المختفون قسرا في مصر منذ مجزرة “رابعة”.. لماذا بقي مصيرهم مجهولا حتى اليوم؟

داود علي | منذ ٧ ساعات

12

طباعة

مشاركة

في 14 أغسطس/ آب 2025 مرت 12 سنة على واحدة من أعنف اللحظات وأكثرها دموية في التاريخ المصري الحديث، مجزرة فض اعتصام رابعة العدوية.

شكلت هذه المجزرة محطة فاصلة في مسار التحول السياسي الذي أعقب الانقلاب العسكري بقيادة قائد الجيش وقتها ورئيس النظام الحالي عبد الفتاح السيسي، على الرئيس الراحل محمد مرسي عام 2013. 

ففي ذلك اليوم، اقتحمت قوات الجيش والشرطة الميدان مستخدمة الذخيرة الحية والآليات الثقيلة والغازات المسيلة للدموع ضد عشرات الآلاف من المعتصمين السلميين، في مشهد تحول إلى رمز للبطش الأمني الممنهج.

وأسفرت المأساة وفق تقديرات حقوقية عن مقتل ما يزيد على ألف مواطن وإصابة المئات، إلا أن الأمر لم يتوقف عند حدود الدماء التي سالت في الميدان؛ إذ فتح يوم الفض بوابة أوسع لانتهاكات ممنهجة استمرت سنوات لاحقة، أبرزها الإخفاء قسرا. 

وتشير توثيقات "الشبكة العربية لحقوق الإنسان" ومقرها لندن إلى أن ما لا يقل عن 24 شخصا جرى اقتيادهم قسرا من محيط الاعتصام في ذلك اليوم وحده، وانقطعت أخبارهم منذ لحظة الاعتقال وحتى اليوم، دون أن تكشف السلطات عن مصيرهم أو أماكن احتجازهم. 

وما تزال عائلات هؤلاء تعيش عذابات البحث عن الحقيقة في دهاليز الأجهزة الأمنية والسجون العسكرية والمكاتب الرسمية؛ حيث يواجهون صمتا مطبقا وإنكارا متكررا من الدولة.

وفي كل عام تأتي ذكرى رابعة لتعيد إلى السطح قضية المختفين قسرا، الذين يمثلون الوجه الخفي لجريمة جماعية لا تزال تداعياتها مستمرة، تاركة أثرها على الحقوق الإنسانية والعدالة المجتمعية.

فمنذ ذلك اليوم، تحول الإخفاء قسرا إلى أداة ممنهجة لإسكات المعارضين وتصفية المجال العام، وأضحى عنوانا لمرحلة كاملة من حكم ما بعد الانقلاب؛ إذ لم يعد القتل الجماعي في الساحات كافيا وحده، بل تبعته سياسة تغييب الأجساد والأصوات خلف جدران السجون، أو إلى المجهول في عهد السيسي.

قصص المختفين

في شهادة مؤثرة لجهاد محمد شقيقة المختفي قسرا عمر حماد، دوّنتها عبر صفحتها بموقع “فيسبوك”، فإن العائلة لم تعرف شيئا عنه منذ يوم 14 أغسطس 2013.

تقول: إنه كان يساعد في نقل المصابين أثناء فض اعتصام رابعة العدوية، حين ألقي القبض عليه داخل إحدى مدرعات الجيش، ومنذ ذلك الحين انقطعت كل أخباره.

وتابعت: "على مدى اثني عشر عاما، قلبنا الدنيا بحثا عنه، طرقنا كل الأبواب، وكلما ظهر خيط أمل انقطع سريعا".

وأوردت: “لم يخبرنا أحد بمكانه أو مصيره، حتى باتت سنوات غيابه تطرح علينا أسئلة موجعة: هل لا يزال حيا؟ كيف يعيش؟ كيف تغيرت ملامحه بعد كل هذا الغياب؟”

وتضيف جهاد: "عمر ليس رقما في ملف أو مجرد حالة نسيها الزمن، هو إنسان كان يضحك ويحلم ويحب الحياة، غيابه لم يمح مكانه في قلوبنا، ولن يطفئ الأمل في أن نعرف مصيره يوما ما".

كما وثقت “الشبكة العربية لحقوق الإنسان” مجموعة من الحالات المماثلة، منها قصة المواطن سعيد سيد رمضان علي (47 عاما وقت اختفائه)، والذي يعد بحسب روايتها واحدا من أبرز حالات الاختفاء قسرا الموثقة بعد فض اعتصام رابعة. 

إذ كان هذا الرجل الذي يعمل في الخياطة، يقيم في منطقة إمبابة بمحافظة الجيزة، وفي يوم الفض وُجِد في ميدان رابعة العدوية، وانقطعت أخباره بعد صلاة العصر مباشرة. 

بحثت أسرته في المستشفيات والمشارح وأقسام الشرطة دون جدوى، كما تقدمت ببلاغ رسمي لدى نيابة أوسيم، ورفعت دعوى قضائية أمام مجلس الدولة، لكن مصيره ظل غامضا. 

ومن الحالات التي وثقتها الشبكة، وتحمل بعدا مأساويا مضاعفا، تلك التي تتعلق بالمواطن عادل درديري، المولود في 29 أغسطس 1971 ويعمل "مبيض محارة" (قصارة الجدران)، وابنه محمد، الطالب المولود في 15 سبتمبر/ أيلول 1997. 

فخلال يوم الفض، تلقت الأسرة اتصالا يفيد بمقتل محمد البالغ من العمر 17 عاما برصاص قوات الأمن داخل الميدان. 

سارع والده عادل إلى هناك لمحاولة تسلم جثمانه، وأبلغ عائلته عند الرابعة عصرا أنه موجود مع الجثمان. لكن منذ تلك اللحظة انقطعت أخبار الاثنين معا، ولم يظهر أي أثر لهما.

وبحثت الأسرة في المستشفيات والمشارح، وأجرت تحاليل DNA، كما تقدمت ببلاغات رسمية ودعوى أمام مجلس الدولة، لكن مصير عادل وجثمان ابنه ما زالا مجهولين حتى اليوم.

وهناك حالة تعود للمهندس الشاب محمد خضر علي محمد من محافظة بورسعيد شمال شرق مصر. 

كان يبلغ 22 عاما عند اختفائه في يوم الفض، ما يعني أن عمره الآن قد وصل إلى 34 عاما إذا كان لا يزال على قيد الحياة. 

وفق إفادة أسرته، كانت آخر مكالمة بينه وبين والده في التاسعة والنصف صباح ذلك اليوم، حيث أخبره أنه يتعرض لإطلاق نار كثيف داخل الميدان، قبل أن ينقطع الاتصال بشكل كامل. 

ومنذ ذلك الحين، خاضت الأسرة رحلة طويلة من البحث، وتقدمت ببلاغات إلى الجهات المعنية، وبحثت في المستشفيات والمشارح، وأجرت تحاليل DNA، لكن جميع محاولاتها انتهت بلا نتيجة.

إلى المجهول

وبحسب الشهادات الواردة ممن رأوا معظم المختفين، فإنهم كانوا داخل ميدان رابعة العدوية أو على أطرافه؛ حيث طغت الفوضى والرصاص والدخان على كل شيء، ومن هناك بدأت قصص الغياب الطويل.

ففي شارع الطيران (يحتضن مسجد رابعة وشهد أحداث الفض)، شوهد عبد الحميد محمد عبد السلام، الطالب العشريني القادم من الدقهلية، للمرة الأخيرة قبل أن يقتاد على أيدي قوات الأمن، لتختفي آثاره منذ ذلك المساء. 

وعلى بُعد خطوات من المكان نفسه، أجرى محمود محمد عبد السميع، ابن الفيوم البالغ من العمر 36 عاما، آخر مكالمة هاتفية مع أسرته عند السادسة مساء، يخبرهم أنه محاصر وسط إطلاق النار، قبل أن ينقطع الاتصال إلى الأبد.

أما محمود أحمد محمدي علي بدوي، فقد تواصل مع عائلته صباحا في حدود العاشرة، مؤكدا أنه ما زال داخل الاعتصام، لكن صوته كان آخر ما وصلهم، إذ لم يردهم أي خبر عنه بعد ذلك. 

فيما كان المهندس محمد الشحات عبد الشافي يكرس جهده لنقل المصابين في الساعات الأولى من الفض، قبل أن يبتلعه الغياب هو الآخر، تاركا خلفه سؤالا لا إجابة له عن مصيره.

ومن الغربية، تلقت أسرة محمود إبراهيم مصطفى أحمد عطية اتصالا أخيرا في السادسة مساء، ثم انقطعت أخباره تماما. 

وتعتقد العائلة أنه نُقِل إلى سجن العزولي العسكري (داخل معسكر الجلاء بمحافظة الإسماعيلية)، لكن السلطات لم تؤكد ولم تنفِ. 

هذه القصص ليست مجرد تفاصيل فردية، بل شواهد على سياسة كاملة، فالإخفاء قسرا، الذي بدأ مع مجزرة رابعة، تحول إلى أداة للعقاب الجماعي، فيما واصلت الدولة إنكارها وتغييب الشفافية حول مصير المفقودين. 

وفي تقرير نشره موقع ميدل إيست آي البريطاني في 13 أغسطس 2023، أكد المحامي والباحث الحقوقي حليم حنيش أن ملف الاختفاء القسري في مصر ما زال يفتقر إلى أي إحصاء دقيق، سواء فيما يتعلق بالضحايا الذين اختفوا يوم مجزرة رابعة العدوية أو من اختفوا بعدها.

وأوضح أن منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" في لندن تمكنت من توثيق أكثر من 400 حالة اختفاء مرتبطة بساحتي رابعة والنهضة (وهو رقم أكبر بكثير من الذي وثقته الشبكة العربية)، لكنها اعترفت في الوقت نفسه بأن الأعداد الحقيقية قد تكون أعلى بكثير.

حنيش شبه الوضع المصري بما جرى في الأرجنتين بعد انقلاب الجنرال خورخي فيديلا (1976 - 1983) حين اختفى نحو 30 ألف شخص، لكنه شدد على أن الأمر في مصر أكثر خطورة بكثير. 

ولفت إلى أن الإخفاء القسري تحول إلى إجراء قياسي تمارسه السلطات ضد المعتقلين، حيث يقدر أن أكثر من 90 إلى 95 بالمئة من الموقوفين تعرضوا لهذه الجريمة.

وتابع المحامي المصري في روايته أن الأمر لم يقف على مأساة المختفين قسرا، بل حدث إخفاء لذويهم وهم في طور البحث عنهم وأثناء مشاركتهم بمؤتمرات للحديث عن قضيتهم.

ففي عام 2017، اختفى المحامي والمدافع عن حقوق الإنسان إبراهيم متولي قسرا من مطار القاهرة وهو في طريقه إلى جنيف للمشاركة في مؤتمر حول الاختفاء القسري، بعد سنوات من اختفاء نجله عمرو يوم فض رابعة.

منهجية نظام

وبحسب مؤسسة "الشهاب لحقوق الإنسان"، فإن عدد حالات الاختفاء قسرا في مصر تجاوز 15 ألفا منذ يوليو/ تموز 2013، وهو رقم تنفيه السلطات المصرية بشدة. 

ويرى حنيش أن العقبة الرئيسة أمام الأسر تتمثل في عدم تصديق مصر على الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، فضلا عن أن التشريعات المحلية لا تعرف ولا تجرم هذه الجريمة بشكل واضح.

ويشير تقرير للمؤسسة إلى أن الدستور المصري نفسه، في مادته الرابعة والخمسين، ينص على أنه "لا يجوز القبض على أي شخص أو احتجازه إلا بأمر قضائي". 

ويشدد على أن الموقوف "يجب أن يتمكن فورا من الاتصال بذويه ومحاميه، وأن يقدم إلى سلطة التحقيق خلال 24 ساعة". 

لكن هذه النصوص، بحسب حنيش، تبقى حبرا على ورق في ظل غياب الإرادة السياسية لإنهاء واحدة من أكثر الملفات إيلاما في تاريخ مصر الحديث.

وفي تفسيره لسؤال “أين ذهب كثير من المختفين بعد رابعة؟” قال المحامي والحقوقي المصري كريم اليعقوبي: إن الإجابة تكمن فيما جرى داخل المستشفى الميداني يوم الفض. 

وأوضح لـ "الاستقلال"، أن قوات الجيش والشرطة طوقت يومها المستشفى بالأسلاك الحديدية، ثم أطلقت قنابل الغاز والرصاص المدمع قبل اقتحامه؛ حيث أخرجت الطواقم الطبية والجرحى بالقوة، فيما جرى التحفظ على عشرات الجثامين.

وأضاف اليعقوبي أن هناك شهادات قوية، حذرت من ارتكاب إبادة جماعية وحرق متعمد للجثث ونقلها إلى مستشفيات أخرى بهدف طمس الأدلة وإخفاء الجريمة. 

وأشار إلى إحراق المستشفى الميداني بما فيه من جثث ومصابين، بينهم نساء وأطفال، وهو ما يفسر إلى حد بعيد سبب غياب كثير من الضحايا عن أي قوائم رسمية أو سجلات موثوقة.

ويضيف الحقوقي المصري أن المساجد المحيطة برابعة تحوّلت آنذاك إلى مستشفيات بديلة بعد حصار المستشفى الرئيس، فيما اكتفت السلطات لاحقا بتشكيل لجنة تقصي حقائق افتقرت إلى الشفافية. 

ويؤكد أن هذه اللجنة لم تسع بجدية إلى إشراك الضحايا وذويهم، ولم تكشف للرأي العام مصير المفقودين، ما عمق الشكوك حول استقلاليتها.

ويشير إلى أن المرسوم المؤسس للجنة لم يتضمن أي التزام بنشر نتائجها أو توصياتها، كما أن تجربتي لجنتي تقصي الحقائق في 2011 و2012 انتهتا بلا نتائج منشورة، وهو ما جعل مسار العدالة الانتقالية في مصر متعثرا حتى اليوم.

ويختم بالقول: "إن الكثير من المختفين بعد رابعة قد يكونون ضمن من أحرقوا أو نقلوا سرا من المستشفى الميداني، في إطار عملية متعمدة لإخفاء معالم الجريمة". 

وتابع: "هذه الحقيقة تجعل من مجزرة رابعة وملف المختفين قسرا جرحا مفتوحا لن يلتئم إلا بكشف مصير الضحايا وتحقيق المحاسبة".