الإنترنت الفضائي.. انقلاب على استبداد الحكومات في الحجب والرقابة

12

طباعة

مشاركة

بدأ الحديث مؤخرا وبقوة عن مشروع إنترنت فضائي عالي السرعة يغطي الكرة الأرضية بواسطة 12 ألف قمر صناعي، بدأت شرارة انطلاقه بنجاح إيلون ماسك الرئيس التنفيذي لشركتي تيسلا وسبيس إكس، في إرسال أول تغريدة له باستخدام الإنترنت الفضائي، من خلال شبكة أقمار "ستارلينك" الفضائية.

مشروع ستارلينك الجديد بمثابة انقلاب كوني سوف يواجه انقلاب الحكومات المستبدة على حرية تداول المعلومات ويعرقل جهودها في الحجب والقطع والرقابة، ويتمثل ذلك في ثورة معلوماتية تتخطى مزودات الخدمة المحلية الخاضعة لسيطرة الحكومات.

منذ ظهوره في الثمانينات، كان من المأمول أن يتحول الإنترنت إلى أداة اتصال تتيح لمستخدميها حول العالم حرية الوصول إلى المعلومات وتبادلها عبر وسائط التواصل الاجتماعي دون تدخل حكومي. 

إلا أن بعض الدول مثل كوبا وكوريا الشمالية وروسيا والصين، بالإضافة إلى مصر ودول عربية أخرى تخوض مواجهة مع موجات الربيع العربي، رأت فيه تهديدا لأمنها، فانقلبت عليه وواجهته بوضع قيود للحد من قدرة المعارضين على نشر الانتهاكات والاتصال والتنظيم والحشد.

فما هو مشروع ستارلينك، وما إمكانية تحوله إلى واقع، وهل هو تكريس للهيمنة الأمريكية على المعلومات حول العالم، وما تداعياته على تبادل المعلومات في منطقتنا العربية، وما موقف الحكومات القمعية منه؟.

مشروع ستارلينك 

ستارلينك Starlink للإنترنت الفضائي فائق السرعة، هو أحدث مشروعات شركة تقنيات استكشاف الفضاء سبيس إكس SpaceX هي شركة أمريكية متخصصة في هندسة الطيران والرحلات الفضائية، يملكها إيلون ماسك Elon Musk، رجل الأعمال الكندي الحاصل على الجنسية الأمريكية، والرئيس التنفيذي لشركة تيسلا Tesla المتخصصة في صناعة السيارات الكهربائية.

في 23 مايو/ آيار 2019، أطلقت سبيس إكس صاروخا من طراز فالكون Falcon بحمولة غير اعتيادية عبارة عن 60 قمرا صناعيا، من قاعدة كيب كانافيرال الجوية بولاية فلوريدا الأمريكية، وبعد ساعة واحدة من عملية الإطلاق أعلنت سبيس إكس أن نشر الأقمار الصناعية بشبكة ستارلينك تم بنجاح.

هذه العملية تمثل الخطوة الأولى نحو إطلاق حوالي 12000 قمر صناعي تتشكل منها شبكة ستارلينك خلال الأعوام القليلة القادمة، بمدارات قريبة من الأرض تحلق وفق مجموعتين:

تبدأ الأولى بنحو 4400 قمر صناعي على ارتفاع يتراوح بين 550 و 1300 كم، وحصل إيلون ماسك على موافقة من لجنة الاتصالات الفيدرالية (FCC) لإطلاقها.

أما المجموعة الثانية فستكون من حوالي 7500 قمر صناعي، تُحلق على ارتفاع يتراوح بين 335 إلى 346 كم فوق سطح الأرض، لتقديم خدمة إنترنت جديدة من نوعها، تتيح الاتصال الفضائي بالإنترنت بكل بقعة من بقاع الأرض، لقرابة 3.5 مليار شخص على الكوكب لا يمتلكون وصولا إلى خدمة إنترنت مستقرة وسريعة بدرجة تتجاوز أعلى سرعات الاتصال المتوفرة حاليا.

وعبر الأقمار الصناعية تنقل المعلومات بين بعضها البعض بواسطة الليزر، لكون الضوء ينتقل في الفراغ أسرع من انتقاله عبر أي وسيط آخر، كالزجاج المستخدم في كابلات الألياف الضوئية المستخدمة حاليا.

تنافس على المستقبل

 

الإنترنت الفضائي سيشكل مستقبل عالم الاتصالات بتغطيته الكرة الأرضية باتصال ذي جودة أعلى من الاتصال الفضائي التقليدي، لذلك احتدمت المنافسة بين ستارلينك وبقية الشركات العاملة في نفس المجال.

في 28 فبراير/ شباط 2019 أطلقت شركة وان ويب التابعة لشركة إيرباص الأوروبية وسوفت بنك اليابانية، صاروخا يحمل 6 أقمار صناعية إلى الفضاء، من قاعدة في جزيرة غوايانا الفرنسية.

ويتوقع أن تطلق وان ويب صاروخا من نفس النوع كل شهر، يحمل كل منها ما بين 26 إلى 32 قمرا صناعيّا للاتصالات في مدارات حول الأرض، بالإضافة إلى مشاريع مشابهة من تيلي سات الكندية، وليو سات المدعومة بممولين من اليابان وأمريكا اللاتينية، وشركة إيريديوم الأمريكية.

ثمة من يتحدث عن مشاريع مماثلة لدى شركة سامسونغ الكورية الجنوبية أيضا، كما أن لشركة أمازون طموحا أيضا في هذا المضمار، فهي تخطط لإطلاق 3200 قمرا صناعيا فيما يُعرف بـ "مشروع كيبور".

وتتطلع هذه الشركات إلى إطلاق مركبات فضائية في مدار منخفض حول الأرض على ارتفاع أقل من 2000 كم فوق الكوكب، بهدف تسريع اتصالات الإنترنت،(2) عبر تقليص زمن الاستجابة بشكل كبير، وتقليص استهلاك الطاقة في أجهزة الاستقبال، وتقليل حجمها، وتكلفتها.

حسب خبراء تقنيون، فإن التطور التقني والمنافسة سيدفعان إلى تقليص الأسعار، وتحسين الخدمة، لكن الاتصال الفضائي قد لا يؤدي إلى استبدال شبكات الاتصالات التقليدية، وإن كان من المؤكد أنه  سيسهم في سد ثغراتها وتحسين أدائها، كما سيوفر الإنترنت السريع والرخيص لمن لا يمتلكون وصولا إلى تلك الشبكات أصلا.

وصرح إيلون ماسك سابقا: بأن "حجم طبق الاستقبال سيكون تقريبا بحجم علبة البيتزا، وأضاف: بأنه لا يجب توجيه الصحن بدقة إلى اتجاه معين، كما هو الحال مع أطباق الاستقبال التقليدية، بل يكفي توجيهه بأي زاوية كانت نحو السماء". ما يجعل توفير هذه الخدمة للمنازل والشركات الصغيرة والمتوسطة أمرا في متناول الجميع.

الإطلاق التجاري

أما عن الإطلاق التجاري للخدمة فوفقا للشركة: فإن الخدمة ستتوفر للمستخدمين تدريجيا قبل الانتهاء من إطلاق العدد الكامل المزمع إطلاقه من الأقمار الصناعية، فبحسب إيلون موسك أيضا: "سيتم إطلاق الأقمار الصناعية على دفعات بحيث تحتوي كل دفعة على 60 قمرا صناعيا، والهدف هو إطلاق 1000 إلى 2000 قمر صناعي في العام الواحد.

في البداية لن تكون الخدمة متاحة في جميع المناطق الجغرافية، لكن لو سارت الأمور على ما يرام فقد حددت الشركة منتصف عام 2021 موعدا لتغطية كامل الكرة الأرضية بخدمة ستارلينك.

أما عن تكلفة الاشتراك في هذه الخدمة للمستهلك العادي، فقد تحدث ماسك أكثر من مرة عن: أن "أكبر المستفيدين من الخدمة هم سكان الأماكن الفقيرة، ممن لا يتمتعون بوصول جيد إلى شبكة الإنترنت"، ما يعني أن الأسعار ستكون ملائمة للجميع.

ماسك ألمح: أن "الأسعار قد تختلف من دولة إلى أخرى، بحيث تحظى الدول الفقيرة بالأسعار الأقل". كما أن خدمة ستارلينك ستكون معنية أيضا بتحسين سرعة الاتصال في شبكات الهاتف المحمول الحالية، حيث تستطيع شركات الاتصالات تركيب أطباق استقبال ستارلينك على أبراج بتكلفة متدنية، لكونها لا تحتاج إلى أية تمديدات أرضية، وتوجيه الاتصال الفضائي للمشتركين عبر شبكة المحمول.

رد فعل الحكومات

في عام 2017 نشر موقع Internet World Stats تقريرا حول عدد مستخدمي الإنترنت في العالم العربي، تصدرت مصر القائمة فيما احتلت السعودية المرتبة الثانية وحلت المغرب في المركز الثالث تلتها الجزائر ثم العراق.

ورغم العدد الكبير لمستخدمي الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي في العالم العربي إلا أن الكثير من الدول العربية تحتل مراكز متأخرة جدا فيما يتعلق بحرية الإنترنت.

الآن وبعد أن أصبح مشروع الإنترنت الفضائي حلما للملايين ممن يعانون من صعوبات في الاستفادة من شبكة الإنترنت، كيف ستكون ردة فعل هذه الدول على تلك القفزة التكنولوجية في الاتصالات؟. 

يقول رامي رؤوف الباحث والمتخصص في أمن وتقنية المعلومات، في حوار تليفزيوني: "في هذه الحالة قد تجرم الدولة - أي دولة - حيازة وبيع وتداول الأجهزة المزودة بالخدمة، وينتهي الأمر، أو ستلجأ إلى خيار آخر، الأمر لا يزال يشوبه الغموض".

مضيفا: "هذا المشروع ليس الأول من نوعه، فقد سبق لشركات مثل جوجل وأمازون تقديم هذه الخدمة على نطاق أضيق، وكانت مصر من بين الدول التي منعتها بسبب رفض الشركات إطلاع الحكومة على بيانات مستخدمي الخدمة".

أيضا في عام 2006 أصدرت منظمة مراسلون بلا حدود قائمة تضم 13 دولة من بينها السعودية وصفهم التقرير بـ"أعداء الإنترنت"، ورغم ذلك أصدرت السعودية قانون "الجريمة الإلكترونية" عام 2007 لتستخدمه في إسكات المعارضين.

وفي عام 2015 نشرت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان تقريرا رتبت فيه الدول العربية وفق سقف حرية الإنترنت، احتلت فيه تونس المركز الأول، فيما حلت العراق في المركز الخامس ومصر في المركز السادس والسعودية في المركز الثامن عشر والسودان في المركز التاسع عشر.

مجيء مصر في المركز السادس أمر طبيعي ومنطقي بعد إقرارها قانون "مكافحة جرائم الإنترنت" عام 2018، والذي ينص على 29 عقوبة تتراوح بين السجن من 3 شهور وحتى 5 سنوات، والغرامة التي تبدأ بـ 10 آلاف جنيه وحتى 20 مليون جنيها.

تحدي اقتصادي

أما عن التحدي الاقتصادي الذي يمثله مشروع الإنترنت الفضائي لسوق الاتصالات محليا ودوليا، فيرى خالد الخليفي، الخبير التونسي في مجال الإنترنت في تصريحات تليفزيوينة: أنه "لو تحقق المشروع فمن المتوقع أن يكون له تأثير كبير على سوق الاتصالات في العالم، وسينهي حياة مئات الشركات العملاقة والتكنولوجيات الجديدة، وسيمكن مئات الملايين في المناطق النائية من الإبحار في شبكة الانترنت".

ويضيف الخليفي: "أن مشروعا كهذا قد يطرح سؤالا جوهريا وهو: "هل سيكون ذلك بديلا للتقنيات المتوفرة حاليا، أم سيعتمد عليها في توصيل الخدمات للمستخدمين؟ هنا ستكون المعركة الكبرى لأنها بالأساس اقتصادية ومالية".

ويعود رامي رؤوف ليؤكد: أن "ستار لينك سيتنزع من الدولة جانبا كبيرا للغاية من سلطويتها على الإنترنت، وسيصعب على الحكومات أن تمارس أي تدخل أو رقابة على أمر هو في الفضاء المطلق، ولن يكون لها أي صفة قانونية أو جوهرية في تقنين هذا النوع من الإنترنت".

مختتما حديثه بالقول: "إذا تمكنت الشعوب العربية من الوصول إلى إنترنت حر ومفتوح، فإن هناك نهضة اقتصادية ستحدث بناء على النهضة المعلوماتية، ففي المجتمعات القائمة على فكرة النفاذ إلى المعرفة، فإن أكبر مجالين يشهدان نهضة حقيقية ويحدث فيهما انتعاش كبير هما الصحة والاقتصاد".

الرأي نفسه يتبناه الخليفي، فيرى: أن "العالم العربي سيستفيد كمستهلك كبير للتكنولوجيا من هذا المشروع الذي سيسمح للأفراد باستعمال الإنترنت المجاني في كل أوجه الحياة"، مؤكدا على: أن "حرية الإبحار في الإنترنت إذا أتيحت في العالم العربي فستشكل ثورة ثقافية واجتماعية في مجتمعات مازالت ترزح تحت وطأة الحجب والتضييق على حرية التعبير".

أما كريستوفر نيومان، أستاذ سياسات وقانون الفضاء في جامعة نورث أمبريا البريطانية، فيقول لـ"بي بي سي": "إن إطلاق كل تلك الأقمار بشكل فعلي وتشغيلها، سيغير سوق العمل على الأرض على نحو جذري".

الهيمنة الأمريكية

رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية هي المتحكم الفعلي في شبكة الإنترنت، لكن بعض الحكومات ما زالت قادرة على فرض القيود على الإنترنت، سواء من خلال منعها بعض المواقع المناوئة لها، أو بواسطة برامج التجسس والمراقبة التي تحد من خصوصية المواطنين، أو عبر التهديد بفرض عقوبات من نوع ما على شركات تزويد الخدمة.

في عام 2005، نفذت شركة ياهوو أمرا من السلطات الصينية بالإفصاح عن هوية مواطن صيني استعان بخدمة ياهوو لإرسال رسالة إلكترونية عن الذكرى السنوية لمذبحة ساحة تيانانمن إلى إحدى المنظمات بالولايات المتحدة، الأمر الذي أسفر عن القبض على صحفي يدعى شاي تاو واعتقاله.

تاريخيا، شبكة الإنترنت وليدة الأراضي الأمريكية، وتقنيا، البنية التحتية للفضاء الإلكتروني والبروتوكولات الرقمية وضعها علماء التكنولوجيا الأمريكيون الذين كانوا يعملون ضمن طاقم وكالة مشاريع البحوث المتقدمة التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية في بداية ستينيات القرن الماضي.

أما الخوادم الرئيسية فيوجد 10 خوادم عملاقة من أصل 13 بالولايات المتحدة، في حين يوجد واحد في كل من أمستردام واستكهولم وطوكيو. لذا تنظر واشنطن لأي تحد لشكل وبنية نظام الإنترنت في وضعه الحالي الذي يضمن لها السيطرة عليه لأجل غير مسمى، على أنه تعد على واحدة من المصالح الحيوية الأمريكية.

جميع اللاعبين في النظام الدولي، سواء أكانوا دولا أو منظمات دولية، أو شركات عابرة للحدود، أو حتى أفرادا، متفقون على ضرورة الحفاظ على شبكة الإنترنت آمنة ومستقرة، إلا أن دولا مؤثرة بالنظام الدولي، كالصين وروسيا، تتذمر من هيمنة واشنطن عليها، وتدعو إلى ضرورة عقد اتفاقية متعددة الأطراف تضمن حقوق الجميع بشكل متساو.

ومن أجل تحقيق هذا الهدف قامت الأمم المتحدة بعقد القمة العالمية لمجتمع المعلومات على دورتين، في جنيف عام 2003 وفي تونس عام 2005، إلا أنهما لم تتمخضا عن نتيجة حقيقية على شكل اتفاقية ملزمة للجميع حتى الآن، ما يعني احتفاظ الولايات المتحدة باليد الطولى في السيطرة على الشبكة العنكبوتية العالمية.

ففي عالم تسوده التكنولوجيا الرقمية لم تعد الهيمنة مقتصرة على امتلاك أدوات القوة الصلبة وحسب، بل تعداه ليشمل السيطرة على آليات إنتاج البيانات وتدفقها.