رغم ما ألحقت به من أضرار.. لماذا سلم السيسي نفسه للأموال الساخنة مجددا؟

"مصر الآن تقدم ثالث أعلى عائد على السندات بالعملة المحلية بين 23 اقتصادا ناشئا"
بالعودة إلى الربع الأول من عام 2022، كانت مصر وقتها تشهد موجة انسحاب كارثية للأموال الساخنة، بخروج 22 مليار دولار، في أعقاب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
مثل الأمر ضربة قاصمة للاقتصاد المصري، الذي اعتمد على تلك الأموال منذ عام 2016، وكانت قد بلغت نحو 15 مليار دولار، قبل خروجها الكامل والمفاجئ من البلاد.
وهو ما دعا وزير المالية المصري محمد معيط، للتصريح في يوليو/ تموز 2022، بأن الدولة المصرية تعلمت الدرس فيما يخص الأموال الساخنة من 3 مرات متتالية في 2018 و2020 و2022.
وشدد على أن الحكومة وضعت إستراتيجية تنص على عدم الاعتماد على هذا النوع من الأموال مرة أخرى، نظرا لأنها في طليعة أسباب شح النقد الأجنبي، وانتعاش السوق السوداء للدولار.
انقلاب على الذات
لكن تلك الإستراتيجية التي وضعها وزير المالية المصري، لم تستمر طويلا، مع الإعلان عن عودة تدفقات الأموال الساخنة، في البنوك المصرية مرة أخرى.
وفي 7 مارس/ آذار 2024، أعلنت وكالة “بلومبيرغ”، أن “هناك تجهيزات للأموال الساخنة للاندفاع إلى مصر مع الرهان القادم على السندات الذي لا يمكن تفويته”.
وذكرت الوكالة الأميركية أن مصر الآن تقدم ثالث أعلى عائد على السندات بالعملة المحلية بين 23 اقتصادا ناشئا.
وذلك مع عائدات متوسطة تقارب 30 بالمئة، عقب استعادة الجنيه بعضا من خسائره الهائلة بارتفاع يصل إلى 1.5 بالمئة أمام الدولار.
وأضافت: "المستثمرون كانوا يتجنبون ديون مصر المحلية بسبب مقاومة البنك المركزي لتخفيض قيمة الجنيه المدار بشدة، حيث أصبح الجنيه مقدرا بشكل مفرط في نظر المتداولين الأجانب، ما سبب نقص العملة الصعبة وارتفاع التضخم".
وفي 4 أبريل/ نيسان 2024، طرح البنك المركزي المصري، أذون خزانة بقيمة 35 مليار جنيه لأجل ستة أشهر، وبقيمة 25 مليار جنيه لأجل عام واحد.
وشهد الطرح إقبالا لافتا من المستثمرين، إذ وصلت قيمة العروض إلى 77 مليار جنيه للطرح الأول، و111 مليار جنيه للطرح الثاني.
وقبل البنك المركزي نيابة عن وزارة المالية، القيمة الأساسية التي طلبها، بفائدة تراوحت بين 24 بالمئة و26 بالمئة لطرح الستة أشهر، وبين 25 بالمئة و26 بالمئة لطرح أجل العام.
وهو ما أعطى فرصة قوية لتدفقات الأموال الساخنة، وسعي المستثمرين الأجانب لوضع أموالهم في البنوك المصرية، للحصول على عروض الفائدة المرتفعة.
فبعد يوم واحد من تحريك البنك المركزي لسعر الجنيه ليصل إلى نحو 50 جنيها، أقبل المستثمرون الأجانب على أذون الخزانة المصرية.
حيث بلغت مشتريات الأجانب في أذون الخزانة التي طرحها البنك المركزي نحو 825 مليون دولار.
ما الأموال الساخنة؟
وتثار تساؤلات لدى الجماهير المصرية غير المتخصصة بالشأن الاقتصادي، لكنها متأثرة به، عن ماهية الأموال الساخنة؟ التي كانت من العوامل الأساسية في الأزمة الاقتصادية العنيفة والمستمرة ببلدهم.
بحسب بلومبيرغ، فإن مصطلح "الأموال الساخنة" يشير إلى إستراتيجية استثمارية ينقل فيها المستثمرون رؤوس أموالهم من بلد (أو مؤسسات مالية)، إلى دولة أخرى (مثل مصر) من أجل الاستفادة من الحركة الإيجابية والمرتفعة في أسعار الفائدة.
ويأتي المصطلح من طبيعة المرونة التي يتمتع بها المستثمرون في نقل أموالهم بيسر وسهولة من بلد إلى بلد.
وهو ما يؤدي إلى خلق سيولة قصيرة الأجل للبلد المتلقي، لذلك يمكن أن تؤثر الأموال الساخنة على تدفق رأس المال في الدولة وسعر صرف العملة أيضا.
وعادة ما يتم استثمار هذه الأموال في الأصول التي من المتوقع أن ترتفع على المدى القريب أو يتم إيداعها في حسابات تقدم معدل فائدة حقيقية أفضل.
وهذه الاستثمارات غالبا ما تكون عالية المخاطر وقصيرة الأجل بطبيعتها مع القدرة على توليد مدفوعات كبيرة.
وتشمل بعض الطرق الأكثر شيوعا للأموال الساخنة الأسهم والودائع والسندات والسلع والعملات والمشتقات.
ومن بعض الاستخدامات الرئيسة للمال الساخن، أنه يستخدم المستثمرون هذه الآلية لكسب أكبر قدر ممكن من المال في فترة زمنية قصيرة إلى حد ما.
فيما تجذب البلدان مستثمري الأموال الساخنة لزيادة السيولة واحتياطي العملات الأجنبية لديها.
كذلك تستخدم البنوك تدفق الأموال الساخنة للتحكم في التقلبات في سعر صرف العملات.

ومن الأمثلة التاريخية على عمليات تدفق الأموال الساخنة إلى بلد ما، ما حدث عام 2011 عندما شهدت منطقة اليورو (الاتحاد الأوروبي) تدفقا كبيرا للأموال الساخنة إلى سويسرا، بسبب أزمة منطقة اليورو في ذلك الوقت.
ونظرا لأن المستثمرين الأوروبيين عدوا سويسرا ملاذا آمنا، كان هناك ارتفاع سريع في قيمة الفرنك السويسري حيث شهد إقبالا كبيرا من المستثمرين.
ومن أكثر سلبيات تلك الإستراتيجية، أن مستثمري الأموال الساخنة هم أول من يتخلى عن الشراكة في أوقات الشدائد، ما يزيد من حدة أزمة السيولة.
وأيضا يؤدي تدفق تلك الأموال إلى ارتفاع سعر صرف العملة، ومع استمرار الأمر، يؤثر سلبا على أعمال التصدير في الدولة حيث ستصبح سلعها وخدماتها أكثر تكلفة من المنتجات المماثلة من البلدان الأخرى.
وقد يكون لمثل هذا التدفق المفاجئ لرأس المال مع أفق استثمار أقصر تأثير سلبي على الاقتصاد، مثل التوسع النقدي السريع، واتساع عجز الحساب الجاري والضغوط التضخمية، وهو ما حدث في النموذج المصري تماما.
النموذج المصري
ورغم تلك المخاطر والسلبيات لكن النظام المصري بقيادة عبد الفتاح السيسي اعتمد على الأموال الساخنة منذ انقلابه منتصف 2013.
ففي عام حكمه الأول 2014 خرجت أموال ساخنة من مصر بقيمة 638.6 مليون دولار، ثم استمرت في الخروج العام التالي (2015) بحوالي 1.3 مليار دولار، بحسب بيانات ميزان المدفوعات الصادرة عن البنك المركزي.
لكن في عام 2016 مع تحريك البنك المركزي سعر صرف الجنيه (التعويم الأول في عهد السيسي) في نوفمبر/ تشرين الثاني بدأت الأموال الساخنة في التدفق للاستثمار في أدوات الدين المصرية.
لتسجل وقتها نحو 16 مليار دولار، ثم زيادة أخرى في العامين التاليين إلى حوالي 12 مليار دولار و4.2 مليارات دولار على التوالي.
استمر الأمر حتى جاء عام 2019 مع بداية أزمة كوفيد 19، ففي ذلك العام المالي خرجت استثمارات للأجانب في أدوات الدين المصرية بحوالي 7.3 مليارات دولار.
وقد تبدل هذا الوضع في العام التالي 2020، حيث دخلت الأموال الساخنة بقيمة 18.7 مليار دولار بسبب ارتفاع الفائدة واستقرار الجنيه في ذلك الوقت.
لكن الصدمة الحقيقية التي ضربت الاقتصاد المصري بسبب الأموال الساخنة كانت في العام المالي 2021/ 2022، إذ خرجت أموال ساخنة من مصر بنحو 20.9 مليار دولار.
وقتها عزا رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، تخارجها إلى رفع الفائدة من الفيدرالي الأميركي واندلاع شرارة الحرب الروسية الأوكرانية، ثم استمر خروج الأموال الساخنة بنحو 3.76 مليارات دولار العام المالي 2022/ 2023.
وبحسب بيانات ميزان المدفوعات للربع الأول من العام المالي 2024 خرجت أموال ساخنة من مصر من يوليو إلى سبتمبر 2023 بقيمة 523.4 مليون دولار، مقابل نحو 2.1 مليار دولار خلال نفس الفترة من عام 2022.

اقتصاد ريعي
وعن عودة الأموال الساخنة إلى البنوك المصرية، يقول الباحث الاقتصادي أحمد محيي الدين لـ"الاستقلال": “مع الأسف الدولة المصرية قائمة على فكرة (الاقتصاد الريعي) وتؤطر له على الدوام”.
والاقتصاد الريعي هو مصطلح يشير إلى الدولة التي تستمد كل أو جزءا كبيرا من إيراداتها الوطنية عن طريق تأجير الموارد المحلية لعملاء خارجيين.
وأضاف: "فهي تريد الاعتماد على الأموال الساخنة أو العائدات مثل قناة السويس أو الغاز والمعادن، وهذا النوع من الاقتصاد لا يبني أمة ولا يحقق الاستقرار لدولة أو نظام".
ومضى محيي الدين يقول: "من العجب أن تكرر الحكومة نفس الخطأ الكبير للمرة الثالثة أو الرابعة بالاعتماد على الأموال الساخنة في ظل عدم وجود بدائل حقيقية، تكفل له على الأقل توفير سيولة دولارية كافية من خلال الإنتاج".
وأرجع الاقتصادي المصري سبب عودة الأموال الساخنة بهذه الكيفية، إلى أن البنك المركزي ينظر إليها على أنها وسيلة سريعة لتوفير السيولة الدولارية، تمكنه من السيطرة على سعر صرف الجنيه وبالتالي خفض معدلات التضخم.
ومع ذلك شدد على أنه “يجب على النظام بدلا من فتح الباب للأموال الساخنة، أن يقلل النفقات على المشروعات غير الضرورية لأن الأموال الساخنة، تعطي انطباعا كاذبا عن وجود وفرة من الدولارات”.
لكنها “من الممكن أن تتخارج عند أي عقبة تواجه الاقتصاد المحلي، كما حدث سابقا” يختم محيي الدين.
المصادر
- Hot Money Ready to Pour Into Egypt With Next Can’t-Miss Bond Bet
- عودة «الأموال الساخنة» تهوي بالفائدة على أذون الخزانة بنحو 6% خلال 3 أسابيع
- تعلمنا الدرس.. معيط: لن نعتمد على الأموال الساخنة مرة أخرى
- الأموال الساخنة تتأهب لدخول مصر مع عودة جاذبية سنداتها المحلية
- الأموال الساخنة .. ما هي وكيف تؤثر على الاقتصاد؟
- كيف تكرر الحكومة المصرية الغلطة 4 مرات؟