أدوات المستبدين في الدول الريعية لتطويع الشعوب

د. سعد الفقيه | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

تنصاع الشعوب للسلطة النابعة من تفويض شعبي (الانتخابات)، وتنصاع للسلطة التي تحمل مشروعا وطنيا ينطوي تحته الطيف الأوسع من الشعب، وتنصاع للسلطة الملتزمة برسالة دينية قناعة بأن طاعتها واجب ديني، لكن هل يمكن أن تنصاع لسلطة لا تحمل أيا من هذه المبررات أو المشرعات؟!

الأنظمة العربية وخاصة الخليجية لا تتحقق فيها أي من هذه الشروط، لكن مع ذلك طوعت شعوبها بطريقة تكاد تتفوق على مستوى التطويع من الأنظمة ذات الشرعية، فما هي هذه الوسائل؟ وما هي آليات هذه الأنظمة في ذلك؟

يجمع بين هذه الأنظمة أنها مستغنية ماديا بدخل تؤمّن به سلطتها بخلاف الدول التي تعتمد على ما تأخذه من مواطنيها بالضرائب. ومصدر الدخل يكون إما ثروات طبيعية كالنفط والغاز والمعادن كما في حالة دول الخليج، أو من دعم مالي خارجي كما في حالة الأردن ومصر، أوفي حالة الممالك السابقة من دخل الخراج والجزية وغنائم الحرب. هذا الدخل يريح الحاكم من أن يعتمد على الضرائب التي تجعل الشعب بالضرورة مشاركا في السلطة بدرجات متفاوتة على مبدأ "لا ضرائب بلا تمثيل".

قد تستطيع السلطة إغناء كل المواطنين بوفرة هائلة في الدخل الريعي لكن في غالب الأحيان لا تحتاج إلى ذلك بل تؤمن سلطتها بأن تشتري القوى المؤثرة التي لا يستطيع الشعب التصرف بدونها فينصاع بقية الشعب على طريقة "شراء المعارضة" كما سماها عالم السياسة الأمريكي غريغوري غوز.

القوى التي تشتريها السلطة

تشتري السلطة عالم الدين الذي يطوّع الناس للحاكم باسم الدين ويحذر من مخالفته أو التثريب عليه، وتشتري المثقف الذي يفلسف حق الحاكم في احتكار السلطة وحكمته وسداد رأيه ويشوه صورة منتقديه، وتشتري الإعلامي الذي يمدح الحاكم ويعظم شأنه ويذم خصومه ويحقر شأنهم، وتشتري القيادات الأمنية التي تقمع الناس وتخوفهم بهم.

إضافة لذلك تشتري السلطة قيادات القوات المسلحة التي عادة ما تكون متممة للجهاز الأمني، وتشتري القيادات الاجتماعية مثل رؤساء القبائل والأعيان حتى يتحكموا بتوجه القبائل والعوائل في تعظيم الحاكم وأحقيته المطلقة في الحكم، وتشتري رجال الأعمال من خلال تفضيل من يتقرب للحاكم بتسهيلات مالية أكثر من غيره ومن ثم تسهيل مراقبة حركة المال حتى تسيطر على أي دعم ضد السلطة.

مراحل الخضوع للحاكم

الجهد التكاملي لهذه القوى يؤدي لتدرج خطير في التبعية للحاكم ينتهي بأن يكون الحاكم هو الملهم الحكيم وقدر البلاد التي يحكمها ولا يخطر ببال الناس أن تستطيع العيش إلا تحت ظلاله وبركته وحكمته. ولا تصل الشعوب لهذه المرحلة في تقديس الحاكم وسلطته، بل تتدرج بعدة مراحل كما أشار إلى بعض ذلك الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد".

  • المرحلة الأولى: هي عدم الاكتراث بالظلم والفساد والاستبداد، حيث لا يقبل الشعب الظلم والفساد لكن يدرك في اللاشعور أن الاعتراض عليه مخالف للتوجه العام الذي تصنعه هذه القوى المذكورة. فالمانع قد لا يكون الخوف من القمع بل ربما القلق من أن يصبح المرء منبوذا بصفته مخالفا للرأي العام.
  • المرحلة الثانية: هي الرضا بالواقع واعتباره أمرا طبيعيا والقناعة بأن التفرد بالسلطة والتحكم بالمال والنظام العام هو حق من حقوق السلطة. في هذه المرحلة قد يعجب الشعب ببعض من يتمرد على الظلم لكن لا يقف معه ولا يثني على فعله.
  • لمرحلة الثالثة: هي افتخار الشعب بالواقع السيئ وتجريمه لمن يعترض والتسابق في الثناء على حنكة الحاكم وفطنته، وأن ما قد يبدو ظلما فهو في الحقيقة حزم وعزيمة وما قد يبدو فسادا وخيانة هو سياسة وموازنة لا يتقنها إلا الدهاة أمثال هذا الحاكم. في هذه المرحلة يتم تقبيح صورة المعارضين وشيطنتهم بل وتجريمهم قانونا ونظاما بقناعة شعبية كاملة.
  • المرحلة الرابعة: هي قناعة الشعب بدوران كل شيء حول الحاكم، وذلك باعتقاد أن هذا الحاكم أو نظام الحكم هو قدر البلد وقدر الشعب ولا يمكن تصور الحياة بدونه. وحين تصل الشعوب لهذا الشعور ترتاح السلطة وتسترخي.

ولذلك تبرز في هذه المرحلة ظاهرة فيها شيء من المفارقة وهي تحمّل النظام لبعض الانتقاد الموجه لأطراف السلطة، والسبب هو طمأنينة الحاكم أن قناعة الشعب باستحالة بديل له تجعل هامش الحرية المحدود غير ذي خطر عليه. ومع الأسف الشديد وصلت كثير من شعوب المنطقة لهذه المرحلة التي تعتبر أمنية الطغاة.

وسائل السلطة في تطويع الشعب

للسلطة وسائل كثيرة في استثمار القوى المذكورة لتطويع الشعب تناولها نعوم تشومسكي في مقال مشهور وجوستاف لوبون في كتاب "سيكولوجية الجماهير" وأتين دي لابواسييه في كتاب "العبودية الطوعية".

من أهم هذه الوسائل التسلط الأمني بالاعتقال والتعذيب أو قمع أي تحرك في الشارع، والهدف من القمع ليس كما يبدو للناس تغييب الصوت المعارض فقط وحرمان أصحابه من إيصال رسالتهم للناس، بل الهدف الأوسع ردع من ينوي المعارضة قبل أن يقدم عليها. لكن هذا الهدف الأخير لا يؤتي نتيجته إلا إذا صاحب القمع تبرير له وتضخيم قدرة السلطة على تتبع خصومها وإفهام بقية الشعب عاقبة من يعارض السلطة. وبهذا فإن العنف الذي تقوم به السلطة الأمنية لا ينفع دون دعم من كل القوى المذكورة حتى يحقق الردع المطلوب.

الوسيلة الثانية هي تجهيل الشعب بكل شيء يؤدي إلى معرفة حقوقه ومعرفة واجبات السلطة، وفي المقابل إغراقه بثقافة تحمّله كل الواجبات وأن السلطة لها كل الحقوق. هذا التجهيل يساهم فيه التعليم والإعلام والمؤسسات الدينية والمثقفون ويتحقق على مستويين، المستوى الأول التجهيل بحقيقة الوضع وما يجري على يد السلطة من ترسيخ للاستبداد والظلم والفساد، والمستوى الثاني تضليل الشعب بمعلومات بديلة تظهر السلطة بمظهر العدل والرشد والسداد.

وتستطيع السلطة بالقوى المذكورة تحقيق أبعد من ذلك وهو رضا الشعب بهذا الجهل والقناعة بأن أمور السياسة معقدة وكبيرة ومن شأن الحاكم فقط، وتحويل ذلك إلى ثقافة عامة أو ما يسمى بـ (الشيوخ أبخص).

من هنا يتم استغفال الشعب ومعاملته كالطفل الذي لا يميز أو يدرك الأشياء، ثم إقناعه أنه يجب أن ينظر لنفسه نظرة الأسرة وأن الحاكم هو رب هذه الأسرة الحريص عليها، وأن الاعتراض أو المطالبة بالحقوق هو بمثابة العقوق!!

الوسيلة الثالثة هي إلهاء الشعب عن التفكير بالسياسة والمطالبة بالحقوق، وهذا يمكن أن يتحقق بالمشاكل العامة مثل المخاطر الإقليمية المضخمة أو مشاكل أمنية محلية أو خلافات قبلية أو بمشاكل مختلقة قصدا من قبل السلطة. ويمكن أن يكون إلهاء بالمتعة المجردة بوسائل الترفيه الرخيصة التي إضافة للإشغال تساهم في تتفيه الشعب وتسطيح تفكيره وقبوله بالدونية. كما يمكن أن يتحقق بالأمور الحياتية اليومية كالركض وراء الوظائف أو سداد الديون وغلاء المعيشة أو ملاحقة تعقيدات المؤسسات والدوائر الحكومية.

الوسيلة الرابعة هي تغليب الخطاب العاطفي الشعبوي الجماهيري الخالي من المنطق واستبعاد الخطاب العقلي، وهذا كذلك لا يمكن أن يتم إلا باستخدام القوى المذكورة. من نماذج هذا الخطاب تجسيد دور (رب الأسرة) وذلك في سياق تبرير الأوضاع الصعبة وإيهام الشعب بأن البلاد مستهدفة من الجميع وأن المرحلة حرجة والوضع حساس ويتضمن هذا الخطاب ثناء على الحاكم وإشادة بقدراته الهائلة وصفاته الاستثنائية.

الوسيلة الخامسة هي إقناع الشعب أن الأولوية في الحياة هي الأمن وليس الحرية والعدالة والكرامة، وأن المقصود بالأمن هو استقرار السلطة فقط وليس الأمن الجنائي ولا الأمن الفكري. ثم تتدرج القناعات فيصل الحال إلى إقناع الشعب أن الأمن الجنائي هو ذاته أمن الحاكم، وأن الأمن الفكري هو في تقديس الحاكم وقمع من يعترض عليه. ومرة أخرى تستخدم السلطة القوى المذكورة في ترسيخ هذه المعاني فلا يمكن التلاعب بمفهوم الأمن بهذه الطريقة إلا بدعم علماء الدين ورجال الإعلام والمثقفين وشيوخ القبائل والأعيان... الخ.

الوسيلة السادسة هي تضخيم أهمية الحاجات الأساسية الغريزية (الحيوانية) مثل الأكل والشرب والتكاثر على الحقوق البشرية مثل المشاركة السياسية والمحاسبة والشفافية، وأن واجب السلطة لا يزيد عن تمكين الناس من الأكل والشرب والزواج، وإن استطاعت السلطة أن تؤمن أكثر من ذلك فهو فضل منها أو (مكرمة).

الوسيلة السابعة هي إعفاء الحاكم من مسؤوليات مشاكل البلد وتحميلها جهات أو شخصيات أخرى يقوم بتحديدها الحاكم من خلال إعلامه وأدواته، وقد تكون هذه الجهة الشعب نفسه، حيث يجلد الشعب ذاته رضا بالاستبداد.

البطالة مثلا سببها كسل الشباب ورفض الشركات الوطنية تشغيلهم، وأزمة السكن يتحمل مسؤوليتها تجار الأراضي والعقار، والفقر سببه بخل الأغنياء وفشل الجميعات الخيرية، والجريمة والانحلال الأخلاقي سببها سوء تربية الآباء لأبنائهم. أما الفشل في السياسات الكبرى فسببه المؤامرة العالمية ضد البلد والقوى المخربة في الداخل من إرهابيين وحزبيين وإخوان وزوار السفارات…. الخ.

الوسيلة الثامنة هي إقناع الشعب بالصبر والانتظار تجاه أي أزمة كبرى وأن الحلول في الطريق، ثم تبقى هذه الحلول في الطريق إلى أن ينسى الناس المشكلة أو ينشغلوا بمشكلة أخرى. وفيما الناس ينتظرون الحلول وتنسيهم كل مشكلة جديدة مشاكلهم القديمة يمارس النظام المزيد من القمع والفساد والتسلط . ولا يمكن التلاعب بالوجدان الشعبي وإرضاء الجماهير بالتأجيل إلا بعمل متكامل من القوى المذكورة.

الوسيلة التاسعة هي إقناع الشعب أن البديل الوحيد للحاكم هو الفوضى والانفلات الأمني والتفكك وغياب كافة الخدمات الأساسية. ثم يتم تكرار مثل هذا الخطاب بشكل مباشر ظاهر أو بصورة مبطنة على مسامع الشعب حتى يصل الى قناعة مفادها بأنه يتيم بلا هذه السلطة وأن لايوجد شخص ولا مؤسسة ولا حزب ولا جماعة تستطيع أن تضبط الأوضاع في البلد إلا النظام الحالي. والقوى المذكورة تتنافس في تسويق هذا المفهوم حتى يصبح حقيقة غير قابلة للتشكيك.

مقارعة الاستبداد من خلال هذه الخريطة

إذا كانت سلطة المستبد تكمن في هذه القوى المعروفة، وإذا كانت وسائله في التطويع هي تلك الوسائل المحددة فيفترض منطقيا أن تخليص الأمة من استبداده وظلمه هو في تجريده من هذه القوى وقلب هذه الوسائل عليه. وتجريد المستبد من هذه القوى لا يمكن أن يتم إلا بتحقيق عدة مطالب تنطلق من مبدأ مقارعة هذه القوى والوسائل.

المطلب الأول: هو صناعة النخبة البديلة المتصفة بما يؤهلها لمصداقية كافية لمقارعة تلك القوى. وتستطيع هذه النخبة التصدي لقوى السلطة حتى لو كان حجمها صغيرا، لأن قول الحق يضخم مفعولها بشكل كبير ويجعلها مكاِفئة لكل قوى السلطة.

وصناعة النخبة الدينية والفكرية أهم من النخبة العسكرية رغم أهمية الثانية، لأن النقلة الذي تحققها الأولى هي نقلة من الاستبداد للشورى ومن القمع إلى الحرية ومن الظلم إلى العدل والكرامة بينما التغيير الذي تحققه الثانية قد يكون من الاستبداد لاستبداد آخر.

المطلب الثاني: أن تحمل هذه النخبة رسالة واضحة ومنهجا مقنعا وبرنامجا مقبولا، وتتقن لغة الخطاب للشعب بما يعيد الأمور إلى نصابها ويجعل الحق حقا والباطل باطلا. وإذا أتقنت الخطاب فإنها تهزم بسهولة جيوش النظام الفكرية لأن لديها الطرح الذي يستهوي العقول ويأسر القلوب ويهزم الطرح المتكلف الذي لا يعيش إلا تحت بطش الحاكم أو أعطياته.

المطلب الثالث: مطلب عملي وهو كيفية إيصال هذه الرسالة للشعب بما يكافئ أدوات المستبد الإعلامية، فمهما كانت النخبة مؤهلة والمنهج مقنعا والبرنامج جميلا فلا قيمة له إذا لم يصل للمعنيين به، عبر وسائل الإعلام التقليدية أو وسائل الإعلام البديل (مواقع التواصل الاجتماعي).  ويتضاعف دور هذه الوسائل إذا صاحبها إتقان في طريقة إيصالها فتهزم رغم قلة مواردها جيوش السلطة الفكرية والإعلامية.

المطلب الرابع: أن تتمكن النخبة في طرحها من ترميز شخصية أو أكثر خليقة بالقيادة وتنجح في جعلها بديلا يتفوق باقتدار على الحاكم والمحيطين به. وكلما نجحت النخبة في تحقيق ذلك كلما هيأت الوجدان الشعبي للتخلص من عقدة البديل وتحقير صورة المستبد في أذهانهم.

المطلب الخامس: أن تتوفر طليعة من الشعب تكون الأساس في تنفيذ برنامج التغيير وجاهزة لتقديم التضحيات سواء في المعارك الفكرية أو الميدانية. هذه الطليعة لا تتكون من خلال برنامج دعوي أو تأثير فردي بل يفترض أنها تكوين طبيعي كأقلية شعبية تكره الظلم والطغيان والاستبداد وتستقبل رسالة هذه النخبة باهتمام وتطبيق.

الخلاصة أن المستبد لا يستطيع إن يطوع الشعب بذاته ولا بالقمع وحده بل لا بد من أذرع تأثير مختلفة، وأن تطويع الشعب لا يحصل دفعة واحدة بل يمر بعدة مراحل، وأن أفضل طريقة للخلاص من الاستبداد هي في فهم خريطة هذه القوى والوسائل وتناولها طبقا لذلك.