صديقي الذي لم يسمع صوت أمه منذ أربع سنوات

يوسف الدموكي | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

هادئ دائما، يتخلل ضحكه صمت وتفكير بعيد، لا ينتبه أحد في العادة، أو ينتبهون وتنقلب الجلسة إلى مسرح يكون هو الضحية، نقول له كلاما من نوعية "اللي واخد عقلك"، إشارة إلى الفتاة التي رأيناه يسير برفقتها أكثر من مرة، وكان ذلك يسعدني، لأنها بنت عِرقِه، وتشبهه، وربما وجودها بجانبه ووجوده بجانبها سيخفف الوضع على كليهما، ولأن الأسرتين ليستا في الصورة، فشهادة أصحابه ومعلميه ستكفي، ليرتبطا بوثاق كريم.

والأسرتان غير موجودتين، والولد حين يسرح بخياله بعيدا فليس في صديقته التي يحبها ويلتقي بها بعد يومنا الدراسي، وإنما فيما هو أبعد من ذلك بكثير. يفكر الولد في أمه التي ليست بجانبه، وفي أبيه الذي في مكان بعيد عنه جدا، وفي إخوته الذين كبروا في غيابه، أو قل ربما في إخوته الذين وُلدوا في غيابه.

أربع سنوات، وصديقي التركستاني لم ير أهله، لم يصح من نومه على لمسة دافئة على جبهته، تأخذه من موته الصغير إلى حياته الكبيرة، وتقول له: انهض، أذَن الفجر. وتقول له: انهض، حضرت الإفطار. وتقول له: انهض، اشتقت إليك. وتأخذه من سريره إلى حضنها، وتستقبله من جامعته بالحكاية عن إخوته الصغار، وتعد له بعد الغداء كوب شاي خفيف، ولن يكون الشاي صينيا، لأن الشاي الصيني ممزوج بالدم.

الصين منعت أمه من كل هذا، والصين حرمت ولدها من كل هذا، وحين كان صديقي في الثانية عشرة من عمره اعتقلَته وأصدقاءه، لأنها قبضت عليه متلبسا، ليس في بيت دعارة، فهو لم يكن قد بلغ حينها، ولا في حانة خمور، فهو لا يعرف طريقها، ولا في جريمة قتل، فأي سلاح في الدنيا كان أطول منه، وإنما لأنه كان يحفظ القرآن سرا، في سرداب مع أصدقائه، يجتمعون بأوقات معينة يتدارسون ذلك الكتاب غير المسموح به هناك.

اعتُقلوا وكلهم في ذلك العمر، بين التاسعة والثانية عشرة، وسُجنوا عامين، وخرج صديقي يافعا أكثر، مدركا مدى الجُرم الذي كان يتحدث أبوه عنه، وصدق الحكايات التي حكاها له عن البلاد الواسعة لكل أهل الأرض، الضيقة على بعض أهلها.

وخرج الولد من البلد، وهاجر في الخامسة عشرة، وعاش بعيدا أو مبعَدا، لأنه أمل أهله الوحيد في الحياة، ولأنه إرثهم الباقي، ولأن الصغار لن يستطيعوا الهجرة وتحمل مشقة الهروب، ولأنه قد ينجو من القتل على الحدود بنسبة واحد بالمائة، ولأن الصغار لن ينجوا بأي نسبة محتملة، وهاجر الولد والتقينا في صف لدراسة اللغة ببلد أجنبي، وحكى لي قصته.

وسألت نفسي معقول ألا يعرف الإنسان شيئا، أي شيء، عن أهله، منذ سنوات؟ أنا كذلك لم أر أمي منذ سنوات يا صديقي، واعتقلت صغيرا، لكنني أسمع صوت أمي كل يوم، وأراها من بُعد كلما أحببت، وأحكي لها عني فتدرك شيئا من ابنها الذي يكبر بعيدا عن عينها لكنه قريب من سمعها، وقريب من قلبها.

لكن ألا تسمع منك أمك حكاياتك؟ ألا تسمع «عنك» أمك حتى؟ ألا تسمع صوتها كل صباح ومساء؟ ألا تسمع «عنها» أي شيء يقول لك إنها على قيد الحياة؟ إنها في معسكر كذا، رقم كذا، إنها في بيتكم تعد الطعام الصيني لأن الصين تفرض على السكان طبخات معينة، إنها في المطبخ ساهمة، في اللحظة التي أنت ساهم فيها، أنت تدعو لها في سرك، وهي تقف هناك بينما تعد الطعام، تصلي سرا، بعينها، وتسجد عينها، وتتذكرك، وتدعو لك، وتبكي، وينظرون إليها ويضحكون، ولا تنظر إليهم، لأنها الآن في صلاة.

ويجلس صديقي الهادئ دائما، يتخلل ضحكه صمت وتفكير بعيد، لا ينتبه أحد في العادة، أو ينتبهون وتنقلب الجلسة إلى مسرح يكون هو الضحية ، نقول له كلاما من نوعية «اللي واخد عقلك».

ويضحك الفتى، ونضحك، ويجارينا بضحك أكبر، كأنه يزايد علينا في السعادة، وينفجر الفتى، ويبكي بداخله، وتزيد قهقهته بالخارج، ويحسبونه مسرورا، وأنا وحدي أراه، من زاوية أسكن فيها بداخله، يصرخ صراخ المعذبين، يسأل كل الناس بداخله عن أمه، ألم ترها يا أبي؟ ثم أين أنت نفسك يا أبي؟ ألم تروا أبي يا صغار؟ ثم أين أنتم يا إخوتي الصغار؟ ألم تر أسرتي يا جاري؟ ثم أين أنت يا جاري؟ ألم تروا جاري يا أهل الحي؟ ثم أين أنتم يا أهل الحي؟ ألم تروا قريتي يا عالم؟ ثم أين أنت يا عالم؟ ألم تروني؟ ثم أين أنا؟