيدا عن وهم الخلاف السعودي- الإماراتي؟
عربي21- 14 ديسمبر 2025- https://2u.pw/UJikM0
[36] المصدر السابق
[37] المصدر السابق
[38] عبد القادر الجنيد.. وجود إسرائيل جنوب البحر الأحمر وحاجتها لنفوذ الإمارات في جنوب اليمن والمخا
الموقع بوست - 15 ديسمبر 2025 - https://2u.pw/yoOfmv
[39] صحيفة إسرائيلية: تمدد الانتقالي كشف فجوة بين السعودية والإمارات وخدم إسرائيل وقربها من الحوثيين
الموقع بوست - ترجمة خاصة,16 ديسمبر, 2025 - https://2u.pw/pGaKiv
[40] «الانتقالي» فتح عشَّ الانفصاليين- عبد الرحمن الراشد- صحيفة الشرق الاوسط- 20 ديسمبر 2025.
[41] لقاء غير معلن بين العليمي وخالد بن سلمان وسط وساطة أميركية–أوروبية
أخبار اليوم/ 18-12-2025. https://2u.pw/a5gYF4
[42] السعودية توقف سفيرها آل جابر عن مهامه على خلفية توترات المحافظات الشرقية
الجنوب اليمني: 17 ديسمبر, 2025. https://2u.pw/D3G4Dq
[43] (الغادريان).. إنذار سعودي لـ “الانتقالي”: الانسحاب من حضرموت والمهرة أو مواجهة القصف الجوي
يمن مونيتور/ ترجمة خاصة/18 ديسمبر، 2025. https://2u.pw/7zTWgu
[44] قوات درع الوطن: هي قوات أعلن رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي عن تشكيلها في 2022 تحت قيادته المباشرة، ويقودها القيادي السلفي العميد بشير الصبيحي. مكونة من 9 آلاف مقاتل، بعض الألوية سلفية، وأخرى من القبائل، دربتهم وموّلتهم وسلحتهم المملكة العربية السعودية. معظم قادة الألوية من السلفيين الذين لم يسبق أن كانوا في الجيش اليمني.
[45] "درع الوطن" تحت الاختبار.. هل اكتشفت الرياض أن القوة التي بنتها غير جاهزة للمواجهة؟
المصدر أونلاين- 19 ديسمبر 2025- https://2u.pw/xqLzU4
[46] طارق صالح عن أحداث حضرموت: إعادة ترتيب لمسرح العمليات. يمن مونيتور-6 ديسمبر، 2025.
[47] المكتب السياسي لطارق صالح يعلن أول موقف رسمي في حضرموت والمهرة
نيوز لاين - 2025/12/13. https://2u.pw/n8ylWP
[48] طارق صالح عن أحداث حضرموت: إعادة ترتيب لمسرح العمليات. يمن مونيتور-6 ديسمبر، 2025.
[49] مصدر يكشف مشاركة قوات طارق صالح في اجتياح حضرموت إلى جانب تشكيلات الانتقالي المدعومة إماراتيًا
يني يمن - 23 ديسمبر ,2025. https://yeniyemen.net/p-292728
[50] بعد استدعائه على خلفية مواقفه من تحركات الانتقالي في حضرموت.. طارق صالح يختتم زيارة قصيرة للسعودية
المصدر اونلاين-10 ديسمبر 2025. https://2u.pw/fuiL4d










