أزمة سونكو الكاشفة.. كيف قوضت فرنسا أحلام ديمقراطية السنغال؟

أحمد يحيى | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

قبل أكثر من ستين سنة وتحديدا في 4 أبريل/ نيسان 1960 نالت السنغال استقلالها الرسمي عن فرنسا، ووقف وقتها أول رئيس جمهورية في تاريخ البلاد "ليوبولد سيدار سنغور" وقال كلمته الخالدة "أنا موظف فرنسي في رئاسة الجمهورية السنغالية" وهي معبرة عن مدى تبعية النظام آنذاك للمستعمر. 

اليوم غير البارحة، ولا تبدو علاقة باريس بداكار في أفضل أحوالها، ومع اندلاع المظاهرات والأزمات الداخلية كما حدث في أزمة الزعيم السياسي السنغالي "عثمان سونكو"، تنطلق الجماهير الغاضبة إلى مهاجمة المصالح والشركات الفرنسية، وسط اتهامات فحواها استمرار الاستعمار، ولكن بلباس جديد.

السنغال تاريخيا كانت أهم مستعمرات فرنسا في غرب إفريقيا، وتعود العلاقة بين الطرفين إلى عام 1677، عندما استولت القوات الفرنسية على جزيرة جوريه بجوار داكار الحديثة، وجعلتها نقطة انطلاق صغيرة لتجارة الرقيق في منطقة الأطلسي.

منذ ذلك الوقت خاض الشعب السنغالي حربا طويلة ضد الاستعمار، كما حدث في معركة "لوغانديم" في 18 مايو/أيار 1859، وبعدها تولى زعماء السنغال المقاومة وعلى رأسهم محمدو لامين، والحاج عمر تال، حتى نال البلد الإفريقي استقلاله أخيرا مع وقوعه في دائرة تحكمات قصر الإليزيه. 

فما هي طبيعة العلاقة الحالية بين السنغال وفرنسا؟ ولماذا بقي استقلال داكار منقوصا؟ ولماذا يحمل الشعب السنغالي كل هذا الغبن تجاه باريس؟ 

أزمة سونكو 

في 3 مارس/ آذار 2021، شهدت العاصمة السنغالية داكار ومدن أخرى، تظاهرات واحتجاجات عارمة في البلد المعروف بأنه منطقة استقرار في غرب إفريقيا، حيث اشتعلت مواجهات شرسة بين أنصار الزعيم السياسي عثمان سونكو وقوات الشرطة، وصلت إلى أعمال تخريب ونهب محلات تجارية وخصوصا ذات العلامات الفرنسية.

بدأت الأزمة حين اعتقلت السلطات السنغالية سونكو وقتلت ما لا يقل عن 5 من أنصاره، لتحدث مواجهات مفتوحة تخللها حرق مقار ومراكز الشرطة والمؤسسات الأمنية.

وصلت أعمال الشغب إلى المحلات التجارية الكبيرة، وخصوصا المؤسسات التجارية الفرنسية، وذلك لاعتقاد المتظاهرين الكامل بأن فرنسا داعم أساسي للنظام في سعيه إلى تصفية سونكو سياسيا وإلحاقه بمن سبقوه من السياسيين الذين أزاحهم الرئيس، ماكي صال، عن واجهة المشهد السياسي عبر إدانات قضائية متعددة. 

استهداف المصالح الفرنسية لم يكن ناجما عن الأزمة الأخيرة بشكل خاص، بل كانت مشاعر الغضب الساخنة لدورها السلبي في الاستحواذ على جزء كبير من الاقتصاد السنغالي.

وفي ردة فعل سريعة اكتفت باريس بتوقيع بيان مشترك مع سفراء الاتحاد الأوروبي تدعو فيه إلى الحوار والتهدئة، وذلك في مسعى منها لتخفيف وتيرة الغضب الموجه ضدها، فيما تتحدث مصادر أخرى عن رفض فرنسا الدعم العسكري للرئيس صال، أثناء الأزمة، وزيادة ضغطها القوي من أجل إطلاق سراح سونكو، حتى لا تتفاقم الأحداث.

وهو ما وقع بالفعل، حيث انحنى الرئيس أمام العاصفة في خطاب تهدئة للجماهير، وأطلق سراح سونكو تحت الإشراف القضائي. 

سونكو وفرنسا

ولد عثمان سونكو، في 15 يوليو/ تموز 1974 في مدينة تياس، وينتمي عرقيا إلى قومية "جولا" وهم سكان إقليم "كازامانص الجنوبي" المعروف بتاريخه في الثورة المسلحة ضد الحكومات السنغالية المتعددة.

تخرج سونكو في قسم الإدارة المالية من جامعة داكار، وانخرط في السلم الوظيفي للحكومة، وترقى في الوظائف المالية، حتى وصل إلى رتبة مفتش دولة. 

خلال فترة عمله، كان سونكو يوجه بشكل مستمر انتقادات لاذعة إلى حكومة الرئيس ماكي صال وطريقة إدارتها للمال العام في كثير من المحاضرات والبرامج الإذاعية، حتى تم فصله من وظيفته، وهنا بدأت لحظة التحول في حياته. 

أنشأ في سنة 2014 حزب "باستيف" الذي استقطب قطاعا واسعا من الجماهير الشبابية في السنغال، بفضل خطابه الثوري الحماسي، الذي ارتكز على النقد المؤلم للسلطة، وما رآه فسادا اقتصاديا متراميا، واستفحالا للهيمنة الفرنسية على مقدرات البلاد. 

خاض سونكو بحزبه الجديد الانتخابات التشريعية عام 2017، ونجح في الدخول إلى قبة البرلمان السنغالي.

في يناير/ كانون الثاني 2018، أصدر عثمان كتابا أطلق عليه "النفط والغاز في السنغال"، اتهم فيه الرئيس ماكي صال وعناصر حكومته بسوء التصرف في إدارة الموارد الطبيعية للبلاد، وتقديم مصالح الدول الأخرى على مصالح السنغال في العقود البترولية والغازية، لا سيما فرنسا المسيطرة على تلك العقود والامتيازات. 

وفي 16 سبتمبر/ أيلول 2018، أصدر السياسي السنغالي الصاعد صاحب الـ 46 ربيعا، كتابه "الحلول"، الذي تضمن رؤيته التشخيصية لواقع بلاده وتقديراته المستقبلية، إضافة إلى برنامج إصلاحي، يعتمد بشكل خاص على انتقاد أداء الحكومات المتعاقبة، وعلى العلاقة بين السنغال وفرنسا التي وصفها صراحة بأنها الناهب الأول لثروات بلاده وإفريقيا عموما. 

بعد ارتفاع شعبيته شارك عثمان سونكو لأول مرة في سباق الانتخابات الرئاسية السنغالية التي تم إجراؤها في 24 فبراير/ شباط 2019، واحتل المرتبة الثالثة بعد الرئيس ماكي صال ورئيس الوزراء السابق إدريس سيك وحصل على 15.67 بالمائة. 

حينها وضع سونكو على رأس برنامجه الإصلاحي، إخراج السنغال من عملة فرنسا "سيفا" إلى عملة أخرى نظرا لكونها من الأسباب الرئيسة للتخلف الاقتصادي. 

رغم خسارته انتخابات الرئاسة، يعتبر عثمان ظاهرة سياسية سنغالية صاعدة بقوة ضد حكومة صال والمصالح الفرنسية الانتهازية.

لذلك نال إعجاب شريحة كبيرة من المواطنين بسبب نفوذه السياسي السريع، وكلمته القوية في صفوف مثقفي السنغال والجماعات الدينية، واعتبرته فرنسا في ذات الوقت من العوامل المهددة لنفوذها في البلد وبطبيعة الحال في منطقة غرب إفريقيا. 

علاقة أبوية 

يقول البروفيسور يان تايلور المختص بالسياسة الإفريقية في جامعة سانت أندروز في أسكتلندا: "الوعود بفتح صفحة جديدة بين فرنسا ومستعمراتها الإفريقية (منها السنغال) لا يعدو كونه كلاما ومجرد طقس، لأنه سرعان ما يلاحظ الرؤساء الفرنسيون أن المصالح السياسية والاقتصادية لبلادهم في القارة السمراء كبيرة وأن ليس هناك مصلحة حقيقية بأي تغيير". 

وأضاف خلال تصريحات لموقع "دويتشه فيله" في 8 أغسطس/ آب 2020: "ظهر ذلك في عام 1962، عندما كلف الرئيس الفرنسي شارل ديغول مستشاره جاك فوكار بصياغة علاقة جديدة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة في إفريقيا".

 غير أن تلك العلاقة بين القادة الفرنسيين والنخب في البلدان المستقلة حديثا مثل السنغال كانت غير شفافة وأبوية وفيها تحكم، وفق قوله.

كما اتهم الباحث يان تايلور "الفرنسيين بإعادة ضخ الأموال الإفريقية التي تأتي إلى خزينتهم من جديد على شكل مساعدات تنموية، ما يقوي من نفوذهم في المنطقة".

وأكد أن "الخطوة الأولى للاستقلال الحقيقي هي دفن الفرنك الإفريقي. ما تحتاجه الدول الفرنكوفونية بعد ستين عاما من الاستقلال هو نخبة إفريقية تضع مصلحة بلدانها في المقدمة".

والفرنك الإفريقي، أو (فرنك سافا) عملة متداولة في 12 دولة إفريقية ضمنها السنغال، وهو مربوط باليورو وهذا ما يحول دون انتهاج سياسة نقدية مستقلة. وتدفع تلك الدول المتعاملة بالفرنك ما يصل إلى 65 بالمئة من احتياطاتها النقدية للخزينة الفرنسية.

وتنظر شعوب وحكومات مجموعة الإيكواس (المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا) لـ "فرنك سفا" على أنه عملة استعمارية، أنشأته فرنسا خلال حقبة الاستعمار لتلك الدول.

وتسعى شعوب الغرب الإفريقي إلى التخلص من القيود الفرنسية المفروضة على عملتها، التي لا تزال مفروضة عليها، بعد أكثر من 7 عقود على ربط العملة الإفريقية بالفرنسية.

ويعد الحلم الأكبر لهذه المنظمة التي تقع جمهورية السنغال في موقع متميز من عضويتها، في إطلاق عملة موحدة، تتحرر بها رويدا رويدا من سيطرة فرنسا.

وهو ما حدث في 29 يونيو/ حزيران 2019، عندما أعلنت "إيكواس"، في بيان، أنها وافقت على اسم "إيكو" للعملة الموحدة المراد استخدامها للدول الأعضاء في الكتلة، وأنها وضعت نظام سعر صرف مرن للعملة الجديدة، مؤكدة أن "هذا يصب في صالح خطط زعماء القارة لتحقيق التكامل في غرب إفريقيا".